وَهمُ السلام: لماذا لا يَستَطيعُ ترامب وشي الهروبَ من جاذبية الصراع

كابي طبراني*

المَشاهِدُ التي خرجت من سيول الأسبوع الفائت كانت محسوبة ومدروسة بعناية: الرئيس الأميركي دونالد ترامب والزعيم الصيني شي جين بينغ يجلسان مُتقابلَين بابتساماتٍ مُتوَتِّرة، يتحدثّان عن “الاحترامِ المُتبادَل” و”الاستقرار العالمي”. كثيرون وصفوا اللقاء بأنه “نقطةُ تحوُّل”، أو “فرصةٌ جديدة” لإعادة بناء الثقة بين القوتين الأعظم في العالم. غير أنَّ هذه الصُوَرَ المُبهِجة أخفت حقيقةً أعمق وأبقى: الصراعُ بين الولايات المتحدة والصين ليس سوءَ تفاهُمٍ يُمكِنُ إصلاحه بالمصافحات أو الخطابات الديبلوماسية. إنه تناقُضٌ جوهري في المصالح والرؤى والهويات، لا يُمكِنُ تجاوزه بالنيّات الحَسَنة أو المُجاملات.

قبل أكثر من عامين، في أيلول (سبتمبر) 2023، حين كان جو بايدن ما يزالُ رئيسًا، دارَ نقاشٌ واسِعٌ في واشنطن حولَ مستقبل العلاقة مع بكين. دعا بعض السياسيين والخبراء إلى “إعادة الانخراط” مع الصين، مُعتَقِدين أنَّ التصعيدَ الأميركي المُفرِط هو ما أوصلَ العلاقات إلى حافة الهاوية، وأنَّ مزيدًا من الحوار والتجارة واللقاءات الرفيعة قد يُعيدُ الثقة ويُجنِّبُ العالم مُواجهةً جديدة. لكنَّ التجربة اللاحقة أثبتت عكس ذلك. فالمشكلة لم تَكُن يومًا في قلّة التواصل، بل في استحالة التوفيق بين مشروعَين مُتعارِضَين جذريًا.

الولايات المتحدة ترى نفسها حامية للنظام الدولي المفتوح القائم على القوانين والقواعد والمساواة بين الدول، بينما ترى الصين، بقيادة شي جين بينغ، أنَّ العالمَ الطبيعي هو عالمُ “المناطق والنفوذ”، حيث تمتلكُ الحضاراتُ الكبرى حقَّ الهيمنة على جوارها الإقليمي. وبين هاتين الرؤيَتين لا توجدُ مساحةٌ آمنة للتعايش. يُمكِنُ إدارةُ التنافُس وتقييده، لكن لا يمكن تحويله إلى شراكة حقيقية.

ترامب، في ولايته الثانية، يُعيدُ تجسيدَ نزعةٍ أميركية قديمة: الإيمان بأنَّ الكاريزما الشخصية والاجتماع المباشر قادران على تجاوز حقائق الجغرافيا والسياسة. لكن هذا الوَهم جُرِّبَ مرارًا وفشل. من مصافحة ريتشارد نيكسون وماو تسي تونغ في السبعينيات، إلى “الطمأنينة الاستراتيجية” في عهد باراك أوباما، وصولًا إلى سياسة “المُنافسة المُدارة” في عهد بايدن—كلُّها محاولاتٌ طَيِّبة النيّة انتهت إلى خيبة. فكلّما حاولت واشنطن “إعادة ضبط” العلاقة، عادت الشكوك أعمق من ذي قبل.

في نظر بكين، لم تَكُن الديبلوماسية الأميركية يومًا صادقةَ النيّة. الحزب الشيوعي الحاكم يرى في أيِّ انفتاحٍ غربي محاولة مُقَنّعة لتقويض سلطته الداخلية. هو يعتبر أنَّ “الاحتواءَ” ليس سياسةً مُحتَمَلة بل حقيقة قائمة منذ عقود، وأنَّ الحفاظَ على النظامِ الصيني يتطلَّبُ مقاومةً دائمة لأيِّ محاولةٍ للتأثير الخارجي. أما واشنطن فترى في سلوك الصين—من عسكرة بحر الصين الجنوبي إلى تهديد تايوان ودعم روسيا—دليلًا قاطعًا على عداءٍ مُتأصِّلٍ لا يُمكِنُ التعايشُ معه إلّا من موقع الردع. وهكذا أصبحت العلاقة بين الطرَفَين قائمة على معرفةٍ مُتبادَلة لا على سوءِ فهم: كلُّ طرفٍ يعرفُ تمامًا ما يريده الآخر، ويعلم أنَّ تحقيقه يعني خسارته هو.

لهذا السبب تبدو فكرة “الانفراج” أو “التهدئة” أقرب إلى الوَهمِ منها إلى السياسة. التاريخُ الحديثُ مليءٌ بأمثلةٍ على سلامٍ زائفٍ سبق العواصف الكبرى: “الصداقة” البريطانية-الألمانية قبل الحرب العالمية الأولى، و”الاسترضاء” في الثلاثينيات، و”الانفراج” الأميركي-السوفياتي في السبعينيات، كلُّها فتراتٌ قصيرة خُيِّلَ فيها للناس أنَّ الحوار سيمنع الحرب، لكنه في الواقع أخفى الاستعداد لها. في كلِّ تلك الحالات، لم يكن الحوارُ خطأً، بل الإيمانُ المُفرِط بقدرته على حلِّ ما لا يمكن حلّه.

لقاءُ سيول لم يخرج عن هذا النمط. فبعد أيام من القمة، حلّقت الطائرات الصينية مُجَدَّدًا قرب أجواء تايوان، وأعلنت وسائل الإعلام الرسمية أنَّ “واشنطن اعترفت بمكانة الصين العالمية”. حتى في لحظاتِ المجامَلة، تحوّلَ اللقاءُ إلى أداةِ دعايةٍ تُعزّزُ رواية الحزب الشيوعي لا تُضعِفها. هذه هي مفارقة “السلام المؤقت” بين القوى الكبرى: كلُّ إيماءةِ حُسنِ نيّة تُصبِحُ سلاحًا جديدًا في المعركة الرمزية على الهيمنة.

ما تحتاجه الولايات المتحدة اليوم ليس وَهمًا آخر بالتصالح، بل وضوحًا استراتيجيًا وصبرًا طويل النفس. الاحتواء، رُغمَ سمعته السيئة، يبقى الطريق الأكثر واقعية للحفاظ على السلام. ليس المقصود به القطيعة أو الحرب، بل مزيجٌ من الردع، والتحالف، وبناء القدرة الذاتية قبل التفاوض. السلام لا يُشترى بالتنازُلات، بل يُصانُ بالقوة والانضباط. الديبلوماسية ضرورة، لكنها أداةٌ للقوة لا بديلًا منها.

الصين نفسها لم تَعُد في موقع الصعود غير المحدود كما كان يُعتَقَدُ قبل عقد. اقتصادها يئنُّ تحت وطأة الديون والشيخوخة، وأسواقها تفقد ثقة المستثمرين، ومبادرة “الحزام والطريق” التي كانت مفخرة بكين أصبحت عبئًا ماليًا وسياسيًا. هذه ليست أزمات عابرة، بل أعراضٌ لنظام يُقدّمُ السيطرة على الإبداع، ويخنق طاقاته في سبيل الأمن الداخلي. وفي المدى المتوسط، قد تكتشف بكين أنَّ طموحها الإمبراطوري أثقل من قدرتها على تحمّله. عندها فقط قد تنشأ فرصة حقيقية لتسوية مستقرة، وليس لأنَّ واشنطن أقنعتها، بل لأن موازين القوة تغيّرت.

من الخطَإِ أن تستعجل الولايات المتحدة “صفقةً” مع الصين بدافع الخوف من المواجهة أو الإرهاق من التنافس بعد لقاء سيول. التسرُّعُ في البحث عن انفراجٍ قد يقودُ إلى تنازلاتٍ تُفسَّرُ ضُعفًا وتُشجّعُ المغامرة الصينية في آسيا. فالقوة، لا المشاعر، هي ما سيحفظ السلام. المهمة المقبلة ليست كسب ود بكين، بل منع أي سوء تقدير – إقناع الصين بأنَّ العدوان سيفشل، وأنَّ التعايُشَ لا يمكن أن يتحقّقَ إلّا ضمن حدودٍ واضحة.

لقاءُ ترامب وشي لم يكن نقطةَ تحوُّلٍ بقدرِ ما كان عرضًا سياسيًا. مثل هذه العروض قد تكون مفيدة لتبريد الأجواء، لكنها لا تُغيّرُ جوهر المعادلة. المهم ليس كم كانت المصافحة حارة أو الكلمات ودّية، بل مدى ثبات السياسة الأميركية عندما تنتهي الأضواء وتعود الواقعية إلى الميدان.

لقد خدع سرابُ السلام أميركا من قبل. وعليها هذه المرة ألّا تُكرّرُ الخطأ. فمنافساتٌ كهذه لا تنتهي بمؤتمرات قمة أو ابتسامات، بل بالواقعية وضبط النفس والوقت. وإلى ذلك الحين، تستطيع الديبلوماسية إدارة العاصفة، لكنها لا تستطيع أن تُهدّئ البحر.

  • كابي طبراني هو ناشر ورئيس تحرير مجلة وموقع “أسواق العرب” الصادرَين من لندن. ألّف خمسة كتب بالعربية والإنكليزية من بينها “شتاء الغضب في الخليج” (1991)، “الصراع الإسرائيلي-الفلسطيني: من وعد بلفور إلى إعلان بوش” (2008)؛ “كيف تُخطّط إيران لمواجهة أميركا والهَيمَنة على الشرق الأوسط” (2008)؛ و”معاقل الجهاد الجديدة: لماذا فشل الغرب في احتواء الأصولية الإسلامية”، (2011). يُمكن متابعته عبر موقعه الإلكتروني: gabarielgtabarani.com أو عبر منصة “إكس” على:  @GabyTabarani

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى