لبنان: إقرارُ المُوازَنَة بِمَرسوم، العَينُ على انتِخابَات 2026 النِيابيَّة

البروفِسور مارون خاطر*

فَرَضَت مُوازنة العَام 2025 نَفسَها بَندًا ثقيلًا عَلى جَدوَل أعمال الجَلسة الأولى لِلحُكومة بَعد اجتيازِها بنجاح امتحان الثقة. بالطَّبع، ليسَ إقرار الموازنة بِمَرسومٍ صادرٍ عَن مَجلِس الوزراء أفضَلَ الحُلول ولا حَلًا مثاليًا بَل هو خطوةٌ وضَعَت العَهد الجَديد وحكومَتَهُ الاولى في دائرة الانتقاد للمَرَّة الأولى. لا شَكَّ أيضًا أنَّ الرَّئيسان جوزيف عَون ونوّاف سَلام مُتَنَبّهان إلى دِقَّة المَرحلة وإلى حَساسيَّة هذا الإقرار بِشَكلِهِ وَمَضمونِهِ. تَدفَعُنا هذه المُعطيات إلى قراءة تَحليليَّة لأسباب وأَبعاد هذا القَرار من دونَ أن نَتَبَنّاه أو أن نُبَرِّرَهُ.

لا حَاجة للتَّذكير بأِنَّ مُوازنة 2025 هي مُوازنةٌ ضَرائبيَّة سيئة تَغيب عَنها الرُّؤية الاقتصاديَّة والنَّفقات الاستثماريَّة والإصلاح، كما تَغيب النَّظريات الاقتصاديَّة والمَنطِق. إنَّها، كَما سابِقاتِها، أشبَهُ بِعَمَليَّةٍ حِسابيَّةٍ تَهدِف إلى تَغطيَةِ النَّفقات بإيراداتٍ ضَرَائبيَّةٍ عشوائيَّةٍ يَدفَعُها مَن يَعترفونَ بِالدَّولة ويُعفى مِنها مَن لا يَفعَلون. تُثبِتُ النًّظريات الاقتصادية أنَّ فَرض ضَرائب ورُسوم مُرتَفعة على اقتصاد مُنهار ويُسجل نموًّا سالبًا، يؤدي إلى مزيد من التَهَرُّب الضَّريبي وإلى مَزيد من الاستنسابيَّة والظّلاميَّة والابتِعاد من مَنطِق الدَّولة. مِن ناحِية أُخرى يُؤَدّي الفَرض العَشوائي للضَّرائب الى تَحويل الإيرادات إلى “دَفتريَّة” وغَير قابِلة للتَّحصيل. يَجعَلُها ذَلِكَ غَيرَ قادِرَة حَتَّى عَلى تَحقيق ما حدَّدَت لِنَفسِهَا مِن أهدافٍ مُريبَة.

يَتَصَدَّر الإصرار على عَدَم العَودة إلى اعتِماد “القاعِدَة الإثني عَشريَّة” قَائِمة الأسباب. فبالإضَافَةِ إلى كَونِها مُخالفة للقانون، تُلزم هذه القاعدة الماليَّة العَامَّة بِسَقف أرقام مُوازنة 2024 وهي غَير مُتناسبة مع الواقِع الحالي مِما يَدفَعُ حَتمًا باتجاه التَّمويل العَشوائي عَبر سُلُفات الخَزينَة. ِمن النَّاحيَة المَبدئيَّة والمَاليَّة والقَانونيَّة، يُشَكّل الرَّفض المُطلَق لِبِدعَتَيّ “القَاعِدَة الإثني عَشريَّة” وَلِسُلُفات الخَزينَة العشوائيَّة خُطوَةً أولى باتجاه رَفض مَنطِق التَّمويل “غِبّ الطَّلَب” الذي كَرَّسَتهُ الحُكومات المُتَعاقِبَة بَعدَ الطَّائف. لا شَكَّ في أنَّ هذا الارتياب يُصبِحُ مُضاعَفًا مَعَ ازدياد الطَّلَب عَلى المَال السياسي بالتَّزامُن مع اقتِراب “المَوسِم الانتخابي” والانِطلاقَة المَشروطَة” لإِعادةِ الإعمَار. لِهَذِهِ الأسبَاب مُجتَمِعَةً، يَبدو إقرار المُوازنة بِمَرسوم وكأنَّهُ يَهدُفُ إلى قَطع الطَّريق على أي مُحاوَلات لإعادة إحياء الزبائنيَّة السياسيَّة عَبر المَال السياسيّ. عَمَليًّا، يَبقى إقرار مُوازنة إصلاحيَّة مُستحيلًا في ظِلّ استِمرار الواقِع الاقتصادي الكارِثيّ النَّاتِج عَن الأزمَة التي “بَعثَرَت” مُقَوّمات الاقتصاد وفي الوَقت الذي تَبقى المُقاربات التَقليديَّة للسياسات الماليَّة َغَيرَ قابِلَة للتطبيق.

في السياسة، يَعكِسُ الإقرارُ وُجودَ هَواجِس غَيرَ مُعلنة تَتَعَلَّق بإعادةِ مَشروع المُوازَنَة إلى مَجلِس النُّواب، بَل تَعكِسُ ارتيابًا مِن غَرَقِها في وُحول السياسة وتجاذُباتها مِمَّا يَجعَلُ إقرارها مُؤجَّلاً إلى أجَلٍ غَيرَ مُسَمَّىً. لَيس كلامنا في هذا الإطار في مَعرِض تَبرير الغايَة المَشروعة بِالوَسيلة، بَل مَن قَبيل تَسليط الضَّوء على استِمرار نَجاح الأحقاد السياسيَّة ومَن وَرَاءها في حِرمان اللبنانيين مِن أن تَسلُكَ المُوازنة السَّبيل الأسلم، على الرُّغم من كونِها بالِغَة السُّوء، فَتُدرَسُ في لجنة المَال والموازنة وتُعَدَّل، بِما أمكَن، كما دَرَجَت العَادة. نُشير في هذا السّياق إلى أنَّ إعدَادَ وَزير المَال لِمَشروع قانون بِهَدَف تَخفيف بَعض الضَّرَائِب والرُّسوم قَد تَكون لَهُ انعكاساتٌ إيجَابيَّةٌ على مَن يَلتزم بِالقانون مِن المُواطنين بدون أن يُشَكلَ بديلًا من المُرور في مجلس النوَّاب.

بِناءً على ما تَقَدَّم، قَد تَكون الحُكومة قَد فاضَلَت بَين السيئ والأسوَإِ عَبر الدَّفع نَحو انتظامٍ، وَلَو بِالشَّكل، للماليَّة العامَّة من خِلال إقرار مُوازنة مَوروثَة لَم تُعِدَّها ولا تَستَطيع تَعديلَها مِما يُخَفّف من وطأة تبعاتِها السلبيَّة عَلَيها.  يَبدو الإقرار وكأنَّه فَترة سَمَاح أعطَتها الحُكومة لِنَفسِها نَأملُ أن تَستَفيدَ منها للقيام بِخُطُواتٍ عَمَليَّة مَلموسة تُمَكّنها مِن وَضع الأُسُس لِموازنة إصلاحيَّة في العَام 2026. تُشَكّل الثَّوابت السياسيَّة والسياديَّة، التي كَرَّسَها خِطاب القَسَم وشدَّدَ عَليها البَيان الوِزاريّ، الأركان الأساسيَّة لإرساء استقرار سياسي مُستدام يَنتُجُ عَنه استقرار اقتصاديّ وماليّ ونَقديّ مَنيع.

في النهاية، يَبدو إقرار المُوازنة بِمَرسوم وكأنَّهُ مُحاولةٌ لِتَطويق فُلول التَّعطيل والاستِئثار والفَسَاد المُتَجَذّر والمُزمِن في الوَقت بَدَل الضَّائع الذي يَفصِلُنا عن الانتخابات النيابيَّة التي لا بد أن تكون “تطهيرية” وبإمتياز.

في الوَاقِع، في العَام 2026 لَن تَكونَ العَين عَلى المُوازنة… بَل عَلى الإنتِخابَات النيابيَّة!

  • البروفِسور مارون خاطر هو كاتب وباحث لبناني في الشؤون الماليَّة والاقتصاديَّة. يُمكن متابعته عبر منصة “إكس” على: @ProfessorKhater

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى