لماذا يَحتاجُ العالم إلى إعادةِ تأسيس؟

كابي طبراني*

يَقِفُ العالمُ اليوم على مُفتَرَقِ طُرُقٍ حاسم. فبعدَ أكثر من ثمانيةِ عقودٍ على انعقادِ مؤتمر “بريتون وودز” في العام 1944، الذي أرَسَى أُسُسَ النظام الاقتصادي الدولي الحديث، يَجِدُ هذا النظام نفسه أمامَ أزمةِ ثقة غير مسبوقة. إذ تتصاعدُ الحروبُ التجارية، وتتعمّقُ حالةُ الشلل في المؤسّسات الدولية، فيما تتفاقَمُ أزمةُ المناخ بوتيرةٍ مُقلقة. وفي الوقت الذي تشتدُّ الحاجةُ إلى تعزيزِ التعاوُنِ بين الدول، تتهاوى أُسُسُ التعدّدية التي شكّلت الإطارَ الحاكم للعلاقات الدولية منذ نهاية الحرب العالمية الثانية.

قد يبدو، في ظلِّ تصاعُدِ النزعات القومية والمُنافسات بين القوى الكبرى، أنَّ التعدّدية فَقَدَت معناها أو تجاوزها الزمن. لكن هذا استنتاجٌ خطير. فالعالمُ المُترابِطُ اليوم أكثر من أيِّ وقت مضى يحتاجُ إلى مزيدٍ من التعاوُنِ لا إلى الانكفاء والانقسام. المسألةُ ليست ما إذا كانت التعدُّدية يجب أن تستمر، بل كيفَ يُمكِنُ إعادة تصوّرها لتُلائمَ واقعَ القرن الحادي والعشرين. نحن نعيشُ بالفعل لحظةَ “بريتون وودز” جديدة، تتطلّبُ إعادةَ بناءٍ جريئة للنظام الدولي، لا مجرّد إصلاحاتٍ شكلية.

المؤسّسات التي تُنظّمُ التعاونَ العالمي –صندوق النقد الدولي، والبنك الدولي، ومنظمة التجارة العالمية– وُلِدَت في زمنٍ مختلف: زمن هيمنة أميركية، واقتصادات صناعية، وتجارة قائمة على السلع المادية. لقد أدّت تلك المؤسّسات دورًا محوريًا في دَعمِ النظامِ القائم على القواعد الذي عزّزَ النمو الاقتصادي ووسّع التجارة وانتشلَ مليارات البشر من الفقر. غير أنَّ العالمَ الذي أنشِئت لإدارته تغيّرَ جذريًا. النظامُ الذي افترضَ وجودَ قوة عظمى واحدة تُؤمِنُ بالأسواق المفتوحة لم يَعُد قائمًا. المشهدُ الجيوسياسي اليوم مُتعدِّدُ الأقطاب، تحكمه المنافسةُ بين الولايات المتحدة والصين، وتحالفاتٌ متقلّبة، وتصاعدٌ للحمائية الاقتصادية. الثورةُ الرقمية بَدّلت أُسُسَ التجارة والتمويل، فيما يُعيدُ الذكاءُ الاصطناعي والتقنيات المالية تشكيلَ الاقتصاد بوتيرةٍ تفوق قدرة القوانين الحالية على مواكبتها. أمّا أزمة المناخ، فقد أعادت تعريفَ معنى “الاستقرار الاقتصادي” ذاته.

هذا التحوّلُ العميق كشفَ عن حدودِ النظام القديم. فالمؤسّسات المُصَمَّمة لعالم القرن العشرين باتت عاجزة عن إدارةِ تعقيداتِ القرن الحادي والعشرين.

إنَّ إخفاقَ المؤسّسات مُتعدّدة الأطراف في التكيُّفِ مع هذه التحوُّلات العالمية له كلفة بشرية باهظة. فحين تفشلُ الدولُ في التعاوُن، يكون المواطنون هم الخاسر الأكبر. لقد أظهرت جائحة “كوفيد-19” ذلك بوضوح: احتكرت الدول الغنية اللقاحات فيما انتظرَت الدول الفقيرة دورها في طوابير الإمدادات. ويتكرّرُ المشهدُ نفسه اليوم في قضايا تمويل المناخ والتكيُّف مع التغيُّر البيئي. وفي الوقت نفسه، تُهدّدُ الحروبُ التجارية وتَراجُعُ سلاسل الإمداد بتفتيتِ الاقتصاد العالمي. ويُحذّرُ صندوق النقد الدولي من أنَّ “التشرذُمَ الجيواقتصادي” قد يُكلّفُ الاقتصاد العالمي تريليونات الدولارات. ولن تقتصرَ الخسارة على الدول النامية، بل سيطالُ الضرَرُ أيضًا العمال في الاقتصادات المُتقدّمة الذين تعتمدُ وظائفهم على التجارة والاستقرار المالي العالمي. إذا انهارَ التعاوُنُ الدولي، فلن يكونَ هناك منتصرون – بل هشاشةٌ مُشترَكة تطالُ الجميع. وحتى الولايات المتحدة، التي قادت إنشاء النظام الدولي بعد الحرب، لن تكونَ بمنأى عن ذلك.

لقد أدركَ قادةُ العالم بعد الحرب العالمية الثانية أنَّ أفضلَ وسيلةٍ لحمايةِ المصالح الوطنية هي من خلال التعاوُن الدولي، لا الانعزال. هذه الحقيقة لا تزالُ قائمة اليوم. غير أنَّ النظامَ الذي بنوه آنذاك يحتاجُ الآن إلى إعادةِ اختراع جذرية. فالإصلاحُ لا يُمكِنُ أن يقتصرَ على تعديلاتٍ طفيفة في نسب التصويت أو أدوات التمويل، بل يجب أن يبدأ من السؤال الجوهري: ما هي التحدّيات التي تتطلّبُ حلولًا عالمية؟ وأيُّ مؤسّساتٍ جديدة نحتاجها لمواجهتها؟

التحدّياتُ الكبرى لعصرنا –التغيُّر المناخي، الأوبئة، حَوكمة التكنولوجيا الرقمية، والاستقرار المالي– هي قضايا عابرة للحدود، لا تستطيعُ أيُّ دولةٍ معالجتها بمفردها. ومع ذلك، فإنَّ المؤسّسات الحالية لم تُصَمَّم لهذا الغرض. يجب أن يتحوَّلَ النظامُ المُتعدّد الأطراف من نموذجِ التنمية القُطرية إلى نموذجٍ يُركّزُ على إدارة “المنافع العامة العالمية” والمخاطر المشتركة. يُمكِنُ مثلًا إعادة توجيه البنك الدولي والبنوك الإقليمية للتنمية نحو تمويل التحوُّل الأخضر ومشاريع التكيُّف المناخي، مع تعبئة رأس المال الخاص على نطاقٍ واسع. كما ينبغي تحديثُ دورَ صندوق النقد الدولي لمُواكبة التطوُّرات في العملات الرقمية وتقلّبات التدفّقات المالية. أما منظمة التجارة العالمية، التي أصابها الجمود، فيجب إمّا إصلاحها بعمقٍ أو استبدالها بآلياتٍ جديدة لتنظيم التجارة الرقمية ومنع تفكُّك النظام التجاري العالمي. والأهم أنَّ أيَّ نظامٍ جديد يجب أن يكونَ أكثر شمولًا وتمثيلًا. فالدولُ الصاعدة، التي باتت تقودُ النمو العالمي، لا يُمكنُ أن تظلَّ على هامش صناعة القرار. من دونِ شرعيّة، لا يُمكِنُ الحديث عن قيادةٍ حقيقية.

الولايات المتحدة، أكثر من أيِّ دولةٍ أخرى، استفادت من النظام الدولي القائم على القواعد. فأسواقُ العالم المفتوحة عزّزت ازدهارها، وهيمنة الدولار منحتها نفوذًا ماليًا هائلًا، وقيادتها للمؤسّسات الدولية رسَّخت مكانتها السياسية والاقتصادية. التراجُعُ عن هذا الدور اليوم سيكونُ بمثابةِ التخلّي عن موقعِ الريادة التاريخي. ومع ذلك، تراجعت القيادة الأميركية في السنوات الأخيرة تحت ضغط الانقسامات الداخلية وصعود النزعات الانعزالية. لكنَّ الانسحابَ ليس استراتيجية، بل استسلام. فحينَ تتراجَعُ واشنطن، سيملأ الآخرون الفراغ، وستُكتَبُ قواعدُ النظام المقبل من دون مشاركتها – وهذا لا يخدم المصالح الأميركية ولا الاستقرار العالمي.

إنَّ إعادةَ تأكيد القيادة الأميركية لا تعني تحمُّل الأعباء وحدها، بل صياغةُ رؤية جديدة تربُطُ المصالح الوطنية بالأولويات العالمية: الأمن المناخي، الحوكمة الرقمية، والتجارة المستدامة. وتمنحُ رئاسة الولايات المتحدة المقبلة لمجموعة العشرين فُرصةً ثمينة لتبنّي هذه الأجندة. وكما قال وزير الخزانة الأميركي هنري مورغنثاو في ختام مؤتمر “بريتون وودز”: “إنَّ الطريقةَ الأكثر حكمةً وفعالية لحماية مصالحنا الوطنية هي عبر التعاون الدولي”. هذه الحكمة، التي وُلِدَت من رحم أزمات الثلاثينيات، لا تزالُ درسًا صالحًا لعصرنا.

النظامُ المُتعدّد الأطراف يترنّحُ تحت وطأة التغيُّرات المُتسارعة، لكنَّ الأزماتَ يُمكِنُ أن تكونَ أيضًا فُرَصًا للنهضة. والسؤال اليوم: هل ستغتنمُ الولايات المتحدة والعالم هذه اللحظة لإعادة تصوُّرِ التعاون الدولي، أم سيُترَكُ النظامُ يتداعى حتى يفقد جدواه؟ التاريخُ يُعلّمنا أنَّ الانعزالَ يُولّدُ الفوضى، وأنَّ التعاونَ –رُغمَ عيوبه– يظلُّ أفضلَ رهانٍ للبشرية نحو ازدهارٍ مشترك. لقد تغيّرَ العالم، وحانَ الوقتُ لأن تتغيَّرَ التعدُّدية معه.

  • كابي طبراني هو ناشر ورئيس تحرير مجلة وموقع “أسواق العرب” الصادرَين من لندن. ألّف خمسة كتب بالعربية والإنكليزية من بينها “شتاء الغضب في الخليج” (1991)، “الصراع الإسرائيلي-الفلسطيني: من وعد بلفور إلى إعلان بوش” (2008)؛ “كيف تُخطّط إيران لمواجهة أميركا والهَيمَنة على الشرق الأوسط” (2008)؛ و”معاقل الجهاد الجديدة: لماذا فشل الغرب في احتواء الأصولية الإسلامية”، (2011). يُمكن متابعته عبر موقعه الإلكتروني: gabarielgtabarani.com أو عبر منصة “إكس” على:  @GabyTabarani

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى