إيران على حافَةِ التَحَوُّل: بينَ نهايةِ العمامة وبدايةِ القَبضَةِ الحديدِيّة

كابي طبراني*

تقتربُ إيران من لحظةٍ مفصلية نادرة؛ انتقالٌ مُحتَمَل للقيادة يتزامَنُ مع أزمةِ كفاءةٍ وثقةٍ بالحكم. الحربُ الأخيرة التي كشفت ثغراتَ الدفاع الجوي، وأتاحت ضرباتٍ مُوجِعة لبُنى نووية لم تُصِب صورةَ النظامِ فحسب، بل خرقت أسطورةَ “المناعة” التي بناها على مدى عقود. ما سيأتي لن تَحسُمَهُ الشعارات، بل جوابٌ عن سؤالٍ أبسط وأقسى: مَن يستطيعُ إدارةَ دولةٍ مُنهَكة من دونِ أن يجرَّها إلى مغامرةٍ جديدة؟ بعدَ خمسةٍ وأربعين عامًا من الأدلجة، قد يكونُ الاقتدارُ الإداري هو الفكرة الأكثر ثورية.

تُرسَمُ أمامَ إيران سيناريوهات مُستَلهَمة من تجارب أخرى: نموذجٌ روسي يقومُ على رجلٍ قوي يُزاوِجُ الأمنَ بالثروة والإعلام؛ نموذجٌ صيني يُقدّمُ البراغماتية والنمو مقابل الطاعة؛ نموذجٌ كوري شمالي يُضاعفُ العزلة والقمع لشراء “الأمن” النووي؛ نموذجٌ باكستاني تُصبحُ فيه الدولة مُلحقًا بمؤسّسةٍ عسكرية مُتَغوّلة؛ أو نموذجٌ تركي يستندُ إلى تعبئةٍ انتخابية تتحوّلُ مع الوقت إلى أكثَريةٍ مُطْلَقة تُقصي خصومها. لا حتميةً لأيٍّ منها، لكن جميعها يتوقّفُ على بُنيةِ المؤسّسات وميزان القوى داخل الأجهزة، وعلى استعدادِ النُخب لمُقايضَةِ العقيدة بالأداء.

حجّةُ التفاؤل الوحيدة هي المجتمع الإيراني نفسه: شعبٌ مُتعلّم، واسعُ الارتباط بالعالم، سَئِمَ من الوصاية على اللباس والموسيقى والحياة الخاصة. المطلبُ الأكثر شعبية ليس “الموت لِـ…” بل “حياة طبيعية”. غيرَ أنَّ التاريخَ يُعلّمُ أنَّ الإيديولوجيات الشمولية نادرًا ما تتبخّرُ إلى ديموقراطية ليبرالية؛ غالبًا تنهارُ إلى سخرية عامة وسُلطةٍ بديلة تُصادِرُ الرموز الوطنية وتحتفظُ بأدوات السيطرة. وإيران ليست استثناءً من هذا الجذب الثقيل نحو السلطوية.

خذوا مثلًا سيناريو “إيران كروسيا”. فَشَلُ المشروع السوفياتي لم يُنتِج نهضةً مدنية بل “بوتينية” جمعت بين شبكاتِ الأمن وطبقة الأوليغارشيات وقومية جريحة. النظيرُ الإيراني قد يكون جنرالًا سابقًا في الحرس الثوري أو الاستخبارات يَستبدلُ الخطابَ الديني بقاموس وطني متحفّز، ويَعِدُ بالكرامة والنظام واستعادة المكانة، مع الإبقاء على ترسانةِ القمع والحروب بالوكالة وحافة النووي. هذا ليس خيالًا؛ فالحرس الثوري اليوم يعتلي مفاصل الاقتصاد والإعلام والسياسة. إزالةُ العمامة لا تعني إزالة العصا، بل غالبًا توحيدها تحت قبضةٍ واحدة.

أما “الخيار الصيني” فيُغري قطاعاتٍ واسعة: تهدئةٌ خارجية، تسويةٌ مع الغرب، وتركيزٌ على النمو وخدمات الناس. لكنه أصعب تنفيذًا في اقتصادٍ ريعي أنهكته العقوبات وهجرة الرساميل وشبكات المحسوبية. حوافز الحرس الثوري والمجمّع الأمني/التجاري مَبنيةٌ على بقاء العقوبات والاقتصاد المُوازي، لا على الانفتاح والشفافية. نجح دنغ شياوبنغ في الصين لأنه رَفَعَ الفقر عن مئات الملايين من الصينيين بسرعة جعلت صفقة “الطاعة مقابل الازدهار” مقبولة. إيران، حتى مع انفراجٍ نسبي، لن تملكَ هذا العائد السريع. محاولةُ التحوّل بلا مكاسب ملموسة ستُغضب القاعدة وتفشل في كسب الوسط.

سيناريو “إيران ككوريا الشمالية” أكثر فظاظةً وأقل استدامة: توريثٌ أو تصلّبٌ ديني يُضاعفُ القبضة داخليًا ويُسرّعُ نحو ردعٍ نووي. لكن إيران لا تستطيع إغلاق نوافذها على العالم: جغرافيا مكشوفة، خصومٌ ذوو ذراعٍ طويلة، وطبقاتٌ شابة وشتاتٌ ضخم يثقب أيَّ ستارِ حديدي. قد يُطيلُ هذا السيناريو عُمرَ المنظومة، لكنه يُسرّعُ في الوقت نفسه مقوّمات انهيارها: اقتصادٌ أضيق، مجتمعٌ أكثر احتقانًا، وشرعيةٌ تتآكل.

الأقربُ إلى منطق البُنية الراهنة قد يكون “النموذج الباكستاني”: دولةٌ تُدارُ من مؤسّسةٍ عسكرية/أمنية تُمسِكُ بالحدود والصواريخ والإعلام والقطاعات المُربِحة، وتُقدّمُ نفسها كمُنقذٍ من الفوضى التي سمحت بتفاقمها. عمليًا، هذا توصيفٌ لِما هو قائمٌ جُزئيًا. لكن أزمة شرعية الحرس الثوري عميقة؛ فبين شرائح واسعة من الإيرانيين يُنظَرُ إليه كفاعلٍ اقتصاديٍ جشِع أكثر منه حارسًا للوطن. ليدوم هذا النموذج يحتاج إلى تعهُّدٍ داخليٍ جاد: تفكيكُ جُزءٍ من الفساد، كَبحُ المغامرة الإقليمية، وتقديمُ خدماتٍ سريعة وملموسة. وهو التزامٌ هشّ، مرهونٌ بأسعار النفط وبأيِّ انفراجٍ أو انتكاسٍ في العقوبات.

هل يُمكِنُ لصناديق الاقتراع أن تفتحَ منفذًا مختلفًا؟ النموذجُ التركي يوحي بمسارٍ حيث تعبئة واسعة تُنتجُ تفويضًا شعبيًا يتحوّل، مع الزمن، إلى سلطوية انتخابية تستندُ إلى أكثريةٍ ثابتة. كي تسلكَ إيران هذا الطريق عليها تفكيك نقاط “الفيتو” الدينية (مكتب المرشد الأعلى، مجلس صيانة الدستور)، وإعادة مأسسة الحرس كجيشٍ مهني، وتوسيع صلاحيات المجالس المحلية. هذه الأخيرة “مؤسّسات ثُنائية الاستخدام” قادرة على تمرين المجتمع على المُساءلة من أسفل إلى أعلى إن توفَّرَ لها الأوكسجين السياسي. لكن الطاقة الشعبوية نفسها قد تُزيح العمامة لتضع مكانها قبعة الرجل القوي باسم الإرادة الشعبية.

ماذا على الخارج أن يفعل؟ أوّلًا، التخفيف من وَهمِ التحكُّم. مستقبلُ إيران يُصنَعُ في طهران لا في العواصم الأجنبية. يُمكِنُ للضغط والحوافز أن يُغَيِّرا الحسابات، لكنهما لا يخلقان تنظيمًا مدنيًا من العدم. ثانيًا، الاستثمار في الناس لا في “التيارات”: إنترنتٌ أسرع، منحٌ دراسية، إعلامٌ مستقل، ومسارات تأشيرات للطلبة والباحثين، كلها تُعمّر أطول من أعمار “المعتدلين” و”المُتشدّدين”. ثالثًا، إبقاء الملف النووي مهمًا لكن غير مُستحوِذٍ على كل السياسة؛ فالرؤية الأحادية تُكافئ الابتزاز وتُغفِل التحوُّلات الاجتماعية الجارية.

في الداخل، معيارُ النجاح يجب أن يدورَ حولَ ما يطلبه الإيرانيون فعلًا: حكومةٌ كفوءة وخاضعة للمُساءلة تُعيدُ الكرامة الاقتصادية وتكفّ يدها عن الحياة الخاصة. المطلوب ليس “يوتوبيا” بل “اعتيادٌ كريم”: كهرباء لا تنقطع، ماءٌ يجري، هواءٌ أنظف، عملةٌ لا تنهار، قضاءٌ عادل يحدّ من تعسّف الدولة، وقوانين تكفّ عن تأثيم الشعر والضمير. إذا أمكنَ لأي ترتيبٍ بعد علي خامنئي أن يقتربَ من ذلك، فقد تبدأ الجمهورية أخيرًا باستحقاق اسمها. أمّا الفشل فسيعني دورةً جديدة من الانفجار يليها “ربيع الرجل القوي”: وعدٌ بالتجديد، وواقعٌ من إعادة تدوير الانحطاط تحت رايةٍ مختلفة.

الخلاصة أنَّ خيارَ إيران الحقيقي ليس بين شرقٍ وغرب، ولا بين إسلامٍ وعَلمانية، ولا بين “مقاومة” و”استسلام”. الخيار بين سياسة الضغينة التي تُعيدُ تدويرَ التاريخ، وسياسة الكفاءة التي تُنهي خرافة العصمة وتتعامل مع الدولة كخدمةٍ عامة لا منصّة دعائية. المستقبل الأقرب إلى الاستقرار لن يصنعه خطيبٌ مفوّه ولا جنرالٌ صلب، بل عقدٌ اجتماعي جديد يضع “الحياة الطبيعية” في المركز. هذا سقفٌ متواضع بمقاييس العالم، لكنه في إيران اليوم سيكون فعلًا… ثوريًا.

  • كابي طبراني هو ناشر ورئيس تحرير مجلة وموقع “أسواق العرب” الصادرَين من لندن. ألّف خمسة كتب بالعربية والإنكليزية من بينها “شتاء الغضب في الخليج” (1991)، “الصراع الإسرائيلي-الفلسطيني: من وعد بلفور إلى إعلان بوش” (2008)؛ “كيف تُخطّط إيران لمواجهة أميركا والهَيمَنة على الشرق الأوسط” (2008)؛ و”معاقل الجهاد الجديدة: لماذا فشل الغرب في احتواء الأصولية الإسلامية”، (2011). يُمكن متابعته عبر موقعه الإلكتروني: gabarielgtabarani.com أو عبر منصة “إكس” على:  @GabyTabarani

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى