كُلُّ مَمْلَكَةٍ مُنْقَسِمَةٍ عَلَى ذَاتِهَا تُخْرَبُ*!
الدكتور فيكتور الزمتر*
يضجُّ الخطابُ السياسيُّ، منذ مطلع الألفية الثالثة، بالحديث على مصطلحاتٍ تتصل بتوصيف الشرق الأوسط، قديمُه وجديدُه، أدناه وأقصاه، بينما المقصودُ واحدٌ أحدٌ، ألا وهو العبثُ بخرائط دوله، بغياب أهل البيت!
ثمانيةُ أشهرٍ على تسلُّم الحكم الجديد في سوريا، ليست بالمُدَّة الكافية للحكم عليه، ولا لتقييم استتباب الأوضاع في البلاد، التي نُكِبَت بحرب أهليةٍ، شرذمت نسيجَها المُجتمعي وأفقرته، واستدرجت احتلالاتٍ اغتصبت ثرواتها الدفينة. ومع ذلك، وبالرُّغم من الدعم الإقليمي والدولي لسقوط نظام الأسد، فشلَت بداياتُ الحكم الجديد بإقناع الرأي العام، أنَّ خطابَ التبشير بالإنفتاح، المطلوب بإلحاحٍ، على الداخل يُلاقي صداه على أرض الواقع، نظرًا لتعثُّر ربطة العُنق بتبديد الخلفية الجهادية.
أُولى الإشارات المُناقضة لتوجُّهات الإنفتاح الصادق على مُكوِّنات البلاد، تمثَّلت بتشكيل حكومةٍ ذات لونٍ طائفيٍّ ناصعٍ، من ثلاثة وعشرين وزيرًا، بتلوينٍ مذهبيٍّ باهتٍ، قيلَ لرفع العتب، تمثَّلَ بوزيرٍ علويٍّ واحدٍ، ووزيرةٍ مسيحيَّةٍ واحدة ووزيرٍ درزيٍّ واحدٍ، علمًا أنَّ نسبةَ العلويين والمسيحيين والدروز، مُجتمعين، تُقاربُ الربعَ من سكان سوريا، قبل مراحل التهجير المُمَنهج.
ثاني الإشارات السلبية، تمثَّلت بالسقطة المدوية، في آذار (مارس) الماضي، يوم تواجهت فصائلُ الحكم الجديد، عسكريًا، مع العلويين في الساحل السوري الغربي. وحصلت السقطةُ المدويةُ الثالثةُ في نيسان (أبريل) الماضي، بعد شهرٍ على السقطة الأُولى، والمُستهدفُ، هذه المرة، كان دروز بلدة “جرمانا”، إحدى ضواحي دمشق، في جولةٍ أُولى، لِتُسْتَتْبَعَ، هذا الشهر، بجولةٍ ثانيةٍ، أكثر دمويةٍ، في مُحافظة السُوَيْداء.
إلى ذلك، استُكملت الجولاتُ المذهبيةُ في الساحل السوري وفي جرمانا والسُوَيْداء، بتلوينٍ مسيحيٍّ عندما فجَّرَ انتحاريٌّ نفسَه، وسط المُصلّين الآمنين، في كنيسة مار الياس للروم الأُرثوذكس، في دمشق، يوم الثاني والعشرين من شهر حزيران (يونيو) الماضي، لا لسببٍ إلّا لأنَّهم كانوا يبتهلون بخشوعٍ للّه القدير، إيمانًا منهم بالمسيح الفادي، الداعي إلى التحابُب والتراحُم والتسامح!
خطورةُ السقطات لا تنحصرُ فقط بعددها وكلفتها البشرية، بل بارتداداتها على الوحدة الوطنية، المطلوب رأبُها من الحُكم الجديد. فعلى الجبهة العلوية، ذكرت اللَّجنةُ الحقوقيةُ، المُكلَّفةُ بالتحقيق بظروفها، أنَّ كلفتَها فاقت الألف وأربعمئة ضحيةً، عدا المفقودين والجرحى. وعلى المقلب الدرزي، يقول “المرصد السوري لحقوق الإنسان”، أَنَّ كلفةَ مُصادمات مُحافظة السويداء فاقت الألف قتيل. أمّا تفجير المُصلين، في كنيسة مار إلياس، فقد أسفرَ عن خمسةٍ وعشرين ضحيَّةً وستين جريحًا.
ولا أدلّ على التعصُّب القاتل سوى اللُّجوء، في المُصادمات، إلى مُمارسات العصور المُظلمة، بفعل الجهل المُطبق لفضائل الدين، حيثُ مُورست أعمال الغزو والإعدامات الميدانية الإنتقامية، بالرصاص حينًا، وبالذبح والتمثيل بالجُثَث أحيانًا. ورافقت ذلك حملةٌ مُصَوَّرةٌ مسعورةٌ، على وسائل التواصُل الإجتماعي، حفلت بإهانة الكرامات والمُقدَّسات، ما استدعى التساؤلَ عن إمكانية رَتْقِ هذا الجرح البليغ، بين المُكوِّنات المدعوة لجمع الشمل في المواطنة السورية الواحدة.
تلكَ الحوادثُ الداميةُ، المعطوفةُ على محاولة تدجين الأكراد في الشمال، أيقظَت شيطان الفتنة النائمة، وعمَّقَ الحساسيات الإثنية والطائفية والمذهبية، ما حيَّرَ البعضَ حول مآلات ما تشهدُه سوريا. هل هي آلامُ المخاض قبل وِلادة الجنين المُتوقَّع قيصريًا، أم هي المُعاناةُ المُتوجِّبةُ قبل أن ترسو سوريا على واقعٍ حدوديٍّ وديموغرافيٍّ جديدٍ؟
الخشيةُ أنْ تكونَ تلك المُقدّماتُ المُقلقةُ مؤشِّرًا إلى بدء تنفيذ مُخطَّط التقسيم المرسوم للشرق الأوسط الجديد، على مقاسات الأكثريات والأقلّيات، المُنافية للمواطنة الحقَّة. وهنا، تأخَّرَ كثيرًا رفعُ الصوت في الخطاب السياسي، للقول بالفم الملآن: إنَّ مُجرَّدَ الحديث على الأقلّيات والأكثريات، إنَّما هو وسمٌ للحكم بالظُّلم، ووصمةُ عارٍ على جبين الوطن، قادةً وعامةً! والمُقلِقُ أنَّ تلك الإرتكابات الدموية، تُنبئُ بأنَّها لن تبقى حبيسةَ الإطار السوري، بل يُرجَّحُ تسرُّبُها إلى الجوار الشبيه والمُتداخل في التنوُّع المُجتمعي.
وما يزيدُ الأمرَ تعقيدًا حضورُ إسرائيل على خطّ التحريض، سعيًا لشرذمة العائلة الواحدة، ولمُضاعفة قضم الرزق الداشر! فأمرُ القضم والضمِّ لم يعُدْ سرًّا، بل هو دعوةٌ صريحةٌ لإعمال المقصّ المسموم، تهشيمًا بخريطة سايكس- بيكو، بما يُخضعُ الشرقَ الأوسط المُنهَكَ، والمُفَكَّكَ أساسًا، للزمن الإسرائيلي، القابض وحيدًا على الزرّ النووي. وعليه، تبدو تطوُّراتُ أوضاع الشرق الأوسط سائرةً وِفقَ المشروع الذي قدَّمَه المُستشرقُ اليهودي البريطاني-الأميركي، “برنارد لُويس”، إلى المُخابرات الأميركية، في العام 1980، والقائم على إعادة رسم خريطة الشرق الأوسط بالحبر الإثني والمذهبي.
إنَّ مُشكلةَ العالم العربي، تكمنُ في أنَّه يرى في تنوُّعه العرقي والطائفي عيبًا بُنيويًا، ومَدْعاةَ تباغُضٍ وتنافُرٍ، بعد أنْ تاهَ عن باله أنَّه نعمةٌ من مكرُمات الرسالات التوحيدية، التي اختارت أرضَه، من دون غيرها، مهبطًا لروحانياتها.
لقد آنَ الأوانُ لصحوةٍ تكشفُ لهذا المشرق المُكابِد أبعادَ مُخطَّطات الخارج الجُهنَّمية، المُتخِذة من التنافُر العرقي، ومن التنابُذ الطائفي والمذهبي، حجَّةً للتدخُّل ولتقسيم المُقسَّم وتجزئة المُجزَّأ. والمُدهشُ أنَّ تجاربَ الدُوَل العربية مع العالم الخارجي المُقتدر، لم تُكسبْها، مُنذُ نشوئها، مناعةَ الإرتياب من تدخُّلات الخارج، ما جعلَها دائمةَ الإرتهان لسُلطانه، بدلَ أن تكونَ، بلُحمتِها المُجتمعية والحُكم الرشيد، سيِّدةَ قرارها.
وللإنصاف، حصلت مُبادراتٌ لرأب الصدع المُجتمعي في العالم العربي، لمواجهة هذا الإرتهان للخارج، تمثَّلت بتنظيم الڤاتيكان، في العام 1993، “سينودس” حول لبنان، خَلُصَ إلى إصدار الكرسي الرسولي “إرشادًا رسوليًا”، أكَّدَ على الوحدة الوطنية المسيحية-الإسلامية. واستُتبعت هذه المُبادرة، في العام 2010، بمُبادرةٍ أُخرى، تمثَّلت بتنظيم الڤاتيكان “سينودس” آخر حول الشرق الأوسط، هذه المرة، أكَّدَ على الدولة الوطنية الواحدة، المُتعدِّدة الأعراق والديانات والمذاهب، يتساوى فيها المواطنون بالحقوق والواجبات.
وبالرُّغم من تماهي المبادرتَين الڤاتيكانيَّتين مع مُبادرات مُماثلة صادرة عن مرجعياتٍ إسلاميةٍ مُعتبَرَةٍ، بقي شبحُ التقسيم مُخيّمًا على أكثر من بلد عربي، من السودان، مرورًا بليبيا ولبنان وسوريا واليمن، وصولًا إلى ضياع فلسطين، لا سمح الله.
إنَّ الخطيرَ في أحداث السُوَيْداء، المُزنَّرة بالعُنف والعداء، يكمنُ، ليس فقط في لعنة الموقع الجغرافي، بل في الإفتقار إلى روح التسامح وبُعد النظر، وفي التنكُّر لروحانية الدين، في وقتٍ يتلمَّسُ الحكمُ طريقَه للمواءمة بين الإرث الإيديولوجي المُتشدِّد، وبين مُقتضيات دفع فواتير الدعم الإقليمي والدولي، فضلًا عن كيفية اجتناب التوسُّع الإسرائيلي. من هنا، لا تُنبىءُ لوحة السُوَيداء السَوداوية بأنَّ سوريا سايكس-بيكو ستُحافظُ على وحدتها التُرابية والديموغرافية.
إلى ذلك، من حقّ اللُّبنانيين أنْ يغرقوا بسكرة المهرجانات الصيفية، لأنَّ الحياةَ تليقُ بهم، ترويحًا عن مُعاناتهم طيلة عُقودٍ. ولكن، من واجبهم التنبُّهُ إلى أنَّ وطنَهم في عين العاصفة، بسبب لعنة الموقع الجيوسياسي أيضًا وأيضًا، في زمنٍ مفصليٍّ تُعاد فيه صياغة الجغرافيا على مقاس الديموغرافيا في المشرق العربي، نقضًا لخرائط سايكس-بيكو!
فالوقتُ ليس للّهو، بل للتيقُّظ ولإثبات الفَرادة المُبادرة، التي اتصفَ بها أهلُ بلاد الأرز، ضنًّا بوحدتهم وبعُصمة عرينهم، استرشادًا بما فعلَه التعصُّبُ بأقرانهم في العراق وسوريا. فالإنكفاءُ مرفوضٌ والإقدامُ مطلوبٌ، لتأكيد مِصداقية صيغة عيشهم المُشترك، وتعميمًا لهذه الصيغة، بديلًا من صِيَغ الإلغاء والتحارُب، وصونًا للإرث المشرقي الذي ساهموا في إغنائه.
إنَّه زمنُ رجال الدولة والنُخَب الواعية، بعد أنْ باتَ التحدّي وُجوديًا، لا يحتملُ التخاذُلَ وإدارةَ الظهر للنار الزاحفة، بِدَفْعِ المكائد على صهوة التعصُّب. وعليه، خلاصُ العالم العربي يستوجبُ التسليمَ بأنَّ التنوُّعَ هبةٌ، من الإنتحار التفريط بها، لدورها في توثيق عُرى الوحدة الوطنية، الدرعُ الواقي ضدَّ غدرات الإنسان والزمان!
- الدكتور ڤيكتور الزمتر هو سفير لبناني سابق.
- العنوان من إنجيل متى 25:12.