إِدغار آلن پُــو: 9 احتمالات لموته المأْساوي الغامض (3 من 4)

ضريح الشاعر في بالتيمور

هنري زغيب*

من المبدعين (أُدباء، شعراء، فنانين، أَعلامًا،…) مَن يُثيرون جدلًا في حياتهم بين سيرتهم الخاصة والشخصية ومسيرتهم المهنية، فتدور حول حياتهم تفاسيرُ وأَقوال واحتمالات وتقديرات وتنظيرات.

ولكنَّ من النادر أَن يثير موتُ مبدعٍ أَقوالًا واحتمالاتٍ حول سبب وفاته أَو ظروف ميتته. وهذه حال الشاعر الأَميركي إِدغار آلِن پُو Poe (1809-1849) عن وفاته في ظروف مأْساوية غامضة ما زالت حتى اليوم تُسِيل آراء وتكهنات.

هذا المقال من أَربع حلقاتٍ. عرضْتُ منها في الحلقة الأُولى مقدِّمةً واحتمالًا، وفي الثانية احتمالَين.

في هذه الحلقة الثالثة (قبل الأَخيرة)، عرضُ ثلاثة احتمالات.

الغراب هاجس الشاعر
  1. أَول أكسيد الكربون

في التعريف العلْمي أَنَّ “أَوَّل أُكسيد الكربون” هو غازٌ بدون لونٍ ولا نكهةٍ ولا رائحة، يُسبِّبُهُ احتراقٌ غيرُ كاملٍ للفحم (أَو حريقٌ مرتفعُ الحرارة) ينجُم عنه نقصٌ في الأُوكسيجين، وخصوصًا في الأَماكن المغْلقَة.

الخبير في أُوكسيدات الكربون وفي شؤُون الصحة العامة أَلبرت دونَّاي أَصدر سنة 1999 تقريرًا رجَّح فيه أَنَّ وفاة إِدغار آلِن پــو ناجمةٌ عن تَسَمُّمِه بـ”أَول أُكْسيد الكربون” سبَّبَه غازُ الفحم الـمستَعمَل للإِضاءَة في صالة الانتخاب الـمُغْلَقَة، كما كان سائدًا   استخدامُه في القرن التاسع عشر. وكان دونَّاي تناول شعرة من رأْس پـو لفحْص ما فيها من آثار معادن ثقيلة للتأَكُّد من وجود غاز الفحم. لكن نظريتَه لم تكن حاسمةً، لذا لم يتبنَّ نتيجتَها المؤَرِّخون وواضعو سيرة الشاعر.

متحف/بيت الشاعر في ريتشموند
  1. تسمُّم بمعدن ثقيل

فيما نظرية دونَّاي لم تُؤَكِّد علْميًّا وجودَ مستوًى موثوقٍ من “أَوَّل أُكْسيد الكربون” في شَعر الشاعر، جاءَت أَبحاثٌ أُخرى تؤَكِّد أَنْ كان في دمه، قبل أَشهرٍ من وفاته، مستوًى عالٍ من معدنٍ ثقيلٍ هو الزئبق، يرجِّح مدير متحف پــو في ريتشموند كريستوفر سِـمْتْنِر أَنَّ هذا المستوى العالي من الزئبق سبَبُهُ انتشار مرض الكوليرا حين كان الشاعر في فيلادلفيا (تموز/يوليو 1849). هكذا جاء في تقرير الطبيب شهرئذٍ. والتسمُّم بالزئبق، كما يرجِّح سِـمْتْنِر، هو ما يفسر نوباتِ هلوسةٍ وضَياعٍ كان يُظْهرها الشاعر قُبيل وفاته. أَما العلْم فيؤَكِّد أَنَّ مستوى الزئبق، أَيًّا يكن عاليًا في شَعر الشَاعر، يبقى 30 مرة أَقل من أَن يؤَدي الزئبق إِلى التسَمُّم.

  1. جرثومةُ الكَلَب

سنة 1996 كان طبيبُ القلب الاختصاصي روبرت بينيتيز (رئيس المركز الطبي في جامعة ميريلند) يشارك في مؤْتمر دعا الأَطباءَ إِلى إِعلان النتائج عن معالجة مرضى وفْقَ لائحة من العوارض، كي يقارنوها مع عوارض من أَطباء آخرين.

وفي 15 أَيلول/سبتمبر 1996 نشرَت صحيفة “النيويورك تايمز” مقالًا جاء فيه: “الشاعر إِدغار آلِن پـو لم يمُت ثَمِلًا في زقاق من بالتيمور، بل مات من جرثومة الكَلَب… فالباحث الطبيب روبرت بينيتيز – متفحِّصًا عيِّنةً من ضريح الشاعر – يذكُر ما جاء في بعض التقارير من أَنَّ الشاعر في تشرين الأَول/أُكتوبر 1849 دخل خانةً في شارع لومبارد، وكان تائهًا لابسًا ثيابًا رثة ليست له، لكنه لم يكُن ثَمِلًا بل افُتُرِيَ عليه بهذه التُهمة. فهو أُدخل مستشفى معهد واشنطن  (بالتيمور – ميريلند) في حالة إِغماءٍ تامة، لكنه في اليوم التالي صحا مُهَلوِسًا ضائعًا صارخًا ضد رفاق وهميين. في اليوم الثالث صحا أَفضل حالًا، لكنه لم يتذكَّر أَنه كان مريضًا أَو يعاني من حمّى. وفي اليوم الرابع بدا تائهًا مهلْوسًا ثائرًا بغضب شديد لكنه راح يهدأُ تدريجيًا حتى لفَظَ نفسه الأَخير”.

متحف الشاعر في بالتيمور

تقرير غير دقيق

في تقرير المستشفى إِثْر الوفاة أَن “المريض المدعوَّ إ.پ.، وهو كاتبٌ من ريتشموند، تُوُفِّي بداء الكَلَب”. وعن جون موران، الطبيب المناوب الذي كان دوامه حين أُدخل پـو المستشفى، أَنَّ المريض كان يعاني من ضياعٍ وخمولٍ. وما إن حُمِلَ إِلى غرفته حتى أَخذَت حالته تتفاقَم إِلى هلْوَساتٍ وصراخٍ ساهمت في ارتفاع ضغط الدم وانخفاض قدرته على التنفُّس. وتوفي بعد أَربعة أَيام على هذه الحالة.

بعدما اطّلع الدكتور بينيتيز على تقرير ذاك الطبيب المناوب، أَدرك أَن المريض إِ.پ. لم يكن أَيَّ “كاتب من ريتشموند”، بل هو الشاعر إِدغار آلن پــو الذي دل تقرير طبيب القلب في المستشفى على أَنه تُوُفِّي بداء الكَلَب الْكان منتشرًا في تلك الحقبة من القرن التاسع عشر، كما شخَّص الدكتور بينيتيز.

تقرير أَدَقّ

وبالفعل، لدى صدور المقال في “النيويورك تايمز” صدر عن جيفري جيروم (مدير منزل ومتحف پـو في بالتيمور) مقال في جريدة “شيكاغو تريبيون” (تشرين الأَول 1996) جاء فيه: “أُوافق على تشخيص الدكتور بينيتيز. وللمرة الأُولى، منذ وفاة الشاعر، يصدر عن طبيب نظَر في سبب وفاة الشاعر من دون اطِّلاع مسْبق عما صدر عن أَسباب الوفاة. فلو كان علِمَ أَن المريض هو الشاعر إِدغار أَلِن پــو، وكان اطَّلع على تلك الأَسباب، لربما كان قال، كسواه، إِن الشاعر تُوفي بسبب جرعة زائدة من الكحول أَو المخدِّرات، ما كان أَثَّر على الطبيب في إِصدار تشخيصه. لذا، أَهميةُ تشخيصه أَنه رأَى إِلى القضية من دون أَيِّ رأْي سابق أو اطِّلاع مُسْبَق”.

في الحلقة الرابعة والأَخيرة: عرضُ الاحتمالات الثلاثة الأَخيرة.

  • هنري زغيب هو شاعر، أديب وكاتب صحافي لبناني. وهو مدير مركز التراث في الجامعة اللبنانية الأميركية. يُمكن التواصل معه عبر بريده الإلكتروني: email@henrizoghaib.com  أو متابعته على موقعه الإلكتروني: www.henrizoghaib.com أو عبر منصة (X): @HenriZoghaib
  • يَصدُر هذا النص في “أَسواق العرب” (لندن) تَوَازيًا مع صُدُوره في “النهار العربي” (بيروت).

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى