في حديث الشعر (14)

هنري زغيب*
حسمًا كلَّ جدل حول مسألة الشعر والنثر: للشعر قواعد لا يجوز تجاوزُها أَو كسْرُها من أجل ادعاء الشعر في أَي شكل من أشكال الكتابة، كأنما النثر درجة أدنى من الشعر، وهذا خطأ لا يُغتَفَر.
في هذه الحلقة توضيح لذلك.
… وللحب أَيضًا نثْرُهُ الجميل
قد يصدر كتابُ شعر، تكون فيه القصائدُ ذاتَ أَشكالٍ تَخرجُ عن تلك التقليدية الجِيُومِتْرِيَّة الجامدة. ولا حائل دون ذلك، فالمهمُّ: تَمَسُّكٌ رصينٌ بالأُصولِ والقواعدِ والجذور، مع تجديدٍ في الشكل من ضمن هذه المثلَّثة الأَخيرة، أَيْ داخلَ حَرَم الأُصول، من قَلْبِ التربة ذاتها. فلا تجديدَ من خارج الأُصولِ والقواعدِ والجذور، وإِلَّا يولدُ النصُّ طِرْحًا (أَو مِسْخًا) لا يعيش.
في كتابي النَثْريِّ “صديقة البحر”، تعمَّدْتُ أَنْ أَذكُرَ على غلافه وفي صفحته الأُولى أَنه “نَثْرُ حُبّ” (مع أَن الكتابة فيه نَحَتْ صوب العَمودية المُرسَلَة لا الأُفقية المعتادة في النَثْر)، تمييزًا لمضمونِهِ عمَّا يمكن أن يُنْعَتَ (بالتعابير الحالية السائدة) شِعرًا منثورًا، أَو نَثْرًا شِعريًّا، أَو شِعرًا حُرًّا أَو قصائدَ نَثْر، أَو (وَعَفْوَ الشِعر) “شِعرًا حديثًا”.
النضائد مقابل القصائد
كان ذاك كتابًا في النَثْر، ولو انَّ صاحبَه في الشِعر.
ولعلَّ أَوضح تمييزٍ حول ذلك، أَنْ نسمِّي النُصوص “نَضائِدَ”، تمييزًا بـ”النضيدة” في النَثْر عن “القصيدة” في الشِعر.
وأَيًّا يكُن الكتاب في أَعلى قمم النثر الجمالي، لا يمكن تشبيهه أَو نعْتُهُ بأَيِّ كتابٍ في الشعر.
النَثْر الجماليُّ، غيرُ السردِ النَثْري الصحافيّ الأُفقيّ الذي يُمسك بالسطر من طَرَفَيه، بل هو نَثْر مُهَنْدَسٌ بأَشكالٍ واعيى دقيقة مقصودةٍ على المساحة البيضاء، كما يَنْثُرُ الرسَّامُ على قماشته البيضاءِ أَلوانَهُ وخُطوطَه، لا طرفَا القماشة يَشُدّانِ به ولا قياساتُ طولِها والعرض.
لا نَتَعَصَّبَنَّ للشكل، وَلْنَتَعَصَّبْ للشعر الشعر.

الشكل لا يحدد المضمون
كتابةُ الكلماتِ عموديًّا على الصفحة، بأَسْطُرٍ متراكبةٍ مرصوفةٍ فوق بعضِها البعض (بِحُجَّةِ أنَّ هذا شِعْر – لأَنّ الناس اعتادوا قراءَة الشعر العموديّ بشكله هذا -) لا يجعل الحصيلةَ قصيدةً ولا شِعرًا. تمامًا كما فكفكةُ القصيدةِ العموديةِ ونَثْرُها على الصفحة، لا يجعلُها (بالمفهوم السائد المتداول اليوم) شِعرًا “حديثًا”. المهم أَنْ يكونَ في القصيدة شِعْر، أَيًّا يكُن الشكل الذي تلبَسُه.
الكلامُ ذاتُهُ ينطبِق على النَثْر: في كلِّ أَدبٍ نثْرٌ جيِّدٌ، وليس في كل نَثْرٍ حتمًا أَدبٌ جيِّد.
الشعر شِعْر والنَثْر نَثْر، أَيًّا يكُن شكل فَرْطِهما على المساحة البيضاء.
لا نخدُم النَثْر حين نُشَبِّهُهُ بالشِعر، ولا نُرضي الشِعر إِذا شَبَّهْنا به النَثْر العالي. النَثْر فنٌّ عظيمٌ في ذاتِه، والشعر فنٌّ عظيمٌ في ذاته، وللنَثْر عبقريةٌ لا تقِلُّ إِبداعًا عن عبقرية الشِعر. والشاعر الذي لا يملِكُ الصناعَتَين، يظلُّ شِعْره على مسافةٍ من الشِعر. ومتى تَوَصَّلْنا، كشعراء، إِلى المباهاةِ بِنَثْرِنا مباهاتَنا بِشِعْرِنا، نكونُ – ويا سَعْدَنا – استَحْقَقْنا فِعلًا نعمةَ الصناعَتَين: الشِعر والنَثْر.
الفن لا يُنعَت بخارجه
في الشعر والنثْر، لا نَنْعَتَنَّ الواحدَ بالآخَر، لا نُذِيبَنَّ الواحدَ في الآخر، لا نَنْسُبَنَّ الواحدَ إِلى الآخر، في هرطقَةٍ زائفةِ زائلةٍ تَتَحَجَّجُ بالنقد لتعتبرَ أَنَّ كُلَّ شِعْرٍ غيرِ كلاسيكيٍّ هو (بحسب التحديد السائد اليوم) “شِعْرٌ حَديث”، وأَنَّ الشعر الكلاسيكيَّ، ولو على نضارةٍ وجمالٍ وتجديدٍ وشاعريةٍ عالية، هو (أَيضًا وأَيضًا بحسب التحديد السائد اليوم) “شِعْرٌ قديم تخطَّاه العصر”.
الحداثة ليست كرونولوجية
كلُّ شِعْرٍ هو حديثٌ، حين يَصدُر ويكون شِعْرًا حقًا، أَيًّا يكُنْ شَكلُهُ (مُرْسَلًا أَو كلاسيكيًّا عموديًّا). وكلُّ شعرٍ هو عتيقٌ قديمٌ (أَيًّا يكُن شَكلُه: مُرسَلًا أَو كلاسيكيًا عموديًا) حين لا يكون طالعًا من جُذور مُؤَصَّلة وقواعدَ مكرَّسة.
وإِذا كانت سُنَّةُ الطبيعة أَنْ يَتَكَوَّنَ الجنينُ في رَحمِ أُمِّه تسعة أَشهر (وإِلَّا فهو طِرح)، فلماذا، بِاسْم التجديد، نريدُهُ أَن يَخرج قبلذاكَ أَو بعدَذاك، بحُجَّة “الثورة على الأُصول” ومخالَفَةِ العُرْف المُتَّبَع؟
لذا لا يمكن – باسم التجديدِ والثورةِ على الأُصولِ والأَعراف – أَنْ تكونَ القصيدةُ طفلةَ الأَنابيبِ الاصطناعية.
- هنري زغيب هو شاعر، أديب وكاتب صحافي لبناني، مدير مركز التراث في الجامعة اللبنانية الأميركية، مدير “صالون فيلوُكَاليَّا الأدبي”، ورئيس “اللجنة الوطنية اللبنانية لنشر الإبداع اللبناني”. يُمكن التواصل معه عبر بريده الإلكتروني: email@henrizoghaib.com أو متابعته على موقعه الإلكتروني: henrizoghaib.com أو عبر منصة إكس على: @HenriZoghaib
- يَصدُر هذا النص في “أَسواق العرب” (لندن) تَوَازيًا مع صُدُوره في “النهار العربي” (بيروت).
يجب عليك تسجيل الدخول لكتابة تعليق.