سوريا بَعدَ السويداء: من دولةٍ مركزيةٍ إلى جغرافيا النفوذِ الهَشّة

خضر خضور*

بعدَ أربعة عشر عامًا من الحرب الأهلية، تخوضُ سوريا أصعبَ معاركها حتى الآن، ألا وهي إعادة تشكيل الدولة خلالَ مرحلةٍ انتقالية مُعَقّدة تشابكت فيها الديناميكيات المحلّية والإقليمية. كَشَفَت الأحداثُ الأخيرة في السويداء، التي سرعان ما تحوّلت إلى عنفٍ طائفي، عن محدودية السيطرة المركزية ومحاولات فرض السيادة في سياقاتٍ محلّية هشّة. عاد جنوب سوريا، الذي كانَ على الدوام منطقةَ نفوذٍ مُتنازَع عليها، إلى الواجهة كمكانٍ للصراع، حيث امتزجت المحلّية بالطائفية، وتعارَضَت السياسات الوطنية مع الطموحاتِ الإقليمية.

جاءَ قتالُ السويداء في أعقابِ اختطافِ جماعةٍ بدوية بائع خضارٍ درزي، في منطقةٍ طالما اشتعلَ فيها التنافُسُ بين الدروز والبدو. وسرعانَ ما تصاعَدَ هذا الصراع إلى عنفٍ طائفي واسع النطاق، اتّسَمَ بهجماتٍ انتقامية وإعدامات بإجراءاتٍ تعسّثفية مُوجَزة. أرسلت الحكومة الانتقالية، بقيادة أحمد الشرع، قواتٍ حكومية إلى السويداء لاستعادة النظام. إلّا أنَّ العملية العسكرية فشلت تكتيكيًا وسياسيًا، إذ اتُهِمَت هذه القوات بارتكابِ انتهاكاتٍ لحقوق الإنسان ضد المدنيين الدروز. في غضونِ ذلك، انتهزَت إسرائيل الفرصة لتنفيذِ قرارٍ اتُّخِذَ في شباط (فبراير) الماضي بإبقاءِ جنوب سوريا منزوع السلاح، ووَفَت بتعهّدها بحماية الدروز في السويداء بقصف وزارة الدفاع السورية في دمشق ومنطقة قريبة من القصر الرئاسي. أدّى ذلك إلى تدخُّلٍ خارجي لمنع التصعيد، ما أدّى إلى اتفاقٍ بين الولايات المتحدة والسلطات السورية. أُجبِرَت قوات الحكومة السورية على الانسحاب من السويداء، ومنذ ذلك الحين، لا يزال وقف إطلاق النار ساريًا بشكلٍ هَشّ.

في ذروة القتال، احتشدت القبائل البدوية على أطرافِ محافظة السويداء تضامنًا مع أقاربها من البدو، إلّا أنها افتقرَت إلى قيادةٍ مُوَحَّدة. حَوَّلَ القتالُ بين البدو والدروز، مع انتشار القوات الحكومية في الخلفية، الصراعَ من نزاعٍ محلّيٍ محدودٍ نسبيًا إلى صراعٍ مُتعدّدِ الأطراف مُعَقّدٍ ذي تداعياتٍ إقليمية.

يَكمُنُ الخطرُ اليوم في تلاقي ثلاثة مسارات: رغبةُ الدروز في طلبِ الحماية؛ واستعدادُ القيادة السورية لتأكيد سلطتها وسيادتها باستخدامِ القوة؛ ونِيّةُ إسرائيل توسيع نطاق نفوذها في جنوب سوريا. ما اعتبرته دمشق ضوءًا أخضرَ من الإسرائيليين لتوسيع سلطتها إلى محافظة السويداء، والذي زُعِمَ أنه تمَّ الحصول عليه خلال محادثاتٍ في باكو، أذربيجان، اعتبرته إسرائيل انتهاكًا صارخًا للتفاهمات التي تمَّ التوصُّلُ إليها بين الجانبين. وكانت النتيجة كارثية – سفكُ دماء، وأزمةُ ثقة في القيادة السورية، وعلاقات قوة جديدة في جنوب سوريا.

ما حدثَ في السويداء لم يَكُن مجرَّدَ حادثٍ أمنيٍّ عابر؛ بل كان انتكاسةً عميقةً للمجتمع السوري. أصبحَ العنفُ مُحفِّزًا للاستقطاب الطائفي، يُهدّدُ بعرقلةِ الانتقالِ السياسي في البلاد وتقويضِ التعايُشِ بين مختلف مكوّناتها، وبين المواطنين والدولة الناشئة. علاوةً على ذلك، صاغَت السلطاتُ العنفَ في إطارِ ثُنائيات: الخيرُ مُقابل الشر، والوطني مقابل الخائن، ومن أجل الدولة أو من أجل الفوضى. وقد وُصِفَ الزعيم الروحي الدرزي البارز، الشيخ حكمت الهجري، بأنه رمزٌ للتمرُّدِ والخيانة، حتى مع تجاهُلِ السياقِ الأوسع: لم ينشأ نفوذُ إسرائيل في جنوب سوريا بين عَشِيَّةٍ وضُحاها، بل تَرَسَّخَ على مرِّ السنين عندما انسحبت السلطات المركزية من المنطقة التي اتسمت بانعدامٍ تامٍ للأمن.

لم يَكُن جنوبُ سوريا يومًا منطقةً هامشيةً هادئة. بعد العام 2013، أصبحت منطقةُ الجنوب ساحةَ اختبارٍ لنماذج مختلفة من النفوذ الإقليمي – من التدخُّلِ الإيراني المُكثَّف في محاولةِ بناءِ قوّاتٍ حليفة في المنطقة، إلى تجربةِ “الجبهة الجنوبية”، وهي تحالفٌ من الفصائل المتمرِّدة المدعومة من الولايات المتحدة وحلفائها العرب. أعادَ هذا الواقعُ تشكيلَ الجنوب بالكامل، وحَوَّله إلى ساحةٍ للتنافُس الإقليمي. واليوم، يبدو أنَّ إسرائيل تبنّي مجالَ نفوذها الخاص في الجنوب، مُستَلهِمةً من نموذجِ تركيا في الشمال. يتضمّنُ ذلك ترتيباتٌ محلّية مع إداراتٍ غير رسمية قائمة، مدعومةً بدَعمٍ أمني خارجي، وكلها تخدم المصالح الإسرائيلية ولكن بدون سيطرةٍ إسرائيلية مباشرة. هذا هو منطق “الحدود المَرِنة”، حيث تغيبُ السيادة الواضحة، وتحلُّ محلَّها تفاهُماتٌ عائمة تُحقّقُ أهدافًا خارجية.

ما يجعلُ هذا المشروعُ بالغَ الخطورة ليس تداعياته العسكرية فحسب، بل الهشاشة الاجتماعية الدائمة التي أَوجَدَها. إنَّ تحويلَ السويداء إلى منطقةِ نفوذٍ خارجي دائمة لا يُرسِّخُ سوى منطق الكانتونات، مما يُحوِّلُ كلَّ نزاعٍ محلّي إلى مُحفِّزٍ مُحتَمَلٍ لإقليميّةٍ أو تدويلٍ أوسع. كما إنه يُعيدُ إنتاجَ معادلةٍ قاتلة، معادلةٌ لا ثقةَ فيها بين السوريين ولا سلطةً واحدة تقودهم. إنَّ الخطابَ الانقسامي أو التقسيمي الذي ظهرَ خلال أزمة السويداء لم يُرسِّخ سوى وَعيٍ سوريٍّ مُنقَسِمٍ عاجزٍ عن المضي قُدُمًا نحو الاستقرار.

في نهايةِ المطاف، أظهرت أحداثُ السويداء أنَّ نهجَ الحكومة الانتقالية لإعادةِ بناءِ دولةٍ مركزية على أُسُسٍ بعثية لم يَعُد قابلًا للتطبيق، بل قد يكون خطيرًا. لم يَكُن العنفُ معزولًا، بل كان امتدادًا لأنماطٍ ظهرت سابقًا على طول الساحل السوري، والتي اتسمت ببُعدٍ إيديولوجي سياسي لم يُعزّز سوى الهَوِيّات السياسية والطائفية، مما دَفَعَ المجتمعات إلى التشبُّثِ بأسلحتها. يَنطَبِقُ هذا بشكلٍ خاص على دولةٍ مثل سوريا، حيث المؤسسات الوطنية ضعيفة أو منهارة، ولكنه قد ينطبق أيضًا على لبنان بدرجةٍ أقل.

ولا يقتصرُ هذا النمطُ من العنفِ بالضرورة على المناطق الجنوبية أو الساحلية من سوريا. فقد ينتشرُ إلى مناطق أخرى، مثل شرق سوريا حيث يُقيمُ الأكراد، أو المناطق الحدودية مع لبنان، حيث تَعيشُ المجتمعات الشيعية في وادي البقاع. وينشأ انتشارُ العنف من تفاعل الهويات السياسية المتضاربة، وهشاشة المؤسّسات، والاحتكاكات الناشئة عن تداخل مناطق النفوذ الإقليمي. في مثل هذه البيئات المتقلّبة، لن يُصبِحَ العنفُ أداةً للإكراه فحسب، بل وسيلةٌ لتكوين الهَوِيّة الجماعية في غياب الدولة.

سوريا ما بعد الحرب ليست مُجرّدَ دولةٍ بحاجةٍ إلى إصلاحٍ مؤسّسي، بل هي كيانٌ مُتعَدِّدُ الأبعاد يستلزمُ إعادةَ تعريفٍ جذرية. يتطلّبُ الوضعُ اليوم أكثر من مجرّدِ إعادةِ انتشارٍ للقوات أو سيطرة بالقوة، بل يتطلَّبُ تصوُّرًا سياسيًا جديدًا يعترفُ بتعدُّد مراكز القوة والحوكمة التشاركية، مع تبنّي إدارة الصراع بالتفاوض. من شأن هذا النهج أن يُبعِدَ سوريا عن أوهامِ الدولة المُوَحَّدة الجامدة، والتي لم تَعُد تبدو مُمكِنة.

  • خضر خضّور هو باحث غير مقيم في مركز مالكولم هـ. كير كارنيغي للشرق الأوسط في بيروت. تُركّزُ أبحاثه على العلاقات المدنية العسكرية والهويات المحلية في المشرق العربي، مع التركيز على سوريا.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى