رَقصَةُ إيران الخطيرة مع الغموضِ النووي
كابي طبراني*
عندما وَقّعَ الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان في تموز (يوليو) الفائت قانونًا يُعلّقُ تعاون بلاده مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية، كان ذلك لحظة فاصلة في مسار البرنامج النووي الإيراني المستمر منذ عقود. فهذه هي المرة الأولى منذ انضمامِ إيران إلى معاهدة حظر انتشار الأسلحة النووية في العام 1970 التي تغلق فيها طهران أبوابها أمام المُفتِّشين الدوليين. جاء القرار في أعقاب حرب الاثني عشر يومًا المدمّرة، التي شنّت خلالها إسرائيل والولايات المتحدة ضربات مُنَسَّقة على منشآت نووية إيرانية في نطنز وفوردو وأصفهان. وقد برّرت طهران هذه الخطوة بأنها إجراءٌ مؤقّت يهدف إلى “ضمان أمن المنشآت النووية”، لكن خلف هذا التبرير يختبئ تحوّلٌ أخطر: انجرافٌ مَحسوب نحو سياسة الغموض النووي، أي التعمّد في إخفاء القدرات النووية الحقيقية.
لعقودٍ، انتهجَت إسرائيل هذه الاستراتيجية ذاتها، فلا هي تعترفُ بامتلاكها سلاحًا نوويًا ولا تنفيه. أما إيران، فتبدو اليوم وكأنها تُجَرِّبُ نسختها الخاصة من هذا النموذج. غير أنَّ محاولتها تقليد سياسة إسرائيل في الغموض لا تعكس ثقة بالنفس، بل ضُعفًا واضحًا. فبينما تستندُ سياسة تل أبيب إلى تحالفاتٍ قوية وبُنية تحتية صلبة وقدرة عالية على ضبط المعلومات، تفتقرُ إيران إلى جميع هذه المقوِّمات. وقد كشفت هجمات حزيران (يونيو) الماضي هشاشتها العميقة: اختراقاتٌ استخباراتية أجنبية، تسريباتٌ داخلية، ومواقعُ تخصيبٍ مَكشوفة. لقد دمّرت الضربات الإسرائيلية أجزاءً من البرنامج النووي الإيراني وقتلت علماءً بارزين، ما أكّدَ أنَّ طهران لا تملك القدرة على حماية أسرارها. فكيف يُمكِنُ لدولةٍ أن تخفي ما يعرف خصومها كيف يصلون إليه؟
حتى الحليفان التقليديان لإيران، مثل روسيا والصين، لا يُظهِران رغبةً في دَعمِ طموحاتها النووية. فكلا البلدين يعتمدان على استقرار النظام العالمي لمنع الانتشار النووي، ولن يُجازفا بتقويضه عبر مساندة طهران. بالنسبة إلى موسكو وبكين، تبقى إيران شريكًا مفيدًا في مواجهة النفوذ الغربي، لكنها ستكون عبئًا خطيرًا إن امتلكت سلاحًا نوويًا يُهدّدُ استقرارَ مناطق نفوذهما.
في الداخل الإيراني، يَحتدمُ الجدلُ حول المسار النووي المقبل. فالفصائل المُتشدَّدة، التي ازدادت جرأةً بعد الحرب الأخيرة، تدعو علنًا إلى “مرحلةٍ من الصمتِ والغموض” وتقول إنَّ عدمَ الوضوح سيردَعُ الأعداء عن الهجوم مُجدَّدًا. أحد النواب تفاخَرَ أخيرًا قائلًا: “الولايات المتحدة والوكالة الدولية لا تعلمان أينَ نُخزِّنُ اليورانيوم المُخَصَّب”. بل ذهب بعض المسؤولين أبعد من ذلك، مطالبًا بتطويرِ قدراتٍ لإنتاج السلاح النووي نفسه. لكنَّ القيادة الإيرانية تواجه عائقًا عقائديًا عميقًا: الفتوى التي أصدرها المرشد الأعلى علي خامنئي والتي تُحرِّمُ إنتاجَ أو استخدام السلاح النووي. هذه الفتوى كانت على مدى سنوات الركيزة الأخلاقية لادِّعاء طهران أنَّ برنامجها النووي سلمي بالكامل. والتراجُعُ عنها الآن سيُقوِّضُ شرعيةَ النظام نفسه، رُغمَ أنَّ أصواتًا بدأت ترتفع مُطالبةً بمُراجعتها.
حتى من دون المساس بالفتوى، أحدث القانون الجديد تغييرًا جذريًا في المشهد الديبلوماسي. فبوقف التعاون مع الوكالة الدولية، خلقت إيران فراغًا رقابيًا خطيرًا. وردّ الاتحاد الأوروبي بتفعيل آلية “العودة التلقائية للعقوبات”، ليُعيدَ فرضِ العقوبات الأممية التي رُفِعَت بموجب الاتفاق النووي لعام 2015. وفي الوقت نفسه، تشير تقارير الوكالة إلى أنَّ مخزون إيران من اليورانيوم المُخَصَّب ارتفعَ بنحو خمسين في المئة خلال الأشهر الأخيرة، وهو ما يكفي لصنع قنابل نووية عدة إذا تمَّ تخصيبه بدرجةٍ أعلى.
الولايات المتحدة، تحت إدارة دونالد ترامب الثانية، أعادت فتحَ قناةٍ تفاوضية محدودة مع طهران في سلطنة عُمان، لكن التقدّمَ فيها شبه معدوم. فالرئيس الأميركي يتأرجح بين سياسة “الضغط الأقصى” وحديثٍ غامض عن “اتفاقٍ أفضل”. أما الإيرانيون فيُطالبون برفع العقوبات أوّلًا، فيما تصرُّ واشنطن على القيود والرقابة قبل أيِّ تخفيف. النتيجة هي جمودٌ تام: لا اتفاق، ولا ثقة، ولا تفتيش. وفي هذا الفراغ، بات الغموض هو ورقة إيران الوحيدة.
لكنَّ الغموضَ درعٌ هشّ. فالتاريخ مليء بالدروس القاسية. العراق حاول إخفاء برنامجه النووي في الثمانينيات، فانتهى بقصف مفاعل “أوزيراك”. وليبيا سارت في طريق الغموض نفسه قبل أن تتخلّى عن مشروعها خوفًا من العزلة. كلا البلدين افتقرا إلى الحماية والتحالفات التي تجعل الغموض مستدامًا، وإيران تسير على الدرب ذاته. فسياسةُ الغموض التي تتبعها لن تردع الهجمات، بل قد تستجلبها من جديد.
في نظر إسرائيل والولايات المتحدة، إخفاء الأنشطة النووية ليس وسيلة ردع، بل استفزازٌ صريح. وقد أعلن القادة الإسرائيليون مرارًا أنهم لن يسمحوا لإيران بامتلاكِ سلاحٍ نووي “مهما كان الثمن”. وضربات حزيران (يونيو) الماضي كانت رسالة واضحة بأنَّ إسرائيل مستعدة للتحرُّك من جديد. وكلُّ هجومٍ جديد يُعمّقُ شعورَ طهران بالحصار ويدفعها أكثر نحو العناد، لتقترب من العتبة النووية التي تزعم أنها لا تريد تجاوزها.
إنَّ سعي إيران إلى الغموض لن يمنحها الأمان بل العزلة. فالردعُ الحقيقي يقوم على المصداقية لا على الالتباس. سياسةُ إسرائيل تردع لأن العالم يؤمن بقدراتها الخفية ويُصدّقها، أما سياسة طهران فتوحي بالخداع. النتيجة المتوقعة هي مزيد من الشكوك، مزيد من العقوبات، ومزيد من المخاطر. والأسوأ أنَّ هذا المسار قد يقوّضُ نظام حظر الانتشار الدولي كله، لأنَّ التسامح مع الغموض يشجّعُ الآخرين على تقليده.
ورُغمَ كلِّ ذلك، لا تزال هناك نافذة ضيِّقة للأمل. يمكن لإيران أن تستأنف تعاونها مع الوكالة الدولية ضمن إطارٍ جديد يضمنُ أمن منشآتها ويؤكد في الوقت نفسه حقها في الاستخدام السلمي للطاقة النووية. وفي المقابل، يمكن للولايات المتحدة وأوروبا تقديم تخفيف تدريجي للعقوبات، وضمانات أمنية محدودة، والاعتراف بحق طهران في التخصيب المدني. لن يكونَ هذا مكافأة على التحدّي، بل خطوة لإنقاذ ما تبقّى من الديبلوماسية ومنع اندلاع مواجهة جديدة.
لكنَّ الوقتَ يَنفُد. فكلُّ يومٍ من الصمت يضاعف خطر سوء التقدير والانزلاق نحو الحرب. وإذا تحوّلَ الغموض إلى تسليح علني، فلن تكون الديبلوماسية خيارًا، بل ذكرى بعيدة. قد تظنُّ إيران أنَّ الغموضَ يمنحها ورقة ضغط، لكنه في الواقع يفتحُ باب الكارثة. فالردعُ المبني على الظلام لا يصمُدُ طويلًا؛ إنه مجرّدُ عَدٍّ تنازلي نحو الانفجار المقبل.
- كابي طبراني هو ناشر ورئيس تحرير مجلة وموقع “أسواق العرب” الصادرَين من لندن. ألّف خمسة كتب بالعربية والإنكليزية من بينها “شتاء الغضب في الخليج” (1991)، “الصراع الإسرائيلي-الفلسطيني: من وعد بلفور إلى إعلان بوش” (2008)؛ “كيف تُخطّط إيران لمواجهة أميركا والهَيمَنة على الشرق الأوسط” (2008)؛ و”معاقل الجهاد الجديدة: لماذا فشل الغرب في احتواء الأصولية الإسلامية”، (2011). يُمكن متابعته عبر موقعه الإلكتروني: gabarielgtabarani.com أو عبر منصة “إكس” على: @GabyTabarani