في حديث الشعر (18)

هنري زغيب*
هل يمكن الحديث عن النثر في سلسلة تتناول الحديث عن الشعر؟
وهل يمكن الدفاع عن النثر وطبقاته،كما مرَّ (وسَيَمُرُّ) في هذه السلسلة من الدفاع عن الشعر، حيال ما يشوب قدسيته من تعديات؟
هنا لمحة عن حديث النثر في قلب الحديث عن الشعر.
أَسئلة تمهيدية
هل يَحتاج النثر دفاعًا عنه؟
طبعًا.
أَلَيس النثر توأَمَ الشعرِ الجميلَ، وما يقال عن الشعر يقال عنه أَيضًا؟
أَلَيس ذان التوأَمان وَلَدَي الأَدب العالي، يرفُدُهما سويَّةً بكل أَصالةٍ، وتبقى مسؤُولية الـمُقارِبِ أَن يكون (أَو لا يكون) على مستوى الأَمانة؟
ولا مرّةً كان الإِشكالُ في النثر أَو في الشعر، بل في مَن يقاربُهما فيُقَصِّر عنهما ويدَّعي، أَو يُجلّي فيهما فيُضيف.
علامةُ هذين التوأَمَين أَنّهما متشابِها الجذور، شريكانِ في كل صفةٍ على مستوى الجذع، حتى إِذا تفرَّعا أَغصانًا وأَفنانًا، استقلَّا شخصيةً وطابَعًا وأُصولًا ونهجَ حياة.

الشكل لا يحدِّد المضمون
قد يستقلَّان شكلًا، إِنما الشكلُ لا يُحدِّدُ النوع: النثر يبقى نثرًا كيفما تَناثَرَ على المساحة البيضاء، والشعر يظلُّ شعرًا سواءٌ اتّخذ الشكل العمودي (صدر وعجُز) أَو انهمَلَ تفعيلةً دائرية، أَو انْتَثَر أُفُقيًا حُرَّ التمدُّدِ على الصفحة.
أُعطي مثَلًا: إِذا أَخذتُ مقطعًا نثريًا، وكتبتُه متتاليًا أُفُقيًّا: “الوقْتُ حان. كلُّ وقتٍ آخَرَ فَلْيَنْتَظِرْ. إِنه وقتُ الشعر. والعروسُ التي لا بَدْء إِلَّا بها، فَلْتَتَحَنَّ، فَلْتَتَزَيَّ، وَلْتَغْوَ. ها فجرُنا دَنا، وستنكسرُ قشْرةُ الليل“.
أَكتُبُه هكذا ويبقى نثرًا.
أَعود فأَكتبُهُ بتشكيلٍ فنتَزِيّ كالآتي:
الوقْتُ حان.
كلُّ وقتٍ آخَرَ فَلْيَنْتَظِرْ
إِنه وقتُ الشعر.
العروسُ التي لا بَدْء إِلَّا بها
فَلْتَتَحنَّ
فَلْتَتَزَيَّ
وَلْتَغْوَ
ها فجرُنا دَنا
وستنكسرُ قشْرةُ الليل.
ويبقى، كذلك، نصًّا نثريًّا. يبقى من النثر، ولا يُصبح شِعرًا.
أَي أَن كتابتَه العمودية، شكلًا، لم تجعل نوعه شعرًا.
الشكل في الشعر
أَنتقل إِلى الشعر.
آخُذُ بيتًا من الشعر، وأَكتُبُهُ كلاسيكيًّا تقليديًّا بشِقَّيّ الصَدر والعجُز أُفقيًّا:
هُبَّ من نومِكَ الْهَنِيِّ وَلُوعا حِبَّني حِبَّني… وَزِدْ بِي وُلُوعا
أَو بشكل ثانٍ بقسمة الشقَّيْن غيرِ متقابلَيْن:
هُبَّ من نومِكَ الْهَنِيِّ وَلُوعا
حِبَّني حِبَّني… وَزِدْ بِي وُلُوعا
أو بشكل ثالث مع الشقَّيْن واحدهما تحت الآخر:
هُبَّ من نومِكَ الْهَنِيِّ وَلُوعا
حِبَّني حِبَّني… وَزِدْ بِي وُلُوعا
وأَجد أَنني كيفما كتبتُهُ شكلًا، يبقى في النوع ذاته: الشعر.
أَعودُ فأَكتُبه بتشكيلٍ فنتَزِيّ:
هُبَّ من نومِكَ الْهَنِيِّ
وَلُوعا
حِبَّني
حِبَّني…
وَزِدْ بِي وُلُوعا
ويبقى كذلك بيتًا شِعريًا. أَي أَنه لا يصبح (كما يسَمّى دُرْجةً) “نثرًا شعريًّا” ولا “شعرًا منثورًا” ولا “قصيدة نثْر” ولا شِعرًا “حديثًا”. يبقى من الشعر.
المعيار: تقْنية النص
إذًا: طريقة الكتابة، شكلًا، لا تعطي هوية النص.
تقْنيةُ النَصّ هي التي تُحدِّد هويّته: شعرًا أَو نثرًا. فلكلٍّ من هذَين “التوأَمين” (كما سمّيتُهُما)، تقْنيتُه الخاصة التي يعرفُها قارئُ الشعرِ المتنوِّرُ المتمرِّسُ العارفُ (هنا يتساوى القارئ العارف مع الناقد العارف). وإِذا كان الناثرُ غيرَ مُلِمٍّ بتقْنية الشعر (وليس بالضرورة أَن يكون كذلك) فالمفترَض أَن يُلِمَّ بتقْنية التوأَمين معًا الشاعرُ الشاعر، سواءٌ كاتبًا شِعرَه أَو “قارئًا” شِعر سواه.
كيف يكون الشاعر قارئًا ناقدًا والناثر كذلك؟
هذا ما أُعالجه في الحلقة 19.
- هنري زغيب هو شاعر، أديب وكاتب صحافي لبناني، مدير مركز التراث في الجامعة اللبنانية الأميركية، مدير “صالون فيلوُكَاليَّا الأدبي”، ورئيس “اللجنة الوطنية اللبنانية لنشر الإبداع اللبناني”. يُمكن التواصل معه عبر بريده الإلكتروني: email@henrizoghaib.com أو متابعته على موقعه الإلكتروني: www.henrizoghaib.com أو عبر منصة (X): @HenriZoghaib
- يَصدُر هذا النص في “أَسواق العرب” (لندن) تَوَازيًا مع صُدُوره في “النهار العربي” (بيروت).
يجب عليك تسجيل الدخول لكتابة تعليق.