رُؤوسٌ باردةٌ تَسودُ في الخليج العربي – مؤقتًا
مينا العُرَيبي*
لسنوات، ساوَرَ السياسيون والديبلوماسيون والمُحلِّلون والصحافيون العاملون في شؤون الشرق الأوسط قلقًا من أن تمتدَّ الحربُ بين إيران وإسرائيل بسرعة إلى العالم العربي. لقد افترضَ الكثيرون أنه إذا هاجمت إسرائيل البرنامج النووي الإيراني، فإنَّ إيران ستردُّ بضرب المصالح الأميركية في الدول العربية المجاورة. المخاوف تركّزت على العراق وسوريا بدلًا من الخليج. ونظرًا لاستقرار علاقات إيران مع دول الخليج العربي خلال السنوات القليلة الماضية، فقد سادَ الاعتقادُ بأنها ستتجنّب أيَّ إجراءاتٍ قد تُعكّرُ صفوَ علاقاتها الجديدة.
في 23 حزيران (يونيو)، وُضِعَت هذه النظريات مَوضِعَ الاختبار. بعد أن شنَّت الولايات المتحدة هجماتٍ صاروخية على مواقع نووية إيرانية، ردّت طهران بضرب قاعدة أميركية في قطر. كان ذلك عملًا غير مسبوق. سبق أن استهدفَ وكلاء إيران الخليج، وكان أبرزها هجمات الحوثيين على منشآت أرامكو السعودية في العام 2019 وعلى البنية التحتية في أبوظبي في العام 2022. في هاتين الحالتين، استطاعت طهران الحفاظَ على نفيها بشكلٍ معقول. لكنَّ هجومَ قطر كان مختلفًا. أطلقت إيران صواريخ مباشرة على قطر، أصابت المقر الإقليمي للقيادة المركزية الأميركية وقاعدة العديد الجوية. ربما أبلغت طهران الدوحة بخططها مُسبَقًا، وكانت التطورات مُسيطَرًا عليها إلى حدٍّ كبير. لكن تبقى الحقيقة أنَّ الهجمات على دولة قطر الهادئة والمُسالمة تجاوزت الحدود.
من المفارقات أنَّ إيران اختارت ضرب قطر. خلال زيارته للخليج في أيار (مايو) الفائت، استمعَ الرئيس الأميركي دونالد ترامب من قادة الرياض والدوحة وأبو ظبي إلى أنَّ السلامَ ضروريٌّ لازدهار المنطقة. لكن ترامب أشاد تحديدًا بقطر لموقفها المتسامح تجاه طهران. قال ترامب: “على إيران أن تشكرَ أمير قطر بجدية، فهناك آخرون يريدون توجيه ضربة قاسية لإيران، على عكس قطر”. وأضاف: “إيران محظوظة جدًا بوجود الأمير، فهو في الواقع يقاتل من أجلها. إنه لا يريدنا أن نوجّهَ ضربةً قاسية لإيران”.
في الواقع، تُظهرُ تداعيات الهجوم الإيراني مدى مرونة قطر. ففي اليوم نفسه الذي وقعت فيه الضربات، صرّح ماجد الأنصاري، مستشار رئيس الوزراء القطري والمتحدث باسم وزارة الخارجية، بأنَّ قطر “تحتفظ بحقِّ الردِّ المباشر بطريقةٍ تتناسب مع طبيعة وحجم هذا العدوان السافر، بما يتماشى مع القانون الدولي”. ومع ذلك، ورُغمَ هذا التصريح، بدت قطر حريصةً على تجاوزِ الحادثة. تلقّى أمير قطر، الشيخ تميم بن حمد آل ثاني، اتصالًا في اليوم التالي من الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان، الذي أعرب عن أسفه للضربات، وفقًا لبيانٍ صادر عن وكالة الأنباء القطرية. كما جرت اتصالاتٌ مُماثلة مع قادةٍ خليجيين آخرين.
وتجلّى مستوى التنسيق بين دول الخليج في أعقاب الضربات الإيرانية مباشرةً، كما يتّضحُ من البيانات التي صدرت تباعًا. فقد أدانت هذه الدول الهجوم، وأعربت عن تضامنها مع الدوحة، وأكدت حقّها في الرد إذا ما رغبت في ذلك. إلّا أنَّ أيًا من هذه البيانات لم يكن تصعيديًا في لهجته أو طابعه.
ينبغي اعتبارُ هذه النتيجة نجاحًا ديبلوماسيًا كبيرًا، يعكسُ التزامًا إقليميًا بتجنُّبِ مواجهة عسكرية مطوَّلة. لم تُلحق الضربات الإيرانية أضرارًا ملموسة بقطر بفضل التنسيق المتقدِّم والدفاعات الجوية القوية، وسارع الإيرانيون إلى الاتصال بقادة الخليج للتعبير عن أسفهم. ونتيجةً لذلك، استمرّت العلاقات الثنائية.
مع انطلاق الصواريخ، اختارَ قادة قطر والمملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة إعطاءَ الأولوية للمصالحة والهدوء. بعبارةٍ أخرى، هذا يعني أنَّ العلاقات التي بُنيت بعناية بين إيران ودول الخليج أثمرت.
لا ينبغي لطهران أن تعتبرَ هذا أمرًا مفروغًا منه. فمجرّد تجنُّبِ الحرب لن تنسى دولُ الخليج ما حدث. على الديبلوماسيين والمسؤولين الإيرانيين العمل على إعادة بناء الثقة الثنائية في الأشهر والسنوات المقبلة.
بعد خمسة أيام من الضربات، صرّح أنور قرقاش، المستشار الديبلوماسي لرئيس دولة الإمارات، علنًا بما كانَ مسؤولو الخليج يرددونه خلف الكواليس: “بينما نطوي صفحة الحرب، يجب على إيران إعادة بناء الثقة مع جيرانها الخليجيين، بعد أن تضرّرت جراء هذا الهجوم”.
بدونِ جُهدٍ مُتضافرٍ لإظهارِ حُسنِ النية، تُخاطِرُ طهران بفقدان الدعم الذي قدّمته لها دول الخليج حتى الآن. وبينما تُواصل إيران مفاوضاتها مع الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي والأمم المتحدة، فإنها بحاجة إلى أن يواصل جيرانها الدعوة إلى السلام مع حلفائهم الغربيين. لدى المسؤولين الإيرانيين قناة اتصال مفتوحة مع دول الخليج. إذا أُغلقت هذه القناة، فلن يُواجهوا صعوبة في تحسين علاقاتهم الإقليمية فحسب، بل سيخسرون أيضًا قناة اتصالٍ مهمّة مع الولايات المتحدة وترامب نفسه. إنَّ مُخاطرة طهران بذلك في ظل تزايد الشكوك ستكون تهوُّرًا كبيرًا.
من جانبها، يبدو أن طهران تُدرك ضرورة إعادة بناء الثقة. وقد تواصل المسؤولون الإيرانيون مع نظرائهم الخليجيين، حيث زار وزير الخارجية عباس عراقجي المملكة العربية السعودية والتقى بولي العهد الأمير محمد بن سلمان. علاوةً على ذلك، خففت القوى الفاعلة بالوكالة من حدة خطابها وتهديداتها ضد دول الخليج إلى حدٍّ كبير.
في حين أنَّ الجولةَ الأخيرة من الصراع قد مرّت، لحسن الحظ، بدون خسائر بشرية كبيرة في صفوف المدنيين في الخليج، إلّا أنَّ شبحَ الحرب لم يختفِ. فمع بقاءِ جُزءٍ من البرنامج النووي الإيراني سليمًا، وسير المحادثات الديبلوماسية مع مجموعة الدول الأوروبية الثلاث (ألمانيا، فرنسا وبريطانيا) بوتيرةٍ بطيئة للغاية، فإنَّ احتمالَ تجدّد الضربات الإسرائيلية أو الأميركية واردٌ للغاية. لذلك، يقعُ على عاتق إيران عبء إثبات جدّيتها في التفاوض. وإذا فشلت المفاوضات، فسيكون على إيران إثبات أنها لا تنوي توسيع نطاق تداعيات أيِّ حربٍ تالية.
الدرس المستفاد من ضربات 23 حزيران (يونيو) هو أنه في نهاية المطاف، يمكن للقادة اختيار التصعيد من عدمه. ولحسن الحظ، اختارت قطر وحلفاؤها الخليجيون التهدئة. الآن، تراقب المنطقة لترى ما إذا كانت إيران قادرةً على الاستفادةِ من هذا الزخمِ الهَشّ.
- مينا العُرَيبي هي رئيسة تحرير صحيفة “ذا ناشيونال” الإماراتية، وكاتبة عمود في مجلة “فورين بوليسي” الأميركية. يمكن متابعتها عبر منصة “إكس” على: @AlOraibi