خططُ روسيا لاستبدالِ الدولار لم تُؤدِّ إلى أيِّ مكان
رُغم الجهود التي تبذلها روسيا لتغيير النظام المالي الذي يُهيمن عليه الغرب، يبدو أن دول مجموعة “بريكس” لا تُبدي اهتمامًا يُذكر باقتراح موسكو بإنشاءِ نظامٍ ماليٍّ بديل.
أغاث ديماريس*
يكشُفُ تَصَفُّحُ الصور الرسمية لقمّة مجموعة “بريكس” السنوية التي عُقِدَت في مدينة قازان الروسية في الشهر الفائت عن مفاجآت مُثيرة للاهتمام. ففي العديد من هذه الصور، يحمل الرئيس الروسي فلاديمير بوتين مُجَسَّمًا لأوراقٍ نقدية تَحمُلُ أعلاَمَ الدول الخمس الأساسية في مجموعة “بريكس” ـ البرازيل وروسيا والهند والصين وجنوب أفريقيا. وإذا نظرنا إلى الصور، فقد نتصوَّرُ أنَّ مجموعة “بريكس” قد أطلقت للتو عُملةً مُشتَرَكة. وهذا هو بالضبط ما تَوَدُّ موسكو أن يعتقده العالم كجُزءٍ من محاولتها للإثبات بأنَّ روسيا بعيدةٌ كل البُعد من العُزلة على الساحة العالمية.
لكن، ما أثارَ استياءُ الكرملين أنَّ الأمورَ لم تَجرِ وفقًا للخطة في قازان. لم يَتِمّ إطلاقُ أيّ عُملةٍ من عُملات مجموعة “بريكس”، ولم تَذكُر التعليقات الرسمية على صور بوتين حتى الأوراق النقدية. كما فشل الكرملين في جهوده الرامية إلى دفع تبنّي “جسر بريكس”، وهو آلية مالية من شأنها أن تُساعدَ اقتصادات المجموعة على تجاوز القنوات الغربية. كان الاهتمامُ من جانب أعضاء مجموعة “بريكس” الآخرين فاترًا إلى الحدّ الذي جعل الخطة لا تصل حتى إلى البيان الختامي للقمّة. ولكن من غير المرجّح أن تتوقّفَ روسيا عن الضغط: ذلك أنَّ تطويرَ الآليات المالية غير الغربية يُشَكّلُ ضرورةً وجودية تقريبًا بالنسبة إلى موسكو ــ وهو ما يسلّطُ الضوء على الكيفية التي أصبح بها التمويل ساحةً جديدةً للمنافسة بين القوى العظمى.
في قازان، كان لدى المُضيفين الروس للقمّة هدفٌ بسيط: إطلاق أكبر عدد مُمكن من المخطّطات المالية من أجل التخفيف من تأثير العقوبات الغربية على موسكو. وتشمل المقترحات “BRICS Pay” (مُخَطَّطٌ من شأنه أن يَسمَحَ للزوّار من دول “بريكس” إجراء المدفوعات في روسيا)؛ و”بريكس كلير” (BRICS Clear) (محاولة للالتفاف على “يوروكلير” (Euroclear) و”كليرستريم” (Clearstream) والشركات الغربية الأخرى التي توفر البنية الأساسية العالمية لتداول الأوراق المالية، مثل الأسهم والسندات)؛ و”بريكس ل(إعادة) التأمين” (محاولة لتخفيف القيود المفروضة على توفير التأمين للطائرات والسفن المملوكة لروسيا)؛ ووكالة بريكس للتصنيف الإئتماني (بديلٌ من عمالقة الغرب “ستاندرد آند بورز” و”فيتش” و”موديز”)؛ ومبادرة المدفوعات عبر الحدود بين مجموعة بريكس (مخطط لتسهيل المدفوعات بين دول بريكس بعملاتها الخاصة، مثل الروبل الروسي أو الريال البرازيلي).
كل الآليات الخمس مهمة، لكنَّ الحاضرين في قازان أدركوا بسرعة أنَّ روسيا تهتمُّ بشكل أكبر بالمخطط السادس – “جسر بريكس”. الهدفُ من المشروع بسيطٌ وطموح في الوقت نفسه: التخلّص من الوسطاء للمعاملات الدولية التي تتمُّ باستخدامِ العملات الرقمية للبنوك المركزية (العملات الرقمية التي تصدرها البنوك المركزية وتُخزّنها في محافظ الهواتف المحمولة). لفهم “جسر بريكس”، تخيَّل رحلة طويلة بين الهند والبرازيل على سبيل المثال. بدلًا من الاضطرار إلى المرور عبر مطار محوري (بنك مراسل يقع غالبًا في الولايات المتحدة)، تسمح هذه الأنظمة للمدفوعات بالقيام برحلةٍ مباشرة بين البنوك الهندية والبرازيلية. فوائد الذهاب المباشر واضحة: لا تحتاج المعاملات المالية إلى التوقُّف في بنكٍ مُراسل من المرجح أن يكون موجودًا في الولايات المتحدة أو المرور عبر نظام “سويفت”، نظام الدفع العالمي الذي يُسيطر عليه الغرب بين البنوك.
إنَّ البُعدَ الرمزي ل”جسر بريكس” هائل. وكما قال الرئيس البرازيلي لويس إيناسيو لولا دا سيلفا في العام 2023، “كلُّ ليلةٍ، أسألُ نفسي لماذا يَتعيَّن على جميع البلدان أن تستندَ في تجارتها إلى الدولار. لماذا لا نستطيع أن نُمارِسَ التجارة على أساسِ عُملاتنا الخاصة؟”. لا يتعلق الأمرُ فقط بتساؤل البلدان عن سبب حاجتها إلى تسوية التجارة عبر الحدود باستخدام الدولار بدلًا من عملاتها الخاصة، فإنَّ جانبًا آخر يرتبط بالإحباط بكون الدولار العملة المفضّلة لإصدار الديون السيادية، مما يضع الاقتصادات النامية تحت رحمة السياسة النقدية لمجلس الاحتياطي الفيدرالي الأميركي.
إنَّ تجاوزَ القنوات المالية الغربية يوفّرُ أيضًا طبقةً من الحماية ضد العقوبات من دولِ مجموعة السبع وحلفائها، حيث أنَّ هذه العقوبات في معظم الحالات لا تؤثِّرُ إلّا إذا كانت شركات الدولة الخاضعة للعقوبات تستخدم العملات الغربية أو لديها روابط باقتصاداتِ مجموعة السبع. وهذا يسلط الضوء على كيف أنَّ “جسر بريكس” يُشَكّلُ جُزءًا من الجهود التي يبذلها خصوم الغرب لحماية اقتصاداتهم من العقوبات من خلال التخلُّص من العملات الغربية (بالإضافة إلى العودة إلى المقايضة القديمة، تسوّي روسيا الآن نحو 80% من تجارتها الدولية بعملاتٍ غير غربية) وبناء بدائل ل”سويفت” (مثل الآلية الصينية المحلية الصنع، CIPS). كما إنَّ التهرُّبَ من الآليات المالية الغربية يجعلُ من السهل إخفاء المعاملات الحسّاسة التي قد تؤدّي إلى فرضِ عقوباتٍ ثانوية من جانب الولايات المتحدة، مثل مبيعات الصين من المعدات العسكرية إلى روسيا.
إنَّ الميزة الأخيرة ل”جسر بريكس” تتعلّق بطبيعته الرقمية. فبوسع البنوك المركزية في دول بريكس بسهولة برمجة آلية رقمية بحيث تمنع المعاملات التي تتعارض مع مصالحها أو، في السيناريوهات المتطرِّفة، تُقَيِّدُ وصول الغرب إلى أسواقها. وحتى في غياب هذه السيناريوهات، فإنَّ الطبيعة الرقمية ل”جسر بريكس” من شأنها أن تجعلَ من الأسهل على الديكتاتوريات التي تعتمد على المراقبة مثل روسيا أو الصين تتبّع المعاملات الدولية. ومن خلال المضي قُدمًا، قد تسعى اقتصادات “دول بريكس” أيضًا إلى الحصول على ميزة المبادرة في إنشاءِ بُنيةٍ مالية عالمية رقمية ــ على أمل أن تتمكّن من تسليح التمويل العالمي في المستقبل من خلال السيطرة على المعايير الناشئة في هذا القطاع.
ونظرًا للفوائد المُحتمَلة ل”جسر بريكس”، فقد يبدو من المستغرب أن مساعي روسيا لتبنّي الآلية قد لاقت استقبالًا فاترًا في قازان. كانت الخطط الأوّلية لموسكو تتلخّصُ في تجربة المخطط في العام 2025 قبل إطلاقه بالكامل في حوالي العام 2027. إنَّ حقيقةَ أنَّ هذا الجدول الزمني يبدو الآن غير واقعي لم يَكُن أمرًا أو تطوّرًا غير مُتَوَقَّع تمامًا بالنسبة إلى موسكو. قبل بضعة أسابيع من القمّة، كانت الصين والهند وجنوب أفريقيا قد تغيَّبت بالفعل عن اجتماع وزراء مالية مجموعة بريكس الذي كان من المفترض أن يناقش الخطة.
إنَّ إحجامَ اقتصادات مجموعة بريكس الأخرى عن المشاركة يُسَلّطُ الضوءَ على ثلاثة أسباب تجعل من غير المرجح أن يكون تطوير الآليات المالية غير الغربية سهلًا ومباشرًا.
إنَّ العقبة الأولى تتعلّقُ بوجهات نظر أعضاء مجموعة بريكس المُتباينة بشأن مدى إلحاح وضرورة مثل هذه الخطط. في أحد طرفَي الطيف، تُعَدُّ روسيا الداعم الأكثر حماسة ل”جسر بريكس”؛ فليس لديها ما تخسره لأنَّ العقوبات الغربية تُقَيِّدُ أصلًا قدرتها على الوصول إلى أنظمة المدفوعات الغربية. أما أعضاء مجموعة بريكس الآخرون فهم أقل اقتناعًا. تقوم الصين بعملٍ استباقي لإعدادِ خططٍ احتياطية في حالةِ قطعها عن نظام “سويفت” أو العملات الغربية، ولكنها لا ترغبُ في التخلّي عن الدولار أو القنوات المالية الغربية في أيِّ وقتٍ قريب. وفي الوقت نفسه، يبدو أنَّ خطط البرازيل لإلغاء الدولرة هو نباحٌ أكثر منه عَضٌّ. أما جنوب أفريقيا والهند فهما أقل حرصًا على الاتصال ب”جسر بريكس”؛ ويشعر المصرفيون في كلا البلدين بالقلق إزاء التقرُّب الشديد من المبادرات المالية غير الأميركية خوفًا من إثارة غضب شركائهم الغربيين.
العامل الثاني الذي يُعَوِّق تطوير “جسر بريكس” هو أنَّ النظامَ لا يُمكن أن يعمل إلّا إذا أصدرت جميع بلدان مجموعة بريكس عملاتها الرقمية الخاصة. وهي بعيدة كل البعد من هذه النقطة. من بين هذه البلدان، تمتلك الصين فقط عملةً رقميةً تجريبية قيد التداول -الرنمينبي الرقمي- والبنية الأساسية اللازمة للمدفوعات عبر الحدود – من خلال “mBridge”، وهو المُخطَّط الذي يبدو أنه ألهَمَ بُنية “جسر بريكس”. (بعد وقتٍ قصير من قمة قازان، أعلن بنك التسويات الدولية، الذي قاد تطوير “mBridge”، أنه ينسحب من المشروع بعد أن أشارت تقارير إعلامية إلى أنَّ المُخطَّط قد يساعد على التهرُّب من العقوبات). مع ذلك، فإنَّ ضوابط رأس المال الشاملة التي تفرضها الصين والتي تُقَيِّدُ المعاملات عبر الحدود سوف تُعيقُ طرح الرنمينبي الرقمي على مستوى العالم، بما في ذلك استخدامه بين مجموعة بريكس. وبدون مشاركة الصين، من غير المرجح أن تتمتّع الآلية بنفوذٍ عالمي كبير.
وتُسلّطُ النظرية الاقتصادية الأساسية الضوءَ على صعوبةٍ أخيرة. فمع تسجيل دول بريكس اختلالات في التوازن التجاري في ما بينها، فمن الصعب أن نتخيَّلَ كيف لن تنتهي شركات النفط الروسية، على سبيل المثال، إلى أكوامٍ ضخمة من الروبيات الرقمية لمبيعاتها إلى الهند. ومن شأن إصدار عملة مشتركة لمجموعة بريكس أن يمنعَ مثل هذه المشكلة. ومع ذلك، يمكن رفض الخطط الخاصة بما أطلق عليه “R5” (عملة مشتركة محتملة تحل محل الراند والريال والرنمينبي والروبل والروبية) أو “الوحدة” (unit) (عملة رقمية محتملة مدعومة بالذهب) باعتبارها بعيدة المنال في الوقت الحالي إذ لم تتمكن دول بريكس حتى الآن من الاتفاق على إطلاق “جسر بريكس”. ويبدو هذا أشبه بمشكلة الدجاجة والبيضة: فمن غير المرجح أن يتمَّ إطلاقُ “جسر بريكس” قبل أن تمتلكَ اقتصادات بريكس الخمسة الكبرى عملةً رقمية مشتركة، ولكن إطلاق مثل هذه العملة لا طائل منه إذا لم يكن “جسر بريكس” جاهزًا للعمل. وما دامت دول بريكس لم تتوصّل إلى اتفاقٍ سياسي بشأن الحاجة إلى أنظمةٍ مالية لبريكس، فقد تستمر هذه المناقشات لفترة طويلة من الوقت.
هل ينبغي لصنّاع السياسات الغربيين أن يفقدوا النوم بسبب “جسر بريكس”؟ لقد أدى غزو روسيا لأوكرانيا في شباط (فبراير) 2022 إلى تعزيز تفتُّت المشهد التجاري العالمي بين الكتل المتوافقة جيوسياسيًا. لذلك فليس من المستغرب أن تصبح الأنظمة المالية جيوسياسية بشكل متزايد أيضًا. قد يكون التهديد الذي تُشكّله مثل هذه المخططات مُبالَغًا فيه في الأمد القريب، لأنَّ الدولار و”سويفت” ليسا قريبَين من فقدان هيمنتهما العالمية. ومع ذلك، يمكننا الرهان على أنَّ الآليات المالية غير الغربية ستُصبح أكثر انتشارًا في الأمد البعيد، مما يزيد من تفتُّت المشهد المالي العالمي. ولعلَّ اليقين الوحيد هو أنَّ روسيا ستستمر في التظاهر بأنها تقودُ بنجاح الجهود الرامية إلى إطلاق مخطّطاتٍ مالية لبريكس – حتى عندما لا يوجدُ أيُّ شيءٍ تستطيع تأكيده عن ذلك في الوطن الآن.
- أغاثي ديماريس هي كاتبة ومُحللة في مجلة فورين بوليسي الأميركية، وزميلة بارزة في السياسة في مجال الجغرافيا الاقتصادية في المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية، ومؤلفة كتاب “النتائج العكسية: كيف تُعيدُ العقوبات تشكيل العالم ضد المصالح الأميركية”. يمكن متابعتها عبر منصة X على: @AgatheDemarais
- كُتِبَ هذا المقال بالإنكليزية وترجمه إلى العربية قسم الدراسات والأبحاث في “أسواق العرب”.
يجب عليك تسجيل الدخول لكتابة تعليق.