كَيفَ تُقَوِّضُ الحكومةُ السوريّة الجديدة حُكمَها؟

وضعَ اختباران عنيفان كبيران في أنحاء سوريا قدرةَ الحكومة المؤقّتة على حفظ الأمن موضعَ شكّ، وكشفا عن ضعفها. وإذا لم تُعزّز دمشق قدراتها، فستتآكل شرعيتها أكثر فأكثر، ما يهدّد بانهيار الدولة.

مقاتلون من العشائر والبدو ينتشرون في الحي الغربي من مدينة السويداء ذات الأغلبية الدرزية في جنوب سوريا، وسط اشتباكات مع مسلحين دروز في 19 تموز/يوليو 2025.

روب جيست بينفولد وحسام حمود*

شكّلَ العنفُ الأخير في محافظة السويداء السورية التحدّي الأكبر لسلطة الحكومة المؤقّتة وشرعيّتها منذ سقوط نظام بشار الأسد في كانون الأول (ديسمبر) الماضي.

بدأ الأمرُ بجريمةٍ بسيطة، حين زُعِمَ أنّ عصابةً من البدو خطفت تاجرًا درزيًا. لم تَكُن الحادثة جديدةً، إذ شهدت السويداء على مدى العقد الفائت حوادثَ خطفٍ مُماثلة ومتعدّدة، وعنفًا مُتبادَلًا بين جماعاتٍ بدوية ودرزية.

أمّا الصراعُ الذي تلا الحادثة، فقد مثّل سابقة جديدة من حيث مستوى العنف، إذ قُتل أكثر من 1,100 شخص، ونزحَ ما يصل إلى 93,000 آخرين. وفي الوقت نفسه، انهارَ اتفاقُ التهدئة الهشّ بين إسرائيل وسوريا. فقد شنّت القوّات الجوّية الإسرائيلية، في تدخُّلٍ غير مسبوق، غاراتٍ قتلت العشرات من عناصر جهاز الأمن العام الحكومي في السويداء، ثم صعّدت أكثر بقصف مبانٍ حكومية في دمشق.

تُشبِهُ هذه الأحداث، من نواحٍ كثيرة، إعادة مأساوية للعنف الذي شهدته المناطق الساحلية السورية في آذار (مارس) 2025، حيث قتلت ميليشيات إسلامية متشددة موالية للحكومة ما لا يقل عن 1,426 شخصًا، معظمهم من العلويين. وفي كلتا الحالتين، تطوّرت الاشتباكات المحلّية سريعًا إلى مواجهاتٍ أوسع، مع دخولِ أطرافٍ مُتعدّدة إلى ساحة الصراع، لتتحوّل إلى مذابح طائفية أثارت الرعب داخل سوريا وخارجها.

سواء في اللاذقية أو السويداء، كان عجزُ دمشق عن فرض سلطتها هو ما أدّى إلى فراغٍ في السلطة المحلّية، سرعان ما ملأته ميليشيات طائفية. ففي آذار (مارس) الماضي، تمكّنت بقايا القوّات الموالية للأسد من التغلب على ما تبقى من عناصر جهاز الأمن العام في اللاذقية، فوجّهت دمشق نداء استغاثة استجاب له نحو 200,000 مقاتل من مختلف أنحاء سوريا، شكّلوا مجموعةً غير متجانسة شملت قوات من جهاز الأمن العام إلى جانبِ طيفٍ واسع من الميليشيات الأخرى. أمّا في تموز (يوليو) الماضي، وبعد انسحاب قوات جهاز الأمن العام من السويداء نتيجة الضربات الإسرائيلية، ملأت ميليشيات البدو الفراغ. ولا يزال من غير الواضح ما إذا كانت هذه الميليشيات تتحرّك بتعليماتٍ من دمشق، ولكن يوحي وصولها ضمن أرتالٍ عسكرية من مختلف أنحاء البلاد بدرجة مُعَيّنة من التنسيق.

وفي كلتا الحالتين، لم تستطع دمشق منعَ هذه المجموعات، التي تعمل خارج نطاق سيطرتها، من تنفيذِ أعمالِ انتقامٍ طائفي استهدفت العلويين والدروز المحلّيين.

وتُبيِّنُ هذه الأحداث المأساوية لماذا تحتاج سوريا إلى حكومةٍ مركزية قوّية وفاعلة. فقد تمتّعت اللاذقية والسويداء بدرجةٍ كبيرة من الحكم الذاتي، وهو إرثٌ خلّفتهُ حقبةُ الحرب الأهلية، حين وجد نظام الأسد المُنهَك نفسه عاجزًا عن حُكمِ البلاد بأكملها. ونتيجةً لذلك، فوّضَ النظامُ في حينه سلطاته إلى وجهاءٍ محلّيين أعلنوا ولاءهم له، مع تجنّبهم في الغالب أسوأ مظاهر تسلّطه الشمولي.

وحقيقةُ أنَّ العنفَ في السويداء بدأ بجريمة خطف تُظهِرُ أنَّ هذا النظام المحلّي ظلَّ فعّالًا إلى حين توقّفه عن العمل وعجزه عن منع حدوث موجات العنف. وبدلًا من اللجوء إلى الدولة، اعتمد الضحية الدرزي على ميليشياتٍ من طائفته لملاحقة الجناة وتحقيق العدالة. وكانت النتيجةُ سلسلةً من عمليات القتل الانتقامية المتبادلة، التي تصاعدت إلى عنف طائفي واسع النطاق. وبالمثل، ففي آذار (مارس) الماضي، لو كانت هناك حاميةٌ كافية ومُنَظَّمة من جهاز الأمن العام في اللاذقية، لكان بإمكان دمشق أن تتجنّبَ الاعتمادَ على ميليشياتٍ طائفية مُتَشَدِّدة خارجة عن مؤسّسات الدولة لمُواجَهة التحدّي لسلطتها. وكما أظهرت الحالتان، فإنَّ غيابَ كوادر منضبطة خاضعة لقيادةٍ مركزية، يعني أنّ قرارَ التصعيدِ واستخدامَ القوة قد يؤدّي إلى نتائج كارثية. فليس الضحايا وحدهم مَن يَدفعُ الثمن، بل تفقُدُ الحكومة السورية مصداقيتها، ويزداد التوتّر الطائفي، وتتعثّر عملية الانتقال السياسي في البلاد.

من ناحية أخرى، يجب على أيِّ حكومةٍ مركزية قوية أن تكونَ أيضًا شاملة لجميع مُكوّنات المجتمع. وليس هذا الأمر غايةً أخلاقية فحسب، بل ضرورةٌ عملية. لا تمتلكُ دمشق ما يكفي من الجنود لفَرضِ الحكم بالقوّة وحدها، بل عليها أن “تكسَبَ تأييد السوريين باللين والمعاملة الحسنة عوضًا عن أخذهم بالقوة”، أيّ أن تبني دولة يرى معظم السوريين أنها شرعية وتمثّل مصالحهم. ولهذا السبب كان من الصواب أن تنشرَ الحكومة نتائج لجنة التحقيق في مجازر آذار (مارس) الماضي نشرًا كاملًا، ولو بعدَ تأخيرٍ استمرَّ ثلاثة أشهر. غير أنّ اللجنة، على الرُغم من تقديمها إحصائية بأعداد الضحايا، لم تُسمِّ الجناة، كما قلّلت من الطابع المنهجي للجرائم بوصفها “غير منظّمة”.

لكن يُشيرُ سلوك الحكومة في السويداء إلى أنّ جهودها ستظلُّ قاصرةً عن إنتاجِ شرعيةٍ تقومُ على مبادئ الشفافية والمشاركة الواسعة. لا تفتقر دمشق إلى السيطرة على خصومها فحسب، بل حتى على قوّاتها الأمنية.

وقد بدا هذا العجزُ أكثر وضوحًا في تموز (يوليو) بالمقارنة مع آذار (مارس). ففي الحالة الأولى، كان بإمكان الحكومة أن تَزعَمَ أنَّ أسوأ الجرائم ارتكبتها ميليشيات خارجة عن سيطرتها. أمّا في تموز (يوليو)، فقد أصبح هذا العذرُ واهيًا. صحيحٌ أنَّ ميليشيات البدو ارتكبت فظائع بعد انسحاب قوّات الأمن من السويداء، لكن تُشيرُ الأدلة المتزايدة إلى أنّ عناصر جهاز الأمن العام كانوا الأسوأ ارتكابًا للفظائع.

وبالتالي، تبدو الدولة وقوّاتها الأمنية في نظر الأقليات السورية عكسَ ما تدّعي أنّها ليست عليه، أيّ أنّها حشدٌ سنّي عربي مُتشدّد في لباسٍ مؤسّسي. ومن حسن الحظ أنّه لا توجدُ أدلّةٌ موثوقة حتى الآن تشيرُ إلى أنّ الحكومة أمرت بارتكابِ هذه الفظائع. لكن لا تتماشى إدانة الرئيس أحمد الشرع لها مع اتجاهٍ مقلق، إذ كلّما زادَ انتشار قوّات الأمن في منطقة ما، زاد معه احتمال حدوث تجاوزات وسفك دماء طائفي. وهذا يعزّز المخاوف القائمة من أنّ الأجهزة الأمنية الحكومية ليست سوى نسخة مُعاد تسميتها من “هيئة تحرير الشام”، الجماعة الجهادية العنيفة السابقة التي باتت اليوم تملك السلطة الفعلية في سوريا.

وفي تطوّرٍ زاد الطين بلّة، هاجمت مجموعةٌ موالية للحكومة في 18 تموز (يوليو) الماضي، وكان من بينهم شرطي واحد على الأقل بالزي الرسمي، تظاهرة سلمية مُناهضة للعنف. وأن يقع هذا الهجوم في دمشق بالذات، يعكسُ أنّ أحداث السويداء ستتردّد أصداؤها إلى ما يتجاوز حدود المحافظة. وعلى الرُغم من أنّ التظاهرة جرت أمام مبنى البرلمان، الذي لا يزال خاليًا من النواب بسبب تأخّر تعيينهم، لم تُبدِ الحكومة أيَّ قدرةٍ أو رغبةٍ في مواجهة هذا التحدّي الجديد لمزاعمها بأنّها، حسب تعبير الشرع، “تحكُمُ باسمِ جميع السوريين”. وبالمثل، لا يمكن لإشادة الشرع العلنية بالعشائر البدوية التي انتشرت في السويداء إلّا أن تزيدَ حدة التوتّرات مع أبناء الطائفة الدرزية، الذين يشعرون بأنّهم تحت الحصار أكثر من أيّ وقت مضى.

وهذه ليست مجرّد مسألة تتعلّق بالكفاءة أو الحُكم، بل باتت مسألة أمن قومي. سوريا بلدٌ يعجّ بالأسلحة والميليشيات. ولهذا السبب، سعت دمشق عن حقّ إلى نزع سلاح الميليشيات المختلفة أو دمجها تحت مظلة الدولة.

لكنّها فشلت أيضًا في هذا المسعى. إذ أعادت الكثير من الميليشيات “تغيير أعلامها”، وأعلنت الولاء للحكومة شكليًا، مع الاحتفاظ بهياكلها القيادية والتنظيمية المستقلة. وبالمثل، فإنّ عددًا من قادة الميليشيات السابقين الذين رقّاهم الشرع إلى رتب جنرالات، مثل محمد جاسم، يخضعون لعقوبات دولية لدورهم في مجازر الساحل في آذار (مارس) 2025.

وصَعّبت الإجراءاتُ اللاحقة لجهاز الأمن العام في السويداء حتى الاندماج السطحي للميليشيات الدرزية في المحافظة. وقد انقلب عدد من الذين كانوا يتفاوضون مع الحكومة على جهاز الأمن العام وقاتلوه. ومن غير المرجح أن تزدادَ احتمالية تفكك هذه المجموعات الآن. وإذا كان من المفترض أن يؤدّي استعراض الحكومة للقوة في السويداء إلى هذه النتيجة، كما جادل بعض المعلقين، فقد يكون له تأثيرٌ مُعاكس.

وهذا سيكون له تداعيات خطيرة في أماكن أخرى. ففي آذار (مارس) الماضي، أعلن الشرع عن التوصّل إلى اتفاقٍ مع “قوات سوريا الديموقراطية” (قسد) بقيادة الأكراد، ينصّ على دمج نحو ثلث مساحة البلاد التي تسيطر عليها “قسد” ضمن إدارة الحكومة المركزية. وعلى الرُغم من الحماسة الأولية، سرعان ما تعثّرت المحادثات. ويمكن الآن للتيّار المتشدّد داخل “قسد” أن يقول: “إنّ ما حدث في السويداء، وجرائم الحرب التي ارتكبها جهاز الأمن العام، تؤكّد صواب موقفهم الرافض لنزع السلاح أو تقاسم السلطة”. فإذا كانت الحكومة عاجزة عن ممارسة سيادتها على المناطق التي تدّعي بالفعل السيطرة عليها، فكيف يمكنها أن تدّعي ادّعاءً مقنعًا بأنّها قادرة ومستعدّة لضمّ أراضٍ وسكان إضافيين تحت إدارتها؟

كما مهّدت أحداث السويداء الطريق لمزيدٍ من التدخّل الخارجي. فقد استغلّت إسرائيل عنف اللاذقية في آذار (مارس) الماضي لتبرير نهجها القائم على استخدام القوة تجاه الحكومة السورية الجديدة. وبالمثل، ومع اتضاح حجم العنف في السويداء، ادّعت إسرائيل أنّ تدخّلها حالَ دون ارتكاب جهاز الأمن العام لمجزرة بحق الدروز شبيهة بتلك التي ارتُكبت بحق العلويين.

على العكس تمامًا، فاقمت تصرّفات إسرائيل وضعًا سَيِّئًا أساسًا. فلم تقتصر غاراتها على قتل عناصر من جهاز الأمن العام فحسب، بل غذّى ادعاءها حماية الدروز مخاوف سُنية زائفة، لكنّها آخذة في الانتشار، مفادها أنّ الطائفة الدرزية تُشكّل “طابورًا خامسًا” في الداخل السوري. أمّا الهجمات الإسرائيلية على المباني الحكومية في دمشق، فقد جعلت إدارة الشرع تبدو وكأنّها نمرٌ من ورق. وليس ذلك فحسب، بل عزّز انسحاب قوات جهاز الأمن العام من السويداء بسبب الغارات الجوية الإسرائيلية صورة الحكومة بوصفها تمارس سيادة قانونية لا فعلية. وكما سلّم الأسد السيادة الجوّية في سوريا لروسيا، تُرك الشرع بلا حول ولا قوة بينما فعلت إسرائيل الأمر ذاته.

وبالنتيجة ستواجه الحكومة السورية صعوبة متزايدة في معالجة ضعفها البنيوي المزمن وفي إقناع الميليشيات في البلاد بحلّ نفسها أو الاندماج ضمن مؤسّسات الدولة، وهو ما تسبّب في اندلاع موجات العنف التي شهدتها البلاد في آذار (مارس) وتموز (يوليو) الماضيين. ومن ثمّ، فإنّ فصولَ الفوضى قد تتوالى من دون انقطاع، إذن. وهذا هو بالضبط الهدف المُعلن لإسرائيل في سوريا، فقد دعا وزير المالية الإسرائيلي بتسلئيل سموتريتش صراحةً إلى “تفكيك” الدولة السورية، وهذا هو الدافع الحقيقي وراء تدخّلات إسرائيل المتكرّرة والمتزايدة دموية داخل سوريا منذ كانون الأول (ديسمبر) 2024.

ولكي تتجاوز دمشق هذه الحلقة المفرغة من الضعف المؤسّسي وانعدام الثقة الطائفي والتهديد بانهيار الدولة، عليها أن تبني قوّتها إلى جانب ترسيخ شرعيتها لدى مختلف المكوّنات الإثنية والدينية في البلاد. ويُظهر العنف في اللاذقية أنّ المشكلة الأساسية في الحوكمة التي تواجه سوريا اليوم لا تتمثّل في خطر تحوّلها إلى “دولة جهادية”، بل في بقائها دولة ضعيفة وهشة. أمّا أحداث السويداء، فتكشف أنّ استخدام القوة من دون شرعيةٍ لا يؤدّي إلّا إلى نتائج عكسية. وقد يكون تحقيق هذا التوازن أمرًا بالغ الصعوبة، لكنّه السبيل الوحيد لبناء سوريا أفضل.

  • روب جيست بينفولد هو محاضر في الأمن الدولي في قسم دراسات الدفاع في جامعة كينغز لندن. وهو باحث زميل في مركز أبحاث السلام في براغ، وأستاذ مساعد في جامعة جونز هوبكنز. يُعدّ روب باحثًا متخصّصًا في الإستراتيجية الكبرى، وتركّز بحوثه على قضايا الحرب والصراع في الشرق الأوسط المعاصر.
  • حسام حمود هو صحافي استقصائيّ سوري من مدينة الرقة، وقد كرّس جهوده لتوثيق جرائم الحرب وشبكات الجهاديين وانتهاكات حقوق الإنسان في أرجاء سوريا منذ اندلاع الثورة في عام 2011. وقد نشر تحقيقاته وتقاريره في عدد من المنصّات الصحافية المرموقة، من بينها صحيفة “نيويورك تايمز”، ومحطة “بي بي سي” (BBC).

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى