الحَربُ التي خَسِرَتها إسرائيل

على المستوى التكتيكي، تمتلك القوات المسلحة الإسرائيلية أسلحة مُتفوِّقة، ولكن على المستوى الاستراتيجي فهي فقدت الشرعية الدولية.

الجيش الإسرائيلي: من جيش منظم إلى جماعة غوغائية غير مُنضبطة

سمير حنضل*

بالعودة إلى العام 2000، قام السياسي الإسرائيلي اليميني أرييل شارون بزيارةٍ إلى المسجد الأقصى مع مفرزة من الحرّاس الشخصيين. وأدّى الإستفزاز إلى اندلاعِ الإنتفاضة الثانية التي استمرت حتى العام 2005. وكان شارون في ذلك الوقت زعيماً لحزب الليكود المُعارِض. وقد أشعل القتال الذي اندلع بعد زيارته نيران الشعبوية والقومية في البلاد، وبعد أقل من عام، في آذار (مارس) 2001، إنهارت حكومة حزب العمل بزعامة إيهود باراك وأصبح شارون رئيساً للوزراء.

يبدو أن أحداث أيار (مايو) 2021 في إسرائيل وفلسطين هي تكرارٌ مُخيف لما حدث في العام 2000.

لم تكن نتائج انتخابات آذار (مارس) الفائت في إسرائيل، وهي الانتخابات الرابعة خلال عامين، حاسمة. بنيامين نتنياهو (الليكود) فشل في حشد الغالبية في الوقت المُخَصَّص له لتشكيل الحكومة. بعد وقتٍ قصير من إعطاء رئيس الدولة، رؤوفين ريفلين، الفرصة لزعيم المعارضة يائير لابيد من حزب “هناك مستقبل” (يش عتيد) لتشكيل حكومة جديدة، أرسل نتنياهو الشرطة الإسرائيلية لاقتحام المسجد الأقصى في القدس خلال صلاة ليلة القدر في 8 أيار (مايو)، حيث أُصيب خلاله 330 فلسطينياً.

في 10 أيار (مايو)، أطلقت مجموعات فلسطينية في قطاع غزة المُحَاصَر (حركة “حماس” ومنظمة “الجهاد الإسلامي”) صواريخ رداً على انتهاك المسجد. إنتشرت المذابح المُنَظَّمة في القدس، حيث ذهب الغوغاء الغاضبون للبحث عن الفلسطينيين لضربهم أو قتلهم، إلى مدن أخرى. في مدينة اللدّ وفي ما يسمى بـ “المُدُن المُختَلطة” الأخرى، نظّم المواطنون الفلسطينيون في إسرائيل مجموعاتهم الخاصة، حيث قتلوا يهودياً إسرائيلياً. بدأ سلاح الجو الإسرائيلي حملةَ قصفٍ عنيف على قطاع غزة، لكن القصف الصاروخي من غزة لم يتوقّف. بحلول الوقت الذي دخل وقف إطلاق النار حيِّز التنفيذ، بعد 11 يوماً من بدء القتال، قُتِل 232 فلسطينياً (من بينهم 65 طفلاً) و12 إسرائيلياً.

مناورة سياسية

لم تُحقّق أربع عمليات انتخابية مُتتالية في غضون عامين غالبيةً واضحة لأيّ مُرشَّح في إسرائيل. يُتَوَقَّع من السياسيين إظهار الولاء لهوية مجموعتهم بدلاً من القِيَم والمُثُل العليا. يتشكّك اليهود المُتشدِّدون في اليهود العلمانيين من الطبقة الوسطى، ويحتقر القوميون المُتَدَيِّنون الأرثوذكس مجتمع المُثليين… والفلسطينيون، بالطبع، مكروهون ومُهَمَّشون من قبل جميع الأحزاب الصهيونية.

لكن في هذه الجولة الإنتخابية الأخيرة، أحد الأحزاب الأربعة المُكَوِّنة للقائمة العربية الموحَّدة والتي تُمثّل الجزء الأكبر من المواطنين الفلسطينيين في إسرائيل وجزءاً من اليسار اليهودي الإسرائيلي إنسحب منها. وهذا الحزب الذي انفصل عن “القائمة العربية الموَحَّدة” (المعروفة بالعبرية ب”راعم”)، يرأسه منصور عباس، وهو مسلم محافظ. ومن المفارقات أن هذا الانقسام في التمثيل السياسي الفلسطيني عزّز الشرعية الفلسطينية، حيث لعب عباس دور صانع الملوك، الذي لا يستطيع اليمين ولا اليسار تنفيره أو إغضابه.

عندما اندلع العنف، صعّد السياسيون الإسرائيليون، وخصوصاً أنصار نتنياهو، التحريض العنصري ضد الفلسطينيين (سواء في غزة أو الضفة الغربية أو داخل حدود إسرائيل). ساد جوٌّ من الكراهية والخوف البلاد بالقوة. منذ أن انخرطت أحزاب عدة في مفاوضات لتشكيل ائتلاف بدون نتنياهو يُمثّل مجموعات هوية مُعارِضة – باستثناء حزب لبيد “هناك مستقبل”، الذي يُمثّل العلمانيين واليهود من الطبقة الوسطى و”القائمة العربية الموَحَّدة”، كان هناك “اليمين الجديد” لنفتالي بينيت، الذي يمثل القوميين الدينيين اليهود – لم يعد بإمكانها التعاون وانهارت محادثات التحالف.

في غضون ذلك، فشل لبيد بالتفوّه بأي انتقادات لقتل الفلسطينيين من قبل الجيش والشرطة. أمامه حتى 2 حزيران (يونيو) لإيجاد غالبية وتشكيل حكومة، وإلّا سيتم الإعلان عن انتخابات جديدة، مع بقاء نتنياهو في منصب رئيس الوزراء المؤقت.

من ناحية أخرى، ألمح إثنان من قادة حزبَين كان لبيد يتفاوض معهما – بينيت وجدعون ساعر (عضوٌ مُنشَق عن الليكود، بسبب فساد نتنياهو المزعوم) – إلى أنهما قد يتراجعان عن وعود حملتهما الانتخابية بعدم الانضمام إلى حكومة نتنياهو. حالما غيّر بينيت وساعر مواقفهما، قبل نتنياهو بسرعة اقتراح مصر بوقف إطلاق النار مع “حماس”.

بالنسبة إلى الجمهور الإسرائيلي ووسائل الإعلام، فإن مناورة نتنياهو شفافة بالكامل. تمنحه حالة الطوارئ فرصةً للبقاء كرئيسٍ للوزراء وتجنّب محاكمته بالفساد.

غير أن السياسيين الإسرائيليين الذين ينتقدون نتنياهو يخشون التحدث عن تلاعبه الساخر بالعنف. إذا فعلوا ذلك، فسيتم تصنيفهم على أنهم “يساريون” أو “عشاق للعرب”، وكلاهما يُعتبَر إهانات في السياسة الإسرائيلية. داخل إسرائيل، الخوف من إثارة التساؤل حول ولاء المرء وقوميته أقوى من الخوف من صواريخ “حماس”.

حصيلةٌ فادِحة

حتى الآن، أُصيبَ آلاف الأشخاص وقُتل المئات، بينما تُقدّر الأضرار الاقتصادية بمليارات الدولارات – لكن معظم المعاناة تحمّلها الفلسطينيون، وبخاصة في قطاع غزة.

يتسبّب التحريض والشعبوية في خسائر فادحة في المجتمع الإسرائيلي. لم يعد معظم الشباب الإسرائيلي ينخرط في الجيش. ليس بسبب معارضة سياسية لأعمال الجيش، ولكن ببساطة بسبب أولويات شخصية. الفساد مُنتشرٌ في الحكومة، فلماذا يُتَوَقَّع من المواطنين العاديين أن يلتزموا بمعايير أعلى وأن يتخلّوا عن سنواتٍ من حياتهم للجيش؟

وسط عقلية “كل واحد لنفسه”، تنهار المؤسسات العامة. لقد أثبتت الشرطة أنها غير قادرة أو غير راغبة في وقف المذابح وحماية المتظاهرين أو اعتقال مثيري الشغب اليهود العنيفين. عندما حثّ رئيس الشرطة على الهدوء وتحدّث عن “إرهابيين من كلا الجانبين”، وبّخه على الفور أمير أوحانا، وزير الأمن العام (الليكودي)، الذي وصفه بأنه يساري.

وبالمثل، لا يعمل الجيش كجيشٍ مُنَظَّم، ولكن كجماعةٍ غاضبة غوغائية غير مُنضَبِطة. كان القصف الوحشي لغزة سيّئُ التنسيق وحتى نوعية الدعاية التي انتهجها الجيش الإسرائيلي لتبرير القصف أصبحت متدنية وأقل مستوى من أي وقت مضى.

في 14 أيار (مايو)، خدعت وحدة الصحافة العسكرية الإسرائيلية وسائل الإعلام الأجنبية، بادعائها أن القوات البرية الإسرائيلية كانت تسير في طريقها لاجتياح غزة من أجل حمل مقاتلي “حماس” على الاحتماء في الأنفاق التي تعرّضت للقصف على الفور. فشلت الكذبة، لأن الصحافة العسكرية لم تُرسِل التضليل عينه للصحف الإسرائيلية. لقد كشف ضباط “حماس” الخدعة وتجنّبوا دخول الأنفاق.

كان بإمكان الأجهزة الأمنية الإسرائيلية الاستعداد للصواريخ الآتية من غزة، أو للاحتجاجات في الضفة الغربية وداخل إسرائيل، لكنها لم تفعل ذلك. كانت استراتيجيتها الوحيدة هي الردع – التسبّب بما يكفي من الموت والمعاناة لإقناع الفلسطينيين بالبقاء مُطيعين خوفاً. لكن عندما يتغلب الفلسطينيون على خوفهم، كما فعلوا في الأسابيع الأخيرة، يُصبح الردع بلا معنى.

إستعراضٌ للقوّة

أظهر الإضراب العام الذي قام به الفلسطينيون عبر كامل أراضي إسرائيل وفلسطين في 18 أيار (مايو) مستوىً غير مسبوق من الوحدة، وسلّط الضوء فقط على مدى الانقسام الذي بلغه الجمهور الإسرائيلي.

القوّة العسكرية المُفاجئة لحركة “حماس” في قطاع غزة، وانتفاض الفلسطينيين الغاضبين بعد عقود من التمييز والإذلال، وامتداد الاحتجاجات إلى الضفة الغربية، وخيبة أمل الفلسطينيين من قرار إلغاء الانتخابات المُرتَقَبة هذا العام – كل هذا خلق حالةً من الذعر في الخطاب العام الإسرائيلي، وخصوصاً في وسائل الإعلام.

تم إسكات الصحافيين الإسرائيليين الناقدين، وتلقّى بعضهم تهديدات بالقتل وطلب الحماية من حراس أمن. وعلى النقيض من ذلك، دعا صحافيون آخرون إلى مزيدٍ من العنف، حتى إلى مجازر ضد الفلسطينيين. (في وسائل الإعلام، فإن التعبير المُلَطَّف الذي يُستخدَم غالباً للمجزرة هو “صورة النصر” – وهي صورة رمزية للدمار التي من شأنها أن تُحرِم الفلسطينيين من فرصةِ إعلان النصر).

على المستوى التكتيكي، تمتلك القوات المسلحة الإسرائيلية أسلحة مُتَفَوِّقة، ولكن على المستوى الاستراتيجي فقد فقدت الشرعية الدولية. إن الجانبَ الإسرائيلي قابلٌ للتنبّؤ تماماً. العمليات العسكرية تُمليها المصالح السياسية قصيرة المدى لنتنياهو. الإسرائيليون مُنقَسمون داخلياً ومُصابون بالشلل السياسي. الخوف من فقدان ماء الوجه يمنعهم من البحث عن حلولٍ وسط.

في المقابل، فإن الجانب الفلسطيني مُوَحَّدٌ (حتى الآن) ولكن لا يُمكن التنبؤ به، ولديه العديد من الخيارات لكيفية المضي قدماً. ربما تكون العملية العسكرية، التي أطلقت عليها إسرائيل اسم “حارس الجدران”، قد انتهت بوقف إطلاق النار. لكن يبدو أنه على الرغم من عدد القتلى المُروِّع بين الفلسطينيين، فإن الجانب الإسرائيلي قد خسر.

  • سمير حنضل هو مراسل “أسواق العرب” في رام الله.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى