لبنان: إحتلالٌ بلا كلفة ومقاومة بلا جبهة

بين تشرينٍ أول وتشرينٍ ثانٍ، يعيش الجنوب اللبناني على إيقاع حربٍ لا تُعلَن وسلامٍ لا يُعاش، حيث تحلّ المسيرات محلّ العصافير، ويغدو الخوفُ روتينًا يوميًا تحت فضاءٍ يُراقب ويُعاقب من دون أن يطأ الأرض.

الضاحية الجنوبية لبيروت: بعض سكانها يبيعُ مساكنه سرًّا وينتقل إلى أماكن أكثر أمنًا.

ملاك جعفر عبّاس*

يقول اللبنانيون إنَّ بين تشرينٍ وتشرينٍ (أو أكتوبر ونوفمبر) صيفًا آخر، وبين التشرينَين هذا العام، تَحجُبُ الطائرات المُسيّرة وأزيزها زرقةَ سماء هذا الصيف المتأخّر، ويعلو هديرُها فوقَ ضجيج المدن وزقزقة عصافير القرى. هذه الكائنات السمجة كأنّها تأبى الرحيل، تُذكّرُ الناسَ في كلِّ لحظة بأنَّ الحربَ لم تنتهِ وأنَّ حربًا أُخرى تتهيّأ خلف الأفق.

في الأجواءِ أسرابٌ من الطيران الحربي والمُسَيَّر تقصفُ ما تبقّى من مواقع ومخازن ل”حزب الله”، وتُلاحِقُ قادته، وتدمّرُ كلَّ آليةٍ يمكنُ أن تُستخدَمَ في إزالةِ الركام، قبل حتى أن يُفتَحَ الحديثُ عن إعادة الإعمار. المشهدُ برمّته يبدو كأنّهُ تجربةٌ نفسية ميدانية بسورياليةٍ قاسية — لعبةُ موتٍ بطيء تُستَعادُ وتُستَلهَمُ من مسلسل “لعبة الحبار” (Squid Game) الكوري: اللاعبون لا يُدرِكون في الجولة الأولى أنَّ نهايتهم الموت، وبعد المجزرة الجماعية الأولى تُراودهم فكرة الانسحاب وترك اللعبة، لكنهم يُقرّرون الاستمرار فيها لأنَّ ليست لديهم أية خيارات أخرى غير المُراهنة على ألّا تصيبهم الرصاصة التالية. لذا، لا يخرج أحدٌ من هذه اللعبة إلّا إلى القبر. غير أنَّ الفارقَ الجوهري هنا أنّنا لا نعيشُ فصلًا دراميًا من مسلسل، بل فصلًا حقيقيًا من حياة الجنوبيين في لبنان.

الحربُ صارت على كلِّ لسان في لبنان، لكن لا يبدو أنَّ إسرائيل، الغارقة تحت الرقابة الأميركية المباشرة في ترتيباتِ اتفاق وقف الحرب في غزة، في عجلةٍ من أمرها لتصعيد الوضع على جبهتها الشمالية في الوقت الراهن، رُغمَ أنها تُسرِّبُ خلافَ ذلك كل يوم.

الجبهة، التي ظلّت هادئة منذ وقف الأعمال العدائية في تشرين الثاني (نوفمبر) 2024، تمنحُ إسرائيل مساحةً واسعة، عبر سيطرتها الجوية المُطلقة وأدوات النظام المالي العالمي التي تُوظّفها وزارة الخزانة الأميركية، لتستكمل مشروعها الذي بدأته في أيلول (سبتمبر) 2024، ولكن بوتيرةٍ أبطأ وكلفةٍ أدنى تسمح بترك الملف مفتوحًا، حيث تُعيد تسخينه عند ازدياد الضغوط الداخلية على بنيامين نتنياهو، فيقرّرُ حينها إطلاقَ حلقةٍ جديدة من “لعبة الحبار” (Squid Game) تُعيدُ التداول والحديث في خطاب البطولة والانتقام.

إيقاعُ الضربات هنا محسوبٌ ومَدروس، وهو جُزءٌ لا يتجزّأ من منظومةِ ضغطٍ أوسع: تهديدٌ مستمرٌّ باجتياحٍ برّي عبر مناوراتٍ حدودية، تداول سيناريوهات تفريغ قرى الحافة الأمامية وتحويلها إلى مناطق عازلة خالية من السكان، وإحكام الحصار الاقتصادي بمنع إعادة الإعمار وتضييق الخناق على التحويلات المالية والتبادل التجاري، وإغلاق أبواب التفاوض بصِيَغٍ مقبولة محلّيًا.

كلُّ هذه الحلقات تشكّل معًا هندسةً نفسية طويلة الأمد تهدفُ إلى تفكيك وَعيٍ تَشَكَّلَ عبرَ عقودٍ من أدبيات “المقاومة” و”الممانعة” في الذاكرة الشيعية، عبر جعل الخوف حالة دائمة ومُستدامة — استراتيجيةٌ تعتمدُ على الإبقاء على الجرح مفتوحًا لا ليُشفى بل ليُستَثمَر في التحكُّم والسيطرة.

اعتيادُ الجحيم: الخوفُ كحياةٍ يومية

عند اللبنانيين عادةٌ عجيبة… بل خطيرة: إنهم يعتادون كلّ شيء. يُروِّضونَ المأساة كما لو كانت طقسًا يوميًا من طقوس الحياة. حين انقطعت الكهرباء، لم يثوروا، بل ابتكروا “الاشتراك بالمُوَلّد”. وحين جفّت وانقطعت المياه، استحدثوا “السيتيرن” (شاحنة المياه). ومع انهيارِ العملة وتَبَخُّر الودائع، لم ينزلوا إلى الشوارع بل نزلوا إلى قاعِ الصبر، يتبادلون النكات عن الدولار فيما جيوبهم خاوية. حتى المنظومة الحاكمة التي سلبتهم كل شيء، تآلفوا معها كما يتآلف السجين مع سجّانه بعد طول إقامة في الزنزانة.

واليوم، يعتادُ اللبنانيون ما هو أخطر من العوز والجوع: يعتادون الحياة في الجحيم. يتآلفون مع الخوف كما يتآلف الجسد مع الألم المُزمن. يغلقون النوافذ كي لا يسمعوا أزيزَ المُسَيّرات، أو يخرجون لتصويرها حين تقترب، كَمَن يضبطُ متلصّصًا مُتلبِّسًا بالجريمة. يشتمونها أحيانًا لتخفيف الرعب، ثم يتَّصلون بأحبّتهم بعد كلِّ غارة ليتأكّدوا أنهم ما زالوا على قيد النجاة. على مواقع التواصل، ينوحون على الشهداء، ثم يتنفّسون الصعداء سرًّا لأنَّ الموتَ لم يطرق بابهم بعد وتجاوزهم هذه المرة. يشتمون “الآخر” –الشريك اللدود في الوطن– بوصفه أصل البلاء، ثم يسألونه في الخفاء عن شقّةٍ للإيجار بعيدًا من الخطر.

في الضاحية الجنوبية، يبيعُ كثيرون أملاكهم بصمت، وقد أدركَوا أنَّ البقاء في “معقل حزب الله” يعني المخاطرة بكلِّ شيء، لكنهم في العلن يرفعون الشعارات ويهتفون باسم الشيخ نعيم قاسم (الأمين العام للحزب) ويُجدّدون البيعة. لقد أصبح الخوفُ جُزءًا من نسيج الحياة اليومية، طقسًا له رائحته وصوته ومواعيده.

والأدهى أنَّ أبناءَ الطائفة الشيعية الذين صقلتهم أدبيات المقاومة باتوا يتأقلمون مع هذا الخوف، لا يُدرِكون أنَّ كُتُبَ علم النفس الجماعي تحدّثت طويلًا عن هذا النوع من الاستسلام الهادئ: حين يترسّخ الخوفُ ويُصبح أبديًا، يَقتلُ الرغبة في المقاومة قبل أن يُطلَقَ الرصاص.

“حزب الله” بين الجو والسياسة

إسرائيل تُدرِكُ اليوم أنه لا يكفي أن تنتصرَ على “حزب الله” عسكريًا كي تقضي على مشروعه، بل تحتاجُ إلى استئصالِ فكرة المقاومة من العقل الجماعي للبيئة الشيعية كي تستكملَ انتصارها العسكري. فلطالما تغنّى الحزبُ بالبيئة المحتضنة للمقاومة، ذلك الخزان البشري الهائل الذي لم يبخل يومًا بالرجال والأطفال والأرزاق خدمةً لمشروع الولي الفقيه. تلك البيئة التي لم تحجب أصواتها يومًا في صناديق الاقتراع عقابًا للحزب على مشاريعه العابرة للحدود، ولا على أدائه السياسي الداخلي. وقد ازدادَ تعلُّقُ البيئة اللصيقة بالحزب بفكرة السلاح بعد الحرب الأخيرة كخشبةِ خلاصٍ أخيرة أمامَ ما صوَّره الحزب على أنه تهديدٌ وجودي ليس فقط لتنظيمه المسلّح، بل لعموم الشيعة إن هم قبلوا بتسليم السلاح. وقد اتضح هذا التماسُك في استحقاق الانتخابات البلدية وفي المناسبات الجماهيرية التي نجح فيها الحزب بحشدِ أعدادٍ غفيرة من جمهوره بقيت “على العهد”، ربما وفاءً للأمين العام السابق السيد حسن نصر الله لا إعجابًا بالقيادات الناشئة.

تستهدف الجولة الحالية استنزافَ المخزون العقائدي المؤمن بالمشروع العابر للحدود لولاية الفقيه، تُذكّرُ المُسَيَّرة الرابضة في الجو كل شيعي أنَّ بقاءه على قيد الحياة مرهونٌ بمدى استعداده للتخلي عن “حزب الله” وإن لم يفعل تنهره بالصوت المُرعِب، وإن لم يرتعد قصفته وأكملت أزيزها.

حتى الخيال الأدبي، كما كتب جورج أورويل في رواية 1984، لم يقرأ أنَّ “الأخ الأكبر” قد يتخذ شكل طائرة مُسَيَّرة لا شاشة تلفزيونية؛ طائرة تُحصي أنفاس الناس وتراقب حدود أفكارهم وتهدّدهم إن هم حادوا عن المسموح. ومع غياب لبنان عن عناوين الإعلام الدولي، وغياب موجة احتجاج عالمية تطالب بوقف النار، تُتاحُ لإسرائيل فجواتٌ تعمل فيها بلا حاجة إلى حملات إبادة علنية، بل من خلال تآكلٍ طويل ومدروس.

احتلالٌ بلا جنود

ما يجري اليوم في جنوب لبنان هو التعريفُ الحرفي لمفهوم الاحتلال بلا كلفة. فإسرائيل، التي تتحكّمُ من بعيد بكلِّ مفاصل الحياة اللبنانية —من الأجواء إلى الحدود، ومن الكهرباء إلى التحويلات المالية— لا تحتاجُ إلى جندي واحد على الأرض لتَفرُضَ واقعًا جديدًا بالكامل. إنها معادلةٌ تُسقِطُ المفهوم الكلاسيكي للمقاومة المسلحة، وتجعل من فكرة المقاومة المسلحة التقليدية فكرة عبثية.

فأنماطُ القتال التي اعتمدها “حزب الله” وتشكيلات الحركة الوطنية والمنظمات الفلسطينية خلال سنوات الاحتلال الإسرائيلي للجنوب (من 1978 حتى التحرير) —من عمليات تسلّل نوعية، وخلايا صغيرة عالية التدريب، وهجمات خاطفة على أهداف عسكرية ولوجستية، وصولًا إلى العمليات الاستشهادية التي غيّرت مسار المعارك— كلّها فقدت معناها اليوم. الحرب تغيّرت جذريًا: لم يعد العدو في الميدان، بل في الجو، يراك قبل أن تراه، ويضربك قبل أن تفكّر بالرد.

أما “معادلات الردع” التي تباهى بها الحزب في زمنٍ مضى، فقد نسفتها الحرب الأخيرة بالكامل. فالمعادلة الجديدة ببساطة تمنع وجود الجندي على الجبهة؛ فلا تماسّ مباشر يعني لا حرب عصابات، ولا خطوط اشتباك، ولا حتى جدوى لأيِّ سلاحٍ لا يستطيع الإفلات من عين الطائرة المسيّرة أو الرادار. وبعد تدمير مخزون الصواريخ ومصانعها، بات الكلام عن “الجهوزية الكاملة” أقرب إلى وهمٍ سياسي منه إلى واقع عسكري.

إنها حربٌ تُدار بالأزرار لا بالبنادق، وبالأقمار الاصطناعية لا بالمتاريس. والجنوب الذي كان يومًا ميدانَ المواجهة صار اليوم حقل اختبارٍ لتقنيات السيطرة عن بُعد — حيث يُحتل الهواء، فتُخضَعُ الأرض طوعًا.

ففي حديثٍ الى مجلة “لوفيغارو” الفرنسية، أكد أحد قادة “حزب الله” أنَّ “المقاومة لديها الآن هيكلية عسكرية جديدة تعمل بسرّية تامة بسبب الظروف الحالية. وهي تركيبةٌ أكثر شبابًا وديناميكية قادرة على مجاراة التقدّم التكنولوجي”. مُضيفًا أنَّ “الحزب أنجَزَ الفصلَ التام بين هياكله العسكرية والسياسية، حيث يتمتّعُ المقاتلون باستقلالية تامة عن القيادة السياسية التي لا تعرف هوياتهم في غالب الأحيان”. فيما تتحدّث مصادر أخرى من الحزب عن العودة الى نمط العمل العسكري السرّي الذي كان مُعتمَدًا عند نشأة المقاومة الإسلامية.

وإذا لم يكن “حزب الله” بواردِ التحوُّل إلى جيش إلكتروني، فمن الصعب التفكير في كيفية تمكُّنه من إعادة بناء قدراته القتالية التي تتطلّبُ إقامة معسكراتٍ للتدريب وإعادة تأهيل المراكز والمخازن التي تضرّرت في ظل الرقابة الجوية المتواصلة للمسيّرات الإسرائيلية. أما الحديث عن إغلاقِ الفجوة التكنولوجية، فيبدو أقرب إلى الخطاب التعبوي الذي يهدفُ إلى رَفعِ معنويات البيئة أكثر من استناده إلى واقعٍ تنفيه المعطيات. فإغلاقُ الفجوة يحتاجُ إلى بدائل تكنولوجية أكثر تطوّرًا أو العودة إلى الوسائل البدائية بالتواصل المباشر، وهو ما يبدو أنَّ الحزبَ يعتمده حاليًا. إلّا أنَّ هذا الاحتمال يُقلّلُ بشكلٍ كبير من فاعلية أيِّ ردعٍ في مواجهة آلة الحرب الإسرائيلية العملاقة. فأساليبُ الاختراق التكنولوجي تستندُ إلى استثماراتٍ بمئات الملايين من الدولارات في برمجيات، غير مُتاحة إلّا لإسرائيل وزبائنها في مجال الخدمات الأمنية، ولا يملك الحزب من تلك الدولارات سوى القليل يصرفه بدل إيواء لمن هجروا في الحرب الأولى.

لطالما كانت الهوة كبيرة بين إسرائيل و”حزب الله” ولا شكَّ أنه كان قادرًا في حروبٍ سابقة على تحقيقِ إنجازاتٍ ميدانية صنعت مجده وصورته، وقد استثمرت إسرائيل في ترسيخِ صورة الحزب الذي لا يُهزَم في عقول قادته من خلال ترديد الإعلام الإسرائيلي لمقولات تُضخِّمُ من قدراته وعزيمة مقاتليه وصدق قيادته وقوتها، فصدقوا الدعاية الإسرائيلية عنهم، والتي كانت تستهدفُ إشعارهم بالقوة وهم في الحقيقة يُستَدرَجون الى شرٍّ مُستطير. وقد غذّت هذه الانطباعات سردية فوقية متكاملة أقنعت البيئة أنَّ إسرائيل فعلًا أوهن من بيت العنكبوت، وأنَّ هناكَ زرًّا في مكانٍ ما يستطيع أن يُحوِّلَ الدولة العبرية أثرًا بعد عين إن هي تجرّأت على مواجهة المقاومة.

واليوم يحاولُ الحزب العودة إلى النهج نفسه في انتاجِ سردية غيبية عن مقاتلين أشباح لم تتمكّن أجهزة التجسّس من رصدهم، يتحدثون عن تعافٍ مالي وعسكري يؤمّن الردع، يؤكدون كلام المبعوث الأميركي توم براك عن أنَّ ستين مليون دولار تصلهم شهريًا من دون أن يُقدّموا للناس دليلًا واحدًا ملموسًا على هذا الكلام، فيما تستفيد إسرائيل من هذه السردية لتأبيد احتلالها الافتراضي للبنان الذي ينتظره على الأرجح انهيار كبير قد لا تأتي به مواجهة كبرى ليست إسرائيل مضطرة لها طالما بقي الائتلاف الحكومي اليميني المتطرّف صامدًا. تعطي إسرائيل كل المؤشرات إلى عودة الحرب، لا عنصر مفاجأة إن حدثت، الكل يتوقعها، لكن ماذا إن لم تقع؟ ما هو ثمن البقاء على قيد اللعبة؟

  • ملاك جعفر عباس هي كاتبة سياسية وإعلامية لبنانية حاورت شخصيات عربية وعالمية عدة خلال عملها في شبكة “بي بي سي نيوز عربي”. وقد تخصصت في دراسة مكافحة الإرهاب والجماعات المسلحة في جامعة كينغز كولدج لندن. يمكن التواصل معها عبر منصة “Linkedin على linkedin.com/in/malakjaafar

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى