لا يحِقُّ للشاعر ما يحقُّ لجميع الناس
هنري زغيب*
فَلْنَتّفِقْ أَوَّلًا مع أَمين نخلة أَنَّ “الفن يعيش في الصعوبة، ويموت في السهولة والاستسهال”. وَلْنَتَّفِقْ مع عاصي الرحباني أَنَّ “الفن هو ابنُ الوعي”… ومن هنا نبدأ.
في السائد المغلوط، والمسموم والمؤْذي، القولُ: “يحِقُّ للشاعر ما لا يحِقُّ لغيره”. وتحت هذه المقولة الخانعة الغبيَّة يتلطَّى الكثيرون من الأُميين والفاشلين والتافهين، ليكتُبوا كيفما اتفق، من دون قاعدةٍ ولا نظامٍ ولا أُصولٍ ولا ضوابط، ويُصدِروا هذَرَهم وهذيانهم وتوافهَهُم، متحجِّجين بالمقولة الرعناء: “يحِقُّ للشاعر ما لا يحِقُّ لغيره”.
مش صحيح. أَبدًا مش صحيح. وتحت أَيِّ تبرير وتفسير وتقرير: مش صحيح.
الشاعرُ الشاعر (المكرَّسُ قواعدَ ونُظُمًا وانضباطًا) هو الذي يلتزمُ الأُصولَ والقواعدَ والنُظُم، ويحترمُها وينضوي في حَرَمها، ويُبدعُ من ضمنِها، وباحترامه إِياها، لا بانتهاكها وإِطاحتها وتجاوُزِ كلِّ ما فيها، بل بالتواصُل معها في دقةٍ وانضباطٍ واحترام.
هذا التواصلُ يخلُقه الخضوعُ للأُصول: ما دفَعَ ليوناردو داڤنتشي إِلى الاستغراق أَشهرًا طويلة في رسم شَفَتَي الموناليزا، لم يكن مجرَّدَ التجويد في ضَربة الريشة، بل كان البحثَ عن اللحظة الأَجمل، لإِعطاء الشعور الأَجمل، بأَنْ يظلَّ السؤالُ الأَجملُ من دون جواب: هل هي بسمةُ حزن على شفتَيْها؟ أَم بسمةُ رضى؟ أَم شُرود؟
الضوابطُ والأُصولُ ضروريةٌ لازمة، تتطوَّر مع العصر في كلّ عصر. أَما التقصير عن هذه الأُصول بِحجّة “الحداثة” – وهي الكلمةُ التي يتحجَّج بها الدخلاء الطارئون والطافرون الأُميون والرُعَناء النافرون (في الشعر والرسم والنحت والموسيقى وسواها من أَقاليم الفن)، فـ”الحداثة” حجةٌ للاستسهال بتقديم “وجبة سريعة” من الكتابة، لا تكلِّف صاحبَها التشدُّدَ في الأُصولِ والقواعد والنُظُم والضوابط لخلق الجمال. وهذا ما يؤدّي إِلى استسهال التأْليف، وسهولة النتاج، وسقوطِ العمل في النسيان، وسرعةِ اندثاره في مَطمَر السهولة.
الالتزامُ بالأُصول يضمَن متانة الأَثر الفني وديمومتَه في الزمن. تمامًا كما التزامُ الطبيبِ أُصولَ الطب يضمَن شفاءَ المريض، والتزامُ الصيدليِّ أُصولَ تركيبِ الدواء يضمَن فاعلية الدواء، والتزامُ المهندسِ أُصولَ القواعد الهندسية يضمَن صلابة البناء فلا ينهار.
وإِذا المادةُ الإبداعية (كلمة، لون، نوتة موسيقية، حجر، خشب، معدن، …) هي “ما” يشكِّل بها المبدعُ عملَه (وهي مطروحةٌ للجميع من دون استثناء ولا استئذان)، فالأَساسُ يبقى “كيف” يتناولُ المبدعُ هذه المادة، فيجعل منها خصوصيَّته، ليَطْلَعَ بها على الناس عملًا يتَحوَّل بين يديه من عامٍّ (متوافر للجميع) إِلى خاصٍّ (لا يُشْبه إِلَّا صاحبه).
إِذًا، ادعاء “يحِقُّ للشاعر ما لا يحِقُّ لغيره” مش صحيح. أَبدًا مش صحيح. فلتسقُطْ هذه المقولةُ الرعناء، وليلتزمِ الشاعرُ أَكثرَ من غيره بالقواعد والنُظم والأُصول ويولِّدْ منها الجمال،فالفنُّ وليدُ الجمال ومُوَلِّدُه في آن. يأْتي منه ويؤَدِّي إِليه. أَمَّا الرَغْوُ واللَغْوُ والسَهْوُ في العمل الفني، فحجةُ ضعفاء قاصرين عن تطْبيق النُظُم، يروحون يُنظِّرون به، ويخترعون لفهمِه التبرير والتفسير والتقدير والتقرير والتنظير. وكلُّ عملٍ يحتاج إِلى صاحبه يكونُ معه ليشرحَ ما فيه، هو عملٌ ساقطٌ بسقوط صاحبه في الغياب والنسيان.
لذا لا يحِقُّ للشاعر اتباعُ السهولة والاستسهال (كما ينظِّر القاصرون الأُميون والجهَلة)، بل عليه الالتزامُ التقني والمهني والإِبداعي بالأُصول. منها يجدِّدُ لا من خارجها. وعندئذٍ يضمَن لشعره البقاءَ، ما بقيَ في العالم إِبداعٌ وتجديدٌ والْتماعُ جمال.
- هنري زغيب هو شاعر، أديب وكاتب صحافي لبناني، مدير مركز التراث في الجامعة اللبنانية الأميركية، مدير “صالون فيلوُكَاليَّا الأدبي”، ورئيس “اللجنة الوطنية اللبنانية لنشر الإبداع اللبناني”. يُمكن التواصل معه عبر بريده الإلكتروني: email@henrizoghaib.com أو متابعته على موقعه الإلكتروني: www.henrizoghaib.com أو عبر منصة (X): @HenriZoghaib



