الاقتصادُ العالمي الذي صَنَعَتهُ أميركا… بدأ يَبتَلِعُها!
كابي طبراني*
حين أعلنت واشنطن عن “اتفاقٍ إطاري” مع الصين في حزيران (يونيو) الفائت، مرّ الخبر بهدوءٍ في العناوين، لكنّ معناه كان أعمق بكثير مما بدا. فالاتفاقُ لم يَكُن مجرّدَ تسويةٍ تجارية عابرة، بل إشارة إلى تحوّلٍ كبير في النظام الاقتصادي العالمي. الولايات المتحدة، التي طالما استخدمت أدوات الاقتصاد والتكنولوجيا سلاحًا لتحقيق النفوذ، بدأت تكتشفُ اليوم طعمَ ما كانت تُذيقُهُ لغيرها. لقد دخل العالمُ حقبةً جديدة يُمكِنُ وصفها بـ”الترابط المُسَلَّح”، حيث لم تَعُد سلاسل التوريد والتجارة والتقنية جسورًا للتعاون، بل جبهاتٍ للمواجهة الاستراتيجية.
على مدى عقود، اعتمدت واشنطن على قوّتها الاقتصادية كبديلٍ من القوة العسكرية. فرضت العقوبات على خصومها، وحاصرت المصارف الخارجة عن منظومة الدولار، واستعملت شركاتها التكنولوجية العملاقة لمدّ نفوذها في كلِّ زاويةٍ من العالم. كانت تلك الأدوات فعّالة لسنوات، لكنها انقلبت اليوم إلى نقاطِ ضعفٍ مكشوفة. فمع صعودِ قوى أخرى كالصين، باتت الولايات المتحدة تجدُ نفسها محاصَرة داخل النظام نفسه الذي صنعته.
الاتفاقُ الأخير مع بكين مثالٌ صارخ على هذا التحوّل. فقد اضطرّت إدارة دونالد ترامب إلى تخفيف القيود المفروضة على تصدير أشباه الموصلات إلى الصين مقابل حصولها على معادن “الأراضي النادرة” التي تحتاجها صناعاتها المُتقدِّمة، من السيارات الكهربائية إلى الأسلحة الذكية. إنه اعترافٌ صريحٌ بالاعتمادِ على الخصم. وزير الخارجية ماركو روبيو وصف الأمر بأنه “تحدٍ جديد للقرن الحالي”، لأن القاعدة الصناعية الأميركية باتت مُرتَبِطة بسلاسل توريدٍ يُسيطرُ عليها خصومٌ محتملون.
لم يأتِ هذا النفوذ الصيني مصادفة. فبكين تعلّمت الدرس من واشنطن نفسها. عندما فرضت الولايات المتحدة عقوباتٍ على شركة “هواوي” وهدّدت بقطع الإمدادات عن شركة التكنولوجيا “زد تي إي” (ZTE)، أدركت الصين أنّ مَن يُسيطرُ على مفاتيح التكنولوجيا يملك سلاحًا لا يقلّ فتكًا عن الصواريخ. ومنذ ذلك الحين شرعت في بناءِ منظومةٍ متكاملة لتأمين استقلالها التكنولوجي، خصوصًا في مجال استخراج ومعالجة معادن الأراضي النادرة. كما أنشأت جهازًا بيروقراطيًا على غرار نظام الرقابة الأميركي على الصادرات، يمنحها القدرة على استخدام هذه الموارد كورقةِ ضغطٍ سياسية واقتصادية.
وحين فرضت الصين أخيرًا قيودًا على تصدير بعض التقنيات المزدوجة الاستخدام، وجدت الشركات الأميركية والأوروبية نفسها مُجبَرَة على التفاوض من موقع ضعف. إنها النسخة المعكوسة تمامًا من السياسة التي اتبعتها واشنطن طوال العقدين الماضيين. لقد أتقن التلميذ قواعد اللعبة التي وضعها المعلّم.
أما أوروبا، فتقف في موقعٍ مُلتبس بين العملاقين. تمتلك القارة العجوز مقوّمات قوةٍ اقتصادية هائلة—من نظام التحويلات المالية “سويفت” إلى شركات التكنولوجيا العملاقة مثل “إي أس أم أل” (ASML) و”ساب” (SAP)—لكنها تفتقر إلى الإرادة والمؤسّسات التي تُمَكّنها من تحويل هذه الأدوات إلى نفوذٍ سياسي فعّال. الاتحاد الأوروبي يتحدّث عن “الاستقلال الاستراتيجي”، لكنه ما زال يعتمد على المظلّة الأمنية الأميركية، فيما تُفرِّقه المصالح التجارية الداخلية. حتى “أداة مكافحة الإكراه” التي أعلنها لمواجهة الضغوط الاقتصادية من الصين أو الولايات المتحدة، بقيت حبرًا على ورق بسبب البيروقراطية والانقسام. وهكذا يجد الأوروبيون أنفسهم عاجزين عن الدفاع عن شركاتهم أو رسم قواعد اللعبة الجديدة، وكأنهم ساحة صراع بين الآخرين.
لكن الخطر الأكبر لا يأتي من الخارج، بل من الداخل الأميركي نفسه. فالإدارة الأميركية الحالية أضعفت المؤسّسات التي شكّلت على مدى عقود العمود الفقري للنفوذ الاقتصادي الأميركي. مكاتب رئيسة مثل مكتب مراقبة الأصول الأجنبية في وزارة الخزانة، أو مكتب الأمن الصناعي في وزارة التجارة، باتت تعاني نقصًا في التمويل والكفاءات. أما مجلس الأمن القومي، الذي كان يُنسّقُ سياسات الأمن والاقتصاد، فقد تقلّص إلى نصف حجمه تقريبًا. القرارات الكبرى باتت تُتَّخذ في دوائر ضيقة محكومة بالمزاج السياسي لا بالحساب الاستراتيجي.
هذا التفكُّك المؤسّسي يُعَدُّ ضربًا من الانتحار البطيء. ففي زمن الحرب الباردة، أنشأت الولايات المتحدة أجهزةً ضخمة لإدارة الردع النووي وتجنّب الكارثة. واليوم، في عصر “الترابط المُسَلَّح”، تحتاج إلى منظومةٍ مُماثلة من الخبراء القادرين على فهم سلاسل الإمداد والتكنولوجيا والتشابكات المالية المُعقّدة. غير أنّ واشنطن تُفكّكُ هذه البنية في اللحظة التي تصبح فيها الحاجة إليها أكثر إلحاحًا. والنتيجة أنّ الحلفاء باتوا يشكّكون في مصداقيتها، والشركات الأميركية في الخارج تواجه انتقامًا من دولٍ أخرى، وحتى القضاء الأميركي بدأ يحدّ من صلاحيات السلطة التنفيذية في فرض القيود والعقوبات.
المفارقة الكبرى أنّ الولايات المتحدة، وهي التي حوّلت الترابط الاقتصادي إلى أداةٍ للهيمنة، تُسهم اليوم في تفكيك النظام الذي منحها هذه القوة. ما يُعرف بـ”المنظومة الأميركية”—شبكة المؤسّسات والتقنيات التي ارتكزت إليها هيمنة الدولار والإنترنت الأميركي—كان يقوم على الثقة والانفتاح. أما الآن، فقد تحوّلَ إلى ساحةٍ للابتزازِ المُتبادَل. حين يصبح الإكراه قاعدة، تتلاشى الثقة. وها هي الدول تتجه إلى بناء بدائل: من “اليوان الرقمي” الصيني إلى مشروع “يوروستاك” (EuroStack) الأوروبي وشبكات الدفع الإقليمية المستقلة. العالم يتشظّى بسرعة، كما حذّر وزير الخزانة الأميركي الأسبق لاري سامَرز حين قال إنّ هناك “قبولًا متزايدًا بفكرة التجزئة، والأخطر أنَّ البعض لم يَعُد يرى فينا الجزء الأفضل من المنظومة”.
ما زالَ أمام الولايات المتحدة خيار. يمكنها الاستمرار في طريق الانحدار القسري، تلهثُ وراء مكاسب سياسية قصيرة الأمد، أو أن تُعيدَ بناءَ ركائز قوّتها الحقيقية: مؤسّساتها، وخبرتها، وقدرتها على العمل مع الحلفاء لا ضدهم. المطلوب ليس التخلّي عن النفوذ، بل ترشيده، ووضع حدودٍ واضحة لاستخدام الأدوات الاقتصادية كسلاح. فكما أدركت أميركا في ذروة الحرب الباردة أنّ الردعَ يحتاجُ إلى اتفاقات ضبط تسلّح، عليها اليوم أن تفهم أنّ “الترابط المُسَلَّح” يحتاج إلى قواعد تَكبح الانفجار.
لقد وعدت العولمة العالم بالترابط عبر الأسواق، لكنها أنتجت مواجهة عبر الاختناقات. والسؤال الآن: هل ستستطيع الولايات المتحدة التكيّف مع هذه الحقيقة الجديدة، أم ستصبح الضحية التالية للسلاح الذي صنعته بيديها؟
- كابي طبراني هو ناشر ورئيس تحرير مجلة وموقع “أسواق العرب” الصادرَين من لندن. ألّف خمسة كتب بالعربية والإنكليزية من بينها “شتاء الغضب في الخليج” (1991)، “الصراع الإسرائيلي-الفلسطيني: من وعد بلفور إلى إعلان بوش” (2008)؛ “كيف تُخطّط إيران لمواجهة أميركا والهَيمَنة على الشرق الأوسط” (2008)؛ و”معاقل الجهاد الجديدة: لماذا فشل الغرب في احتواء الأصولية الإسلامية”، (2011). يُمكن متابعته عبر موقعه الإلكتروني: gabarielgtabarani.com أو عبر منصة “إكس” على: @GabyTabarani