فريدا كالو: بالريشة تحدَّت الأَلم

على فراش الأَلم في المستشفى (1953)

هنري زغيب*

في مقالي السابق عن الرسامة المكسيكية فْريدا كالو (1907-1954)، كتبتُ عن متحفها في مكسيكو (“البيت الأَزرق”) وعن إِنشاء الجناح الجديد (“البيت الأَحمر”) الذي سيتم افتتاحه في أَيلول/سبتمبر المقبل، ويضم أَغراضا خاصًا بها وبأُسرتها.

في هذا المقال أَكتب عن الجلجلة الصحية التي رافقتْها طوال حياتها، لكنها كانت تحتمل الأَلم، وتتحدَّاه بريشتها التي أَطلعَت روائع تشكيلية صبغت عصرها وتاريخ الحركة التشكيلية في العالم.

تقارير طبية ووثائق

هذا المقال مبنيٌّ في معظمه على تقارير طبية حصلت عليها نسيبتُها كريستينا كالو، تُظهر هَوْل الآلام التي قاستها فْريدا، ونادرًا ما كانت تتذمَّر على سرير المستشفى، بل كانت تطلب إِلى السرير ريشتَها وأَلوانَها ومَلْوَنَها، وتروح تَغرق في نيرفانا الرسم فتتخطَّى أَوجاعَها، وتواصل عملها على إِبداع لوحات جديدة وفَريدة كما هي فْريدا الفَريدة.

في التقارير (نحو 15 صندوقة كبرى مليئة) ما يشير إِلى حوارات مع الأَطباء، ونتائج صحية من المختبرات والمستشفيات. وفيها، على الأَخص، مراسلاتها طيلة أَكثر من عشر سنوات، مع الطبيب الجراح ليُو إِلُوسِّر، الاختصاصي في آلام الصدر والقفص الصدري، وهو بات مستشارها الطبي في سنواتها الأَخيرة حتى وفاتها مساءَ 13 تموز/يوليو 1954.

ترسم وهي تتأَلم على سرير المستشفى الإِنكليزي (1953)

رسائلها إلى طبيبها

في بعض الرسائل إليه لهجة حنون، وفي بعضها الآخَر اعتذار على تأَخُّرها في الكتابة وفي إِرسالها لوحات إِليه. وفي قسم منها سؤَالها عن نصيحته حول الثورة الاشتراكية في البلاد، أَو عن توجيهاته حول أَمر صحي يقلقها.  وفي معظم الرسائل تبدو امرأَةً قلقة معقَّدة تشوَّهت صورتها في مجتمعها بسبب وضعها العائلي والصحي. وفي مقاطع كثيرة من تلك الرسائل تفاصيل فنية توضح بلوغها أَن تكون إِحدى أَهم العلامات الثقافية في القرن العشرين.

من هنا أَن عناوين عامة لرسائلها يمكن أَن تكون: طلب المال، الاعتذار لتأَخُّرها في إِرسال اللوحات، مفاصل صعبة من سلوك زوجها دييغو ريفيرا، تساؤُلات عن التدهور الصحي الذي أَخذ ينتابها في المرحلة الأَخيرة، وتساؤُلات ملحة عن علاجات تخفف من الآلام التي كانت لا تفارقها ليلًا نهارًا.

معرض وثائقها

تخليدًا لهذه الرسائل، إِلى أَطباء وأَصدقاء والأُسرة، ولبعض الرسوم غير المعروفة، كانت نسيبتُها الصغرى كريستينا كالو أَقامت معرضًا لها في جامعة ولاية ميشيغان، استغرق بحثها من أَجله نحو أَربع سنوات تجمع تقارير طبية، معظمها من مستشفى  كودراي الأَميركي البريطاني في مكسيكو. وفي بعض التقارير وصفات طبية لِما عليها أَن تأْكل وتشرب صباحًا، ونسخ عن تقارير تخطيط القلب قبل العمليات الجراحية، أَو تقارير لاحقة بعد العمليات.

ومن مجمل التقارير يمكن نسْج صورة شبه متكاملة عن شخصية فْريدا كما كانت طوال فترات استشفائها، وتنقُّلها المتكرر بين المنستشفى والبيت، وتكبُّدها مصاريف أَوقعتْها في ديون كانت تَفيها بتقديم لوحات إِلى دائنيها.

من الرسائل إِلى الطبيب إلوسِّر وإِلى عشيقها السابق نيكولاس موراي، وإلى شقيقاتها وأصدقائها، يظهر كم كانت قاسيةً معاناتُها لتبلغ غايتها الفنية والشخصية.

تنام في المستشفى الأَميركي وَحَولَها مجموعة دُمَاها (1954)

لوحات لسدّ الديون

في رسالة إِلى عشيقها السابق كتبَت سنة 1939 (سنة طلاقها من زوجها وعادت تزوجتْه سنة 1940)، كتبت واعدةً ألَّا تقبل “أَيَّ معونة مادية من رجل بعد اليوم”. وأَعلنت أَنها ستعيد الديون ببيع لوحاتها. هكذا وعدت النجم الهوليوودي دولوريس دِل ريُّو أَن ترفده برسوم ولوحات لقاء أَمواله، أَو تعدُه بثمار معرض مقبل للوحاتها كي تفيه ديونها له.

ومن رسائل أُخرى يتبين الضغط الذي كانت تعيش في حمْأَته: لوحات معينة لأَطباء معينين، استدانة مبلغ من المال، طلب إِرسال بعض أَغراض لها من البيت إِلى المستشفى. كما يظهر كيف تغيَّرَت حياتها كليًّا، بعد حادث الاصطدام الذي جرى سنة 1925 (كانت صبية في الثامنة عشرة) وكادت تموت بسببه، ورزحت بعده  مستلقيةً على فراش البيت والمستشفى سنوات طويلة من الآلام.

سوى أَن إِرادة الحياة لديها كانت أَقوى من الأَزمات الصحية، فقاومت المرض والأَوجاع والإقامة الطويلة في السرير، بلوحات رسمت معظمها وهي مستلقية تتأَلَّم، متحديةً سواد القدَر ببياض فنِّها الذي بات اليوم من الأَشهَر في العالم.

  • هنري زغيب هو شاعر، أديب وكاتب صحافي لبناني، مدير مركز التراث في الجامعة اللبنانية الأميركية، مدير “صالون فيلوُكَاليَّا الأدبي”، ورئيس “اللجنة الوطنية اللبنانية لنشر الإبداع اللبناني”. يُمكن التواصل معه عبر بريده الإلكتروني: email@henrizoghaib.com أو متابعته على موقعه الإلكتروني: henrizoghaib.com أو عبر منصة إكس على:  @HenriZoghaib
  • يَصدُر هذا النص في “أَسواق العرب” (لندن) تَوَازيًا مع صُدُوره في “النهار العربي” (بيروت).

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى