سِعرُ الخبز وكلفةُ الثقة

كابي طبراني*

على مدى عقودٍ طويلة، اشترى حكّامُ الشرق الأوسط وشمال أفريقيا السلامَ الاجتماعي برغيفِ خبزٍ رخيصٍ وليترِ وقودٍ مدعوم. فالدعمُ، الذي أُدخِلَ بعد الحرب العالمية الثانية كأداةٍ لتَثبيتِ الأسعار، تحوّلَ بمرور الوقت إلى بوليصةِ تأمينٍ سياسيّة — عقدٍ غير مكتوبٍ بين المواطن والدولة. مُقابل المشاركة السياسية المحدودة، تَعِدُ الدولة بحمايته من الجوع والعوز. وقد نجحَ هذا الترتيب، إلى حدٍّ بعيد. لكن الحسابات التي قام عليها بدأت تنهار.

في معظم بلدان الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، ما تزال الإعانات الضخمة تلتهمُ الموازنات. ففي مصر مثلًا، يفوق الإنفاق على الدعم ما يُخَصَّصُ للتعليم أو الصحة. وفي إيران بلغت كلفته أكثر من خُمس الناتج المحلي الإجمالي في بعض السنوات. أما في المغرب، فقد مثّلت نفقاتُ الدعم في العام 2012 نحو 6.6% من الناتج المحلي الإجمالي، أي أكثر مما أُنفِقَ على المدارس والمستشفيات معًا. ويأتي دَعمُ الوقود في مقدمة هذه الأعباء: مُكلِفٌ ماليًا، مُضِرٌّ بالبيئة، وغير عادل اجتماعيًا، إذ يستفيد منه الأثرياء أكثر من الفقراء الذين صُمِّمَ من أجلهم أصلًا.

لطالما شكا الاقتصاديون من أنَّ الدَعمَ يُشوِّهُ الأسواق ويستنزفُ خزائن الدول. ويرى صندوق النقد الدولي والبنك الدولي أنَّ الحلَّ هو استبداله بتحويلاتٍ نقدية مُوَجَّهة للفقراء مباشرة. وعلى الورق، يبدو ذلك منطقيًا: فالتحويلات الدقيقة، متى صُمِّمت وأُديرَت جيدًا، أقل كلفةً وأكثر عدالةً، وتُساعدُ على تحسين الصحة والتعليم. غير أنّ الواقع في المنطقة يُبرهِنُ أنَّ العوائقَ السياسية والمؤسَّسية تفوقُ الحسابات النظرية.

تُقدّمُ التجربة الإيرانية مثالًا تحذيريًا صارخًا. ففي العام 2010، أقدمت طهران على خطوةٍ جريئة: خفّضت دعم الطاقة والخبز وأعلنت دفع مبالغ نقدية لكلِّ أسرة. في البداية، بدا النجاح واضحًا؛ زاد الاستهلاك، تراجع الفقر، وأشاد الخبراء بـ”شجاعة” الإصلاح. لكن سرعان ما انفلت التضخُّم، وتهاوت العملة، وتآكلت القيمة الحقيقية للتحويلات. وبسبب ضعف الإدارة، تحوّلَ البرنامج “المُستَهدِف” إلى شبه شامل، ليُغطّي معظم السكان ويُكلّفُ أكثر من الدعم الذي استُبدِلَ به. ومع منتصف العقد، كان الإصلاح انهار تحت وطأة تناقضاته. وبدل أن يحرّرَ الموارد، فقد ابتلعها.

وفي أماكن أخرى، لا تزال ذكرى اضطرابات الخبز تردعُ الحكومات. فـ”انتفاضة الخبز” في مصر في العام 1977، التي أشعلتها توصيات صندوق النقد الدولي بخفض دعم الغذاء، ما زالت تُطارد صنّاع القرار. والاضطراباتُ المشابهة في تونس والمغرب خلال الثمانينيات الفائتة لا تزالُ حاضرة في الذاكرة الجماعية. وفي بلدانٍ صار فيها الخبز رمزًا سياسيًا، يكاد الاقتراب من سعره يساوي الانتحار السياسي. لذلك تُفضّلُ الحكوماتُ إصلاحاتٍ جُزئية هادئة: تقليصُ دعم الوقود، أو تعديل أسعار الكهرباء، أو تحديد حصّة الأُسرة من الخبز المدعوم. وهي خطواتٌ تُخفّفُ الضغطَ المالي من دون إشعالِ فتيلِ الغضبِ الشعبي.

ومع ذلك، تبدو الأرقام قاتمة. فديون الدول غير النفطية في المنطقة يُتَوَقَّعُ أن تبلغ 77% من الناتج المحلي الإجمالي بحلول نهاية 2025، والعجزُ المالي آخذٌ في الاتساع. أما الصدمات الجيوسياسية الأخيرة —من جائحة كورونا إلى الحرب في أوكرانيا وارتفاع أسعار الغذاء— فقد أعادت تضخيم فاتورة الدعم. في الوقت ذاته، الثقة بالحكومات نادرة: أقل من 40% من المواطنين في الأردن وتونس والمغرب يعبّرون عن قدرٍ معتبر من الثقة في حكوماتهم، وفي لبنان لا تتجاوز النسبة 7%. وفي ظل هذا المناخ، يصعبُ إقناعُ الناس بالتنازل عن الخبز الرخيص مقابل وعودٍ بالإصلاح في المستقبل.

ومع ذلك، يُحاولُ بعضُ الدول. فبرنامجُ “تكافل وكرامة” في مصر يُقدّمُ تحويلاتٍ نقدية لنحو خمسة ملايين أُسرة، تمثّل نصف الفقراء في البلاد. وفي الأردن يُوسّعُ صندوقُ المعونة الوطنية، كما يغطي برنامج “أمان” في تونس أكثر من عُشرِ السكان. وتعمل حكوماتٌ عدة على إنشاء قواعد بيانات مُوحَّدة لتحديد المستحقّين بدقة. كلها خطوات إيجابية، لكنها ما تزال محدودة. فالإنفاق على الحماية الاجتماعية في الدول العربية لا يتجاوز 4.6% من الناتج المحلي الإجمالي، أي أقل كثيرًا من المتوسّط العالمي. التغطية ضعيفة، والعاملون في القطاع غير الرسمي خارج المنظومة، والبنية الرقمية لجمع البيانات ما زالت هشّة. ومن دونِ معلوماتٍ دقيقة وأنظمة دفع شفافة، قد تُعيد التحويلات إنتاج أوجه الخلل نفسها التي وُجِدَت في الدعم.

هنا يُصبحُ التوقيتُ جوهريًا. فنجاحُ الإصلاحِ مرهونٌ بهدوء الاقتصاد وثبات الأسعار وبالثقة العامة. خفضُ الدعم في أوقات التضخّم أو الاضطراب السياسي مغامرة خاسرة. كما يجب أن يرى المواطن ثمارَ التضحيات سريعًا. فحين تُوَجَّهُ وفورات الدعم إلى مدارس ومستشفيات أو وسائل نقل عامة ملموسة، يَسهُل تقبّل الإصلاح. أمّا إن اختفت الأموال في دهاليز البيروقراطية، فسيتحوَّلُ الإصلاح إلى عملية “نزع حقوق” لا “تحديث”.

وتتعلّقُ أولوية الإصلاح بنوع الدعم. فدعمُ الطاقة يجب أن يُستهدَفُ أوّلًا، لأنه أكثر ظلمًا للفقير وأشد ضررًا للبيئة، بينما لا يُثيرُ عادةً الحساسية الشعبية التي تُرافق دعم الخبز. تجارب المغرب وتونس ومصر تشيرُ إلى أنَّ رفعَ الأسعار تدريجًا وبإشعارٍ مُسبَق، مع تعويضٍ مُباشِرٍ للفئات المُتضرِّرة، يُمكنُ أن يمرَّ بدون اضطراباتٍ واسعة. وبعدَ ترسيخِ شبكاتِ أمانٍ اجتماعي فعّالة، يُمكنُ التفكير في إصلاح دعم الغذاء بحذر.

غير أنَّ إصلاحَ الدعم وحده لن يُعيدَ التوازُن المالي. فاقتصادات الشرق الأوسط وشمال أفريقيا ما تزال مثقلة بالمؤسّسات العامة المُتضخِّمة التي تبتلعُ الإعانات وتُعيقُ القطاع الخاص. أنظمةُ الضرائب تعتمدُ في معظمها على الضرائب غير المباشرة، في حين يظلُّ فرضُ ضرائب عادلة على الدخل والثروة ضعيفًا. إصلاحُ هذه المنظومة، وتحسين الامتثال، وإغلاق الثغرات الضريبية، يُمكِنُ أن يُوفّرَ مواردَ تفوق ما يُوفّرهُ تقليص الدعم.

لكنَّ التحدي الأكبر سياسي. فالإعانات لا تدوم لأنَّ الحكومات تجهلُ مبادئ الاقتصاد، بل لأنها تُدرِكُ حقائقَ السياسة. فالخبزُ الرخيص هو آخر خطوط الدفاع عن شرعية السلطة في منطقةٍ محدودة المشاركة السياسية وضعيفة شبكات الأمان. قطعُ هذا الخط بدون بدائل ملموسة يعني المخاطرة بهدم ركيزة الاستقرار. وفي المقابل، استمرارُ الدَعمِ بلا نهاية أمرٌ غير قابلٍ للاستمرار ماليًا.

الطريقُ الواقعي هو التدرُّجُ مع الشفافية: البدءُ بالأكثر كلفةً وتَشويهًا، وتَوجيهُ الوفر نحو برامج نقدية مُدَقَّقة ومُعلَنة النتائج، ونشر الحسابات بانتظام، والامتناع عن الوعود السريعة. الإصلاح، في جوهره، يحتاجُ إلى كسبِ الثقة قبل أن يطلبَ التضحيات.

يعرف قادة المنطقة أنَّ عصرَ الدعم الشامل يقتربُ من نهايته. لكن السؤال الحقيقي هو: هل يمكن تفكيكه من دون تفكيكِ الاستقرار نفسه؟ فالخبزُ قد يكون زهيد الثمن، لكن الثقة باهظة — ومتى فقدتها الدولة، فلن تستطيعَ شراءها مُجَدَّدًا بأيِّ دعم

  • كابي طبراني هو ناشر ورئيس تحرير مجلة وموقع “أسواق العرب” الصادرَين من لندن. ألّف خمسة كتب بالعربية والإنكليزية من بينها “شتاء الغضب في الخليج” (1991)، “الصراع الإسرائيلي-الفلسطيني: من وعد بلفور إلى إعلان بوش” (2008)؛ “كيف تُخطّط إيران لمواجهة أميركا والهَيمَنة على الشرق الأوسط” (2008)؛ و”معاقل الجهاد الجديدة: لماذا فشل الغرب في احتواء الأصولية الإسلامية”، (2011). يُمكن متابعته عبر موقعه الإلكتروني: gabarielgtabarani.com أو عبر منصة “إكس” على:  @GabyTabarani

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى