الإنكليزية تَكتَسِبُ مَكانَةً في العالم العربي – على حسابِ العربية
سلطان سعود القاسمي*
تَسمَعُها في كلِّ مكان. في الأسواق و”المولات” والمستشفيات. في رياض الأطفال والمدارس والجامعات. والآن بشكلٍ متزايد في المجالس والتجمعات الإماراتية الأخرى. أصبحت اللغة الإنكليزية هي اللغة الرسمية “غير الرسمية” لدولة الإمارات العربية المتحدة. إن انتشارها ووصولها إلى كل مكان أمرٌ لا يمكن إنكاره. بالنسبة إلى بعض الناس، يُعتَبَرُ تعزيز اللغة الأجنبية هذه علامةً على التقدّم، وبالنسبة إلى آخرين فهو علامة على أننا لم نتكيَّف مع اللغة العربية بشكلٍ كافٍ في القرن الحادي والعشرين. ألا يُمكننا العَولَمة والتحديث والتطور من دون أن نَفقُدَ لغّتنا؟
في الفترة التي سبقت تشكيل الأمم المتحدة بعد الحرب العالمية الثانية، تم تبنّي اللغة العربية كواحدة من اللغات الرسمية الخمس للمنظمة الدولية. مع ذلك، يتم اليوم إهمال اللغة العربية من قبل العديد من أهلها. أُطلُبُ من بعض المتحدّثين باللغة العربية في الإمارات محاولة التحدّث لبضعِ دقائق بلغتهم الأم، وبعد جملةٍ أو جملتين يتحوّل الكثيرون إلى اللغة الإنكليزية. العُذرُ المُعتاد الذي أتلقاه عندما أذكر هذا هو أن هناك “كلمات تقنية” مُعَيَّنة لا يوجد لها نظير في اللغة العربية.
“كيف تقول الكمبيوتر باللغة العربية؟” سألني أحدهم. (سهل، حاسوب، بالمناسبة). الحقيقة هي أن اللغة العربية بالنسبة إلى العديد من شبابنا فقدت جاذبيتها. حتى أن بعض الشباب قد يخجل من التحدّث بالعربية أمام الآخرين خشية أن يبدو أقل تعليمًا من أقرانه.
ألوم جيلي ونفسي. قبل أسابيع قليلة، أقمتُ مأدبة عشاءٍ لموسيقي عربي مشهور، واتفقنا في ما بيننا على أننا سنتحدّث باللغة العربية فقط. ونجحتُ إلى حدٍّ ما. ومع ذلك، كان الاستثناء هو الذي أثبت قاعدة واحدة: في التجمّعات، اللغة الإنكليزية – مع رش كلمات وعبارات عربية – هي اللغة التي يتحدّثها الكثيرون منّا حصريًا اليوم.
الإهمال للغة العربية صار مُنتشرًا.
قبل عقدين من الزمان، كان الحال أن الأطفال الذين ينتمون إلى الزيجات المُختَلطة لم يكونوا قادرين على التحدث باللغة العربية. اليوم، العديد من الأُسَر مُكَوَّنة من أمِّ وأب إماراتيَين يتحدّث أفرادها الإنكليزية في ما بينهم ومع أطفالهم. ما أسمعه كثيرًا تبريرًا لذلك أنه “من الأسهل بالنسبة للأطفال معرفة لغة واحدة”.
لقد عرف العرب صعود نفوذ الغرب منذ أيام الاستعمار. لقد أثر في لغتنا وتعلّم الكثيرون منا لغات أجنبية بدافع الضرورة. بدأت “الصحوة العربية” في أواخر القرن التاسع عشر في بلاد المشرق العربي، بين الطوائف المسيحية في سوريا ولبنان على وجه التحديد، قبل أن تنتشر إلى أجزاء أخرى من العالم العربي، كما كتب أديب دويشا في كتابه “القومية العربية في القرن العشرين”.
علاوة على ذلك، كما يشير الباحث الباكستاني محمد آصف عزيز: “إن نشر قاموس عربي في العام 1867، وموسوعة عربية في العام 1870، وتأسيس صحف باللغة العربية، والنمو العام للأدب العربي المعاصر، كانت جميعها بمثابة صحوةٍ جديدة بين العرب”.
نَتَجَ عن هذه “الصحوة” تأسيس مجمع اللغة العربية في دمشق في العام 1919، والذي تشمل أهدافه الحفاظ على اللغة العربية وتعزيزها جزئيًا من خلال تأسيس مصطلحات جديدة. على مدى عقود، أدخل هذا المجمع كلمات جديدة وتعديلات للكلمات الموجودة لتُلائم العصر الحديث. على سبيل المثال، تم إدخال الكلمة العربية “إهتمام” للإشارة إلى الاهتمام بشيءٍ ما، بينما أُدخِلَت كلمة “شخصية” للدلالة على الشخصية. لم تكن هذه الكلمات مُستخدمة من قبل، وأصبحت منذ ذلك الحين معيارية في اللغة العربية.
مُعدّل النجاح في تكييف الكلمات الجديدة يختلف. كلمة “هاتف” هي أكثر استخدامًا من “الشبكة” (الإنترنت) على الرغم من أن المتحدثين باللغة العربية لا يزالون يتّجهون إلى نظيراتها في اللغة الإنكليزية. يلقي البعض اللوم على مجمع اللغة العربية في دمشق لأنه استغرق وقتًا طويلًا لتعريب الكلمات أو لاقتراح أكثر من مصطلح واحد كما هو الحال بالنسبة للإنترنت. هذا النقص في الاهتمام بالمصطلحات التي اقترحها المجمع هو أيضًا نتيجة للوضع السياسي في العالم العربي، حيث لم تعد دمشق، جنبًا إلى جنب مع غيرها من المراكز الثقافية العربية التقليدية، تمتلك نفوذًا كان لها في السابق في المنطقة. علاوة على ذلك، وربما تعكس حالة العالم العربي، توجد اليوم نسخ مختلفة من المجمع في الأردن والعراق والسودان والمغرب وليبيا والجزائر والإمارات العربية المتحدة.
هذا الإهمال للغة العربية صار مٌنتشرًا. يمكن رؤيته في جميع أنحاء دول مجلس التعاون الخليجي والمشرق العربي وحتى في مصر، والتي تعتبر تقليديًا معقل اللغة. مع مرور كل عام، تزداد أزمة اللغة العربية. فقد وجدت دراسة أُجرِيَت في العام 2009 على 214 طالبًا من جميع أنحاء العالم العربي أجرتها فتيحة حناني للجامعة الأميركية في الشارقة بعنوان “تأثير اللغة الإنكليزية على استخدام الشباب العربي للغة في الإمارات العربية المتحدة” أن “اللغة العربية يتم استبدالها تدريجًا” بالإنكليزية وأن الطلاب لديهم “موقفٌ سلبي واضح تجاه التحدّث وتعلُّم اللغة العربية”.
ليس الشباب فقط، بل السياسيون والمفكرون وغيرهم من الشخصيات البارزة هم الذين يتحدثون بالإنكليزية بشكلٍ متزايد. يجب النظر في هذه المسألة على وجه السرعة. ينبغي التركيز بشكلٍ إضافي على التعليم والخطابة والنشر والبث باللغة العربية. إن خطواتَ مركز أبوظبي للغة العربية، بما فيها إصدار معجم اللغة العربية الخاص به، التي تستفيد من المجال الرقمي، يعني أنها في متناول جمهور أوسع. ربما يمكن توسيع هذا الأمر إلى مبادرة التعليم الجماعي للمصطلحات. إن الدعوة الأخيرة التي وجهها الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي، حاكم الشارقة، للحفاظ على اللغة العربية، واصفًا إياها بأنها “مخزونٌ لتاريخنا ومعرفتنا وثقافتنا”، هي تذكيرٌ في الوقت المناسب بأننا بحاجة إلى التصرّف بشكلٍ عاجل وقوي، بدايةً بأنفسنا.
- الشيخ سلطان سعود القاسمي هو كاتب وباحث إمارتي ومؤسس مؤسسة بارجيل للفنون. يمكن متابعته عبر تويتر على: @SultanAlQassemi