ما بَعدَ الأنقاض: أوهامُ الإعمارِ وحقيقةُ التعافي في سوريا الجديدة

رُغمَ تبدُّلِ الوجوه وسقوط النظام القديم، ما زال الاقتصاد السوري يدورُ في دائرةٍ مُغلقة بين الشعارات والطموحات. فبين خطاب الإعمار الغائب والتعافي الموعود، تبرزُ معالمُ أزمةٍ أعمق: اقتصادٌ يفتقر إلى الرؤية، ومؤسّساتٌ تبحث عن شرعية في وسط أنقاض دولة لم تُبنَ بعد.

محافظ البنك المركزي عبد القادر حصرية: هناك نية تبنّي إصلاحات لجذب الاستثمار الأجنبي، وإزالة الحواجز التجارية، وتحقيق استقرار نقدي، وإعادة هيكلة القطاع المصرفي.

يزيد صايغ*

سوريا اليوم في أمسّ الحاجة إلى برنامجٍ وطني شامل لإعادة الإعمار الاقتصادي. فبعدَ مرور ما يقارب العام على سقوط الديكتاتور بشار الأسد، ما زالَ الغموضُ يلفّ المشهد، وما زال الحديث الجاد عن خطّةٍ متكاملة لإعادة البناء غائبًا، سواء داخل أروقة الحكم الجديدة في دمشق أو في أروقة القوى الدولية المعنية بالملف السوري. وبينما تتراكم التحدّيات وتتعاظم التطلّعات، يلوحُ في الأفق خطرٌ حقيقي يتمثّل في عودة شبكات المحسوبية والزبائنية التي كانت ركيزةَ اقتصاد الأسد، بما تحمله من فسادٍ مُزمِنٍ وتفاوتٍ فاحشٍ في الفرص والثروات. مثل هذا السيناريو لن يُجهضَ فقط أيَّ أملٍ في العدالة الاجتماعية، بل سيزرعُ بذورَ استياءٍ سياسي عميق قد يُعيدُ البلاد إلى دوّامة العنف ذاتها التي عاشتها خلال سنوات الحرب الطويلة، حين تحوّلَ الصراعُ إلى وسيلةٍ لتقاسُمِ السلطة والثروة بين القوى المتنافسة، لا إلى طريقٍ للخلاص منها.

وفي خضمّ هذا المشهد المُتشابك، أعلنت السلطات السورية الجديدة عن مذكّرات تفاهُم وعقود استثمارية تُقدّر قيمتها بأربعة عشر مليار دولار، فضلًا عن صفقاتٍ بمليارات أخرى مع جهاتٍ تجارية وحكومية أجنبية. غير أنَّ هذه الأرقام الضخمة، بدل أن تبعث الاطمئنان، تُسلّط الضوء على مشكلةٍ أعمق: غياب رؤيةٍ اقتصادية متكاملة لإعادة البناء. فالمقاربات الحالية تبدو مُنصَبّة على تحقيق عوائد مالية سريعة من خلال مشاريع عقارية ضخمة وتأجير مرافق البنية التحتية الحيوية للمستثمرين الأجانب، بدون أن يُقابلَ ذلك استثمار جاد في القطاعات الإنتاجية الأساسية—من صناعةٍ وزراعةٍ وخدماتٍ—القادرة على خلق فرص عمل حقيقية، وتعزيز التكامل الاقتصادي، وتحريك عجلة التنمية المستدامة.

يزدادُ المشهدُ قتامةً حين يُضافُ إليه غياب الشفافية في ما يتعلق بتفاصيل العقود المُوَقَّعة، والتسويات المُريبة مع رجال الأعمال الذين ازدهروا في عهد الأسد، والتعامل الغامض مع أصول حزب البعث المنهار، إضافةً إلى الغموض الذي يكتنف صندوق الثروة السيادي الجديد الذي أُنشئ باسم الحكومة. هذه الضبابية تُقوّضُ مبدأ المُساءلة، وتُهدّد مصداقيةَ أيِّ استثمار، وتفتح الباب واسعًا أمام تكرار أنماط الفساد السابقة بثوبٍ جديد. أما الحديث الرسمي عن تبنّي “اقتصاد السوق الحر” فيبدو أقرب إلى شعارٍ سياسيّ منه إلى سياسةٍ اقتصادية حقيقية، إذ جاء من دون حواجز تحمي المصلحة الوطنية، ومن دون حوارٍ مع القوى الاقتصادية الفاعلة والفئات الاجتماعية التي ستتحمل تبعات هذا التحوّل.

يُعَدُّ غيابُ خطّةٍ شاملة لإعادة الإعمار الاقتصادي في سوريا مسألةً متناقضة وغريبة بحدِّ ذاتها، إذ كان واضحًا منذ السنوات الأولى للحرب الطويلة والدامية أنَّ البلادَ ستحتاجُ إلى عملية إعادة بناء واسعة النطاق. ففي العام 2012، أطلقت لجنة الأمم المتحدة الاقتصادية والاجتماعية لغرب آسيا (إسكوا) أولَ مبادرةٍ رئيسة للتحضير لمرحلة ما بعد الحرب، تحت عنوان “الأجندة الوطنية لمستقبل سوريا”، التي كان الهدف منها أن تكونَ “منصّةً للحوار التقني بين الخبراء السوريين” لمناقشة الجوانب الاجتماعية والاقتصادية والحكومية في سوريا ما بعد الصراع. وبعد عام، بادرت مجموعة “أصدقاء الشعب السوري”، وهي تجمُّعٌ ديبلوماسي دولي، إلى إطلاقِ تصوُّرٍ لعملية إعادة الإعمار عبر إنشاءِ صندوقٍ ائتماني مُتعدِّد المانحين يهدفُ إلى دعم تعافي سوريا والتخفيف من معاناة شعبها من خلال تمويل الخدمات الأساسية.

في العام 2015، أعلن الاتحاد الأوروبي ودوله الأعضاء —الذين يُشكّلون مُجتمعين أكبر جهة مانحة للمساعدات الإنسانية وغير الإنسانية المُقدَّمة للاجئين السوريين والنازحين داخليًا، وكذلك للدول المجاورة المتأثرة بالنزاع— أنَّ تمويلَ الاتحاد الأوروبي يمكن أن يُعادَ توجيهه ليتماشى مع احتياجاتِ إعادة الإعمار في سوريا ما بعد الصراع. وقد ظلّت قضية إعادة الإعمار محورًا رئيسًا في سياسة الاتحاد الأوروبي تجاه سوريا حتى العام 2019 على الأقل. ومع ذلك، بدأ بعضُ الدول الأعضاء، بعد شعوره بالإرهاق من الأعباء المتزايدة، البحثَ عن مقارباتٍ انتقائية لإعادة الإعمار، من خلال إشراك نظام الأسد في إطارِ نهجِ “المزيد مقابل المزيد”، الذي يقوم على تقديم الدعم لعمليات التعافي وإعادة الإعمار وتطبيع العلاقات السياسية مقابل إصلاحات هيكلية محددة.

ومنذ سقوط النظام، تراجع الاتحاد الأوروبي عن استخدام مصطلح “إعادة الإعمار”، مُفضِّلًا الحديث عن “التعافي” كبديلٍ أقل التزامًا سياسيًا وأكثر مرونة في التعامل مع الواقع السوري الراهن.

مع ذلك، لا تقتربُ أيٌّ من هذه المبادرات من تلبية الاحتياجات الراهنة لسوريا. فقد قُدِّرت تكلفة إصلاح البنية التحتية المادية للبلاد —بما في ذلك قطاعات الصحة والتعليم والمياه والنقل والطاقة، إلى جانب القطاعات الإنتاجية— في العام 2019 بما يتراوح بين 250 و400 مليار دولار. وفي أيار (مايو) 2025، صرّح وزير الاقتصاد والصناعة السوري محمد نضال الشعار بأنَّ البلاد تحتاج إلى ما لا يقل عن تريليون دولار لإعادة بناء “سوريا جديدة”. أما البنك الدولي فقد قدّر، في آب (أغسطس) من العام نفسه، الكلفة الإجمالية لإعادة الإعمار بما يتراوح بين 141 و343 مليار دولار، مع “أفضل تقدير” يبلغ 216 مليار دولار.

تُضافُ إلى هذه التحديات كلفة إعادة اللاجئين والنازحين داخليًا وإسكانهم —الذين يشكّلون معًا أكثر من نصف عدد السكان— فضلًا عن الحاجة إلى انتشال 90 في المئة من السوريين الذين يعيشون تحت خط الفقر، وهي مهامٌ تتطلّب تمويلًا إضافيًا ضخمًا. وبحسب رئيس هيئة الأوراق والأسواق المالية السورية، فادي الجليلاتي، فإنّ اللسوريين كانوا يملكون أكثر من 100 مليار دولار من الأصول في الخارج بحلول مطلع العام 2024، إلّا أنَّ عودة رؤوس الأموال كانت محدودة للغاية نتيجة الضبابية الأمنية وعدم وضوح التوجّهات الاقتصادية.

لم يطرأ تغيُّرٌ جوهري على هذه الصورة منذ سقوط نظام الأسد وتشكيل الحكومة المؤقتة برئاسة أحمد الشرع. فبعد رفع الاتحاد الأوروبي عقوباته الاقتصادية عن سوريا، أعاد في حزيران (يونيو) 2025 توجيه نحو 175 مليون يورو (قرابة 200 مليون دولار) من المساعدات التي كان قد تعهّدَ بها سابقًا، لتُخصّص هذه المرة لـ”بناء القدرات المؤسّسية، وتنشيط الاقتصادات الريفية والحضرية، ودعم جهود العدالة والمساءلة”.

ومع ذلك، فإنَّ بيان السياسة المكوَّن من ثماني عشرة نقطة، الذي أصدره الاتحاد الأوروبي بعد أسابيع قليلة، أبقى مفهومَ إعادة الإعمار في إطارٍ عام وفضفاض، من دون أن يتضمّنَ خطواتٍ عملية واضحة نحو التخطيط والتنفيذ الفعلي لبرنامج إعادة الإعمار، أو أيَّ مقترحاتٍ لإنشاءِ آليَّةِ تنسيقٍ فعّالة — سواء داخل المفوضية الأوروبية نفسها أو بالتعاون مع الحكومة السورية وأصحاب المصلحة الآخرين.

ومن جهتها، أعلنت الأمم المتحدة عن تحديث إطار عملها الخاص بسوريا ليصبح “هيكلًا أكثر شمولًا وتماسكًا”، بهدف مساعدة البلاد على الانتقال من مرحلة المساعدات الإنسانية العاجلة إلى مسار التنمية المستدامة وإعادة الإعمار طويلة الأمد. غير أنَّ هذا الإعلان، مرة أخرى، لم يتجاوز في جوهره الاستراتيجية الأممية للإنعاش المبكر التي أُطلقت في تشرين الثاني (نوفمبر) 2024، والتي ركّزت على قطاعات الصحة والتغذية والتعليم والمياه والصرف الصحي والنظافة العامة، من دون أن تتضمّنَ رؤيةً متكاملة أو آليات تنفيذية لعملية إعادة الإعمار الشاملة.

وعلى المنوال نفسه، التزمت وكالات التنمية متعددة الأطراف الدولية والعربية والخليجية —مثل صندوق أوبك للتنمية الدولية وبرنامج الخليج العربي للتنمية— بدعم قطاعات محددة، لكنها تجنّبت الترويجَ لنهجٍ شامل لإعادة بناء الاقتصاد السوري، فضلًا عن أن تتولّى قيادته.

قد يكونُ التحفُّظُ على التعامل مع سلطاتٍ تضمُّ جهاديين سابقين مُدرَجين على قوائم الإرهاب أحد العوامل التي تُعيقُ اتخاذ خطوات جريئة أو صياغة برامج طموحة لإعادة الإعمار. غير أنَّ الانخفاضَ الحاد في حجم المساعدات الإنمائية الخارجية المقدَّمة من الحكومات الغربية والخليجية يُمثّلُ عاملًا أكثر تأثيرًا في تعميق هذا الجمود. فـالإطار المؤسّسي الليبرالي الذي كان يدمج إعادة الإعمار ضمن سياسات وممارسات التنمية الدولية بات اليوم في حالةِ تراجُعٍ خطير، إن لم يكن انهار بشكلٍ شبه كامل.

لقد مرّ أكثر من عقدٍ منذ آخر مرة أنهى فيها اتفاق سلام شامل بوساطة دولية حربًا مدمّرة، وأطول من ذلك منذ وُضعت خطة إعادة إعمار مُتَّفَق عليها. والواقع أنَّ النموذج التقليدي لإعادة الإعمار لم يكن مُرضيًا حتى في أفضل حالاته؛ إذ كان سجلّه مُتباينًا للغاية في تحقيق “مكاسب السلام” الاقتصادية، وترسيخ الأمن، ومنع تجدّد النزاعات المسلحة، وتوفير فرص العمل، وبناء أسس نمو اقتصادي عادل ومستدام. بل إن إخفاقاته المتكررة فاقت نجاحاته القليلة، وغالبًا ما تركت مجتمعات ما بعد الصراع في أوضاعٍ أسوأ من تلك التي سبقت تدخلاته، سواء على الصعيدين الاجتماعي أو الاقتصادي.

من هذا المنطلق، فإنَّ التخلّي عن النهج المُوَجَّه من قبل المانحين، القائم على الحلول التقنية غير المُسَيَّسة، قد لا يكون خيارًا سيئًا. ومع ذلك، تبقى هناك ثلاث ركائز أساسية من النموذج التقليدي لإعادة الإعمار، ينبغي على السلطات السورية الجديدة الاسترشاد بها إذا ما أرادت التغلب على التحديات البنيوية العميقة التي يواجهها الاقتصاد الوطني.

أولًا: تهيئة البيئة المؤسّسية على نحوٍ سليم: إنَّ استعادةَ الدولة المركزية وتعزيزَ سلطتها تُمثّلُ استجابةً مألوفة في مراحل ما بعد الصراع، باعتبارها وسيلةً لتحقيق نتائج سريعة وفعّالة. غير أنّ هذا المسار غالبًا ما يتحوَّلُ إلى خيارٍ شكليٍ ومُضَلِّل يهدفُ إلى تقليص التكاليف أكثر مما يسعى إلى معالجة الأسباب الجذرية للضعف المؤسّسي.

إنَّ تفويضَ السلطات وتوسيع نطاق اللامركزية لا يُعَدُّ بديلًا من الدولة المركزية، بل مُكمّلًا ضروريًا لاستعادة فاعليتها، سواء في تصميم البرامج أو تحديد الأولويات الاقتصادية والاجتماعية أو توزيع الموارد على نحوٍ عادل.

كما إنَّ اللامركزية تُعَدّ أكثر مُلاءمةً لاستيعاب احتياجات الفئات الهشّة والمُهمّشة —من لاجئين ونازحين داخليًا وأسرٍ تعولها نساء— فضلًا عن دورها في تعزيز الثقة المجتمعية وإعادة بناء الشرعية المحلية التي تآكلت خلال سنوات الصراع.

ثانيًا: صياغة أجندة اقتصادية شاملة: تُعَدُّ مسألةُ مَن يَضع الأجندة الاقتصادية مُنطلقًا حاسمًا لأيِّ عملية إعادة بناء. فالفئات الاجتماعية المختلفة تمتلك افتراضات وتفضيلات وتوقعات متباينة حول طبيعة الاقتصاد ودور الدولة فيه، كما تختلف في فرص الوصول إلى الموارد وفي القدرة على التأثير في السياسات العامة.

وغالبًا ما تقوم القوى الاقتصادية والسياسية النافذة بتوجيه مخرجات السياسات بما يخدم مصالحها الخاصة، ما يؤدي إلى تشويه العدالة الاجتماعية وتقويض الاستقرار السياسي.

وتبرز هذه التباينات في الحالة السورية بوضوح في الخلاف حول دور الدولة في تقديم الخدمات العامة والرعاية الاجتماعية، وفي مجالات الاستثمار وحماية الملكية، سواءً بين المناطق الحضرية والريفية، أو داخل كلٍّ منهما، وكذلك بين طبقة رجال الأعمال وسلطات الدولة، وداخل الطبقة نفسها، فضلًا عن الفوارق بين المستفيدين السابقين والجدد من وظائف القطاع العام، وبين مختلف مكونات المجتمع المدني.

ثالثًا: الحوكمة: تظل عمليات إعادة الإعمار الاقتصادي عرضةً للاستحواذ من قِبل قوى سياسية نافذة، محلّية كانت أم خارجية. وتواجه الفئات الضعيفة —ولا سيّما اللاجئون والنازحون داخليًا والنساء والأقليات الطائفية والإثنية— خطرًا متزايدًا من التهميش والإقصاء.

ورُغمَ أنّ تفويض الحوكمة وتوسيع المشاركة المحلية يمكن أن يساهما في تعزيز الشرعية والمساءلة والحدّ من التوترات الطائفية، فإنّ الاتجاه السائد نحو إفراغ الإطار المؤسّسي من مضمونه، وسعي السلطات الجديدة إلى مركزة السلطة السياسية وتشديد السيطرة الاجتماعية، يشير إلى مسارٍ معاكسٍ تمامًا لتلك الأهداف.

ومع ذلك، لم تُبذَل في دمشق أيُّ جهودٍ حقيقية لوَضعِ برنامجٍ متكاملٍ لإعادة الإعمار، فضلًا عن تأمين التمويل اللازم له، أو حتى التشاور مع الأطراف الرئيسة المعنية، سواء على المستوى المحلي أو الدولي. وفي ظلِّ غيابِ مبادرةٍ وطنية أو دولية مُنَسَّقة، اتجهت الحكومة إلى اعتماد مزيجٍ من المراسيم والسياسات الاقتصادية المتفرِّقة ومشروعات الاستثمار غير المُترابِطة، مما جعل المشهد العام يتّسم بالعشوائية والتناقض.

تتجلّى هذه التناقضات بوضوح في سياسة الخصخصة التي تُنفّذُ بصورةٍ تبدو غير مدروسة، إذ يُطرَحُ بعضُ أصول الدولة للبيع بدون شفافية كافية حول هوية المشترين أو شروط الصفقات، ما يُثيرُ مخاوفَ من عودة شبكات المحسوبية القديمة. وفي الوقت ذاته، تخضع الشركات العامة لعمليات إصلاحٍ جُزئية تُظهِرُ ما وصفته النشرة الاقتصادية المرموقة “تقرير سوريا” بـ”ديناميكية متجدّدة”.

على المنوال نفسه، يشير “تقرير سوريا” إلى أنَّ مشروع قانون الضرائب الجديد، قيد الدراسة حاليًا، ينصُّ على خفضٍ كبير في الضرائب على الأفراد والشركات بدعوى تشجيع بيئة الأعمال. غير أنّ هذا التوجه يُضعفُ قدرةَ الدولة، التي تُعاني أصلًا من أزمة مالية حادّة، على الاستثمار في إعادة تأهيل البنية التحتية وتطويرها، واستعادة الكوادر الماهرة، ودعم القطاعات الإنتاجية والتصديرية.

ويُفاقِمُ المُعضِلة إعلانُ الحكومة عدم نيّتها الاقتراض أو زيادة الإيرادات العامة، ما يجعلها تعتمد بصورةٍ شبه كاملة على المنح الخارجية — وهو ما لا يمكن اعتباره سياسة اقتصادية حقيقية بأيّ مقياس.

أثارَ الرفعُ الجُزئي للعقوبات الأميركية والدولية، إلى جانب المساعدات المالية المحدودة من بعض دول الخليج، وبدء محادثات تمهيدية مع صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، موجةً من التفاؤل الحذر في الأوساط الاقتصادية. كما أُبرِمَت اتفاقيات أولية مع شركات سعودية وقطرية وإماراتية لتنفيذ مشروعات كبرى في مجالي البنية التحتية والطاقة، تعهّد البنك الدولي بدعمها بمبلغٍ قدره 146 مليون دولار.

وفي هذا السياق، أعلن محافظ البنك المركزي عبد القادر حُصرية وعدد من الوزراء عن نيتهم تبنّي إصلاحات في السوق الحرة تهدف إلى جذب الاستثمار الأجنبي، وإزالة الحواجز التجارية، وتحقيق استقرار نقدي، وإعادة هيكلة القطاع المصرفي.

إلّا أنّ التمييز بين هذه الإصلاحات وما سبقها من تحرير اقتصادي في عهد بشار الأسد لا يزال غير واضح، سواء من حيث سياسات الضرائب والاستثمار والدعم، أو في ما يتعلق بضمان العدالة الاقتصادية والاستدامة.

وفي المحصلة، بدت الوعود أكثر من الأفعال، إذ لم تُتَرجَم بعد إلى تحوُّلات جوهرية على أرض الواقع. ولا تزال السيولة المالية شحيحة، رُغمَ الترحيب بإعادة ربط النظام المصرفي السوري بشبكة “سويفت” للمدفوعات الدولية، وهي خطوة تُعد رمزية أكثر منها تحوُّلًا فعليًا في المشهد الاقتصادي.

تجد السلطات السورية نفسها اليوم في مأزقٍ معقَّد: إذ لم يعد من الممكن الاستمرار في إلقاء اللوم على العقوبات الدولية لتبرير استمرار المعاناة الاقتصادية، في حين أنّ ثمارَ الاستثمارات في قطاعات البنية التحتية والطاقة لن تظهرَ إلّا في المدى الطويل. وفي الأثناء، يُطرَحُ التطوير العقاري —كما حدث في السنوات الأخيرة من حكم الأسد— بوصفه حلًا سريعًا لتحقيق النمو، لكنه في الواقع يخدم شريحةً محدودة من السوريين القادرين على تحمّل تكلفته، وسط تضخُّمٍ حاد في أسعار الأراضي وأزمةٍ خانقة في السكن الميسور للفئات ذات الدخل المحدود.

ويؤكد هذا الواقع الحاجة الملحّة إلى نهجٍ وطني شامل ومتكامل، إذ إنَّ أيَّ انتعاشٍ اقتصادي حقيقي يظلّ مرهونًا بالتوصُّل إلى تسوياتٍ سياسية توافقية وترتيبات أمنية موثوقة، تتيح إعادة دمج المناطق ذات الخصوصية الإدارية —مثل المنطقة الكردية الغنية بالموارد في الشمال الشرقي ومحافظة السويداء في الجنوب— في إطار الدولة السورية الموحَّدة على نحوٍ فعّال ومستدام.

من الواضح أنَّ السلطات في دمشق تواجه خياراتٍ صعبة ومتشابكة في سعيها إلى إعادة تنشيط الأسواق المحلية، وتجديد موارد الدولة المُستَنفَدة، وإحياء الاقتصاد الرسمي. غير أنَّ غيابَ رؤية واضحة لكيفية تحقيق هذا الهدف يُهدِّدُ بإضعاف قدرتها على ترسيخ شرعيتها السياسية.

وفي مسعاها إلى تحقيق تدفّقات نقدية سريعة، عبر تفكيك منظومة القوانين الاقتصادية القديمة وإعادة تركيز سلطة الدولة، تُعرّض الحكومة الجديدة المنتجين المحليين لخطر شحّ السيولة وضعف الائتمان، فضلًا عن منافسة غير عادلة من الواردات الرخيصة.

وقد أدّى هذا المسار إلى تَرَكُّزِ نحو 80% من الشركات الجديدة في العاصمة دمشق، ما فاقم أوضاع الأسر المعتمدة على دعم الغذاء والوقود، وعمّق الفوارق الاجتماعية والاقتصادية، وأتاح للفصائل الموالية للحكومة وحلفائها من زعماء العشائر الاستحواذ على الأراضي والممتلكات، لترسيخ النهب المسلح كأسلوبٍ اقتصاديٍ موازٍ.

وحتى إن نجحت قيادة الشرع في إحراز اختراقاتٍ ديبلوماسية خارجية وجذب استثمارات أجنبية محدودة، فإنَّ ذلك لن يعالجَ جذور الأزمة البنيوية التي يعاني منها الاقتصاد السوري، ولا سيما اختلال توازنه الداخلي واعتماده المفرط على رأس المال السياسي بدلًا من الإنتاج الفعلي.

  • يزيد صايغ هو زميل أول في مركز مالكوم كير– كارنيغي للشرق الأوسط في بيروت، تركّز أبحاثه على الأدوار السياسية والاقتصادية المقارَنة للقوات المسلحة العربية، والتداعيات التي تخلّفها الحرب على الدول والمجتمعات، والجوانب السياسية لعملية إعادة البناء وتحوّل قطاع الأمن وفي المراحل الانتقالية التي تشهدها الدول العربية، إضافة إلى إعادة إنتاج الأنظمة السلطوية.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى