نوتات من سمفونيا جوزف حرب
هنري زغيب*
أَتذكَّرُه، بصوته الهادئ، يَقرأُ من “إِذاعة لبنان” نصوص برنامجه “مع الغروب”. ومن يومها وأَنا أُتابع نُصوصَه، نثْرَها والشعر، وأَتملَّى تأَنُّقه في نحت الكلمات، وفي إِلقائها كما تستوجب. تلك كانت معرفتي الأُولى بالشاعر جوزف حرب (1944-2014). ودارت دورَتَها السنواتُ، والتقَينا. وجمَعَتْنا صداقةُ الكلمة وغوايةُ تنصيعها.
يوم أَعددتُ احتفال تدشين بيت الياس أَبو شبكة متحفًا في بلدته زوق مكايل (11حزيران 2008)، دعوتُ إِليه غسان تويني من لبنان، ومن باريس فينوس خوري غاتا وأَدونيس. ولم أَجدْ يومَها أَحَنَّ من جوزف حرب يكتُب الحب والثورة في شاعر الحب والثورة. يومها أَلقى قصيدتَه النادرةَ الشكل، الغريدة المضمون، ومطلعُها: “ما ضَمَّهُ في الأَرض مُلْتَحَدُهْ… لَما تُوُفِّيَ ضَمَّه أَبَدُهْ… فاترُك سؤَالكَ عن منازله.. إِلَّا ببيت الشعر لا تَجِدُه… سَلْ: أَينَ بيتُ الشعر؟ هل رحلَتْ في الكون روحُكَ؟ إِنه بَدَدُهْ… هو شاعرٌ. والكونُ؟ حَسْبُكَ من رحم الدواة بِحِبْرِهِ يَلِدُهْ… ويَدَان كوَّنتا الوجودَ: يَدُ الله الموشَّحِ بالرُؤَى، ويَدُهْ”. وكانت تلك من أَبلغ ما قيل شعرًا في أَبو شبكة.
ومن أَبلغ ما صدَر عن الصديق جوزف حرب بعد غيابه: الكتابُ المفرَد “جوزف حرب سمفونية الفُصول” وضعَهُ الخوري مخائيل قنبر في أُسلوب موشَّحٍ بالشعر، مطرَّزٍ بمحبةٍ جمعَت خوري “الحجَّة” بـ”جار الرضا” في “المعمرية”.
أَخشى اختصار ما جاء في هذا الكتاب، لِموسوعيَّته الـمُكَبْسَلَة بين دفتَين، من منشورات “دار الْبَنان” – دير الزهراني – 368 صفحة حجمًا وسَطًا في طباعة أَنيقة جدًّا تليق بأَناقة جوزف حرب في نصاعة شعره والنثر.
بكل حُب خاطب الخوري قنبر جارَه الشاعر: “في أَحد الأَيام، وبعد عقْد على ارتحالكَ، اتَّخذْتُ وُجهة سَيري مسقط رأَسكَ حيث يستريح رفاتُك.. وصلتُ إِلى ضريحكَ المحروس من رهبان السرو، فأَلفَيتُ ضريحكَ محجةً لرفاق درب أَشعاركَ: البلابل والشحارير، السنُونُو والوروار وكلّ العصافير… أَردتُ إِيقاظكَ من غَفْوَتك، علَّك تستعيد ريشتكَ وتُحَبِّر لنا ولوطنكَ ما افتقدناه من بديع الدواوين… ومع بدء أَجنحة الطير دقَّ أَجراسِ كنائس غابات السَرو في الوديان، أَدركتُ أَنَّ صوتي لن يصل مسمعَك، فقرَّرتُ أَن أُوقظَكَ في أَذهان مَن لم يعرفوك، أَن أَرسُم وجهَ قديس الشعر بِحبرٍ من دواتِك، أَن أَجمعكَ من حروف أَبجديتك… فأَتمكَّنَ بعدها من تدبيج سيرتك”.
هذا مقطعٌ من المقدمة. ومنه يُمكن تَصَوُّرُ الوفاء النبيل الذي نسَجَ به الخوري قنبر كتابَه عن جوزف حرب، في فصولٍ أَربعةٍ جعل من سمفونياها أَربعَ لوحاتٍ، تابَعَت الشاعر منذ هو طفلٌ في صُور (مدينة قدموس) فتلميذٌ في بيبلوس (مدينة الأَبجدية) لينطلقَ بعدها في رحلةِ حياةٍ يُؤَبْجِدُ خلالها مسيرةً جعلَتْه علَمًا غيرَ عاديٍّ من أَعلام الشعر في لبنان.
يلْفِتُ في سرد الخوري قنبر مدى احترامه الشاعرَ “الجار”، ودأْبُه على نسْج كتابه عنه في تقسيم جَليٍّ (فصولٌ ثانويةٌ مدروسةٌ ضمْن كلِّ فصلٍ من الأَربعة الرئيسة)، ما يستمْهل القارئ في محطات قصيرة يُكْمل بعدها إِلى المحطات التالية.
كما يلْفِتُ في سَرده ترصيعُ النصوص بعباراتٍ لِجوزف حرب، مستَلَّةٍ من بعض كتُبه، ما يَجعل جوزف حاضرًا في كل صفحةٍ، بأَقواله كما بِسَرد الخوري قنبر. وفي هذا نُبلٌ آخَر من كاتبٍ دخَل إِلى الشرايين الأَدبية، شِعريِّها والنثْري، لشاعرٍ عاش في فضاء الهدوء، وهادئًا غادر إِلى فضاء الغياب، كأْن مُدركًا أَنَّ “جار الرضا” سيَكتُب عنه هذا الكتاب المفْردَ المشغولَ بِدِقَّة جواهريٍّ ينحتُ حبَّات لُؤْلُؤ.
الخوري مخائيل قنبر: شكرًا لكَ على وفائِك. جوزف حرب، شاعرًا، يستحقُّ هذا الضوءَ البهيَّ عليه، كما استَحقَقْتَ أَنتَ “رضا” غيابه الذي جعلْتَهُ، بكتابكَ، أَسطعَ من حُضُور.
- هنري زغيب هو شاعر، أديب وكاتب صحافي لبناني، مدير مركز التراث في الجامعة اللبنانية الأميركية، مدير “صالون فيلوُكَاليَّا الأدبي”، ورئيس “اللجنة الوطنية اللبنانية لنشر الإبداع اللبناني”. يُمكن التواصل معه عبر بريده الإلكتروني: email@henrizoghaib.com أو متابعته على موقعه الإلكتروني: henrizoghaib.com أو عبر منصة إكس على: @HenriZoghaib
- يَصدُر هذا النص في “أَسواق العرب” (لندن) تَوَازيًا مع صُدُوره في “النهار” (بيروت).