الصين تُريدُ إضعافَ الولايات المتحدة، وليس استبدالها، في الشرق الأوسط

على الرُغم من إنتقاداتها للسياسة الأميركية المُهَيمنة في منطقة الشرق الأوسط، يبدو أنَّ بكين لا تريد الحلول محلّ الولايات المتحدة إذ لا ترغبُ في تحمّل تكاليف وأعباء كونها قوّة مُهَيمِنة إقليمية.

توقيع الاتفاق السعودي-الإيراني برعاية الصين: أطلق آمالُا كبرى لدور أكبر لبكين.

يون صَن*

مُنذُ اندلاعِ الحَربِ في غزّة، أثارَ دورُ الصين في المنطقة العديدَ من الأسئلة. قبلَ عامٍ واحدٍ فقط، أثارت الصين إعجابَ العالم عندما نجحت في التوسّطِ في اتفاق السلام السعودي-الإيراني. وقد أدى هذا النجاح إلى تضخيم الآمال في أن تتمكّنَ بلاد ماو تسي تونغ، التي تفتقرُ إلى التشابكات التاريخية التي تتمتّع بها القوى العظمى الأخرى، بطريقةٍ سحرية من رسمِ مسارٍ جديدٍ وفعّالٍ لخَفضِ التصعيد وحلّ الصراعات في الشرق الأوسط.

لم تنجح الصين في تحقيق أيٍّ من هذه الآمال. ولكن، لدى الصين رؤيةٌ ورغبةٌ في إنشاءِ بُنيةٍ أمنية بديلة في الشرق الأوسط، وقد قامت بوَضعِ خطّتها بالتفصيل منذ العام 2018. بدلًا من استبدال الولايات المتحدة كضامنٍ أمني، وهو أمرٌ لا تريده الصين حيث لا تملك القدرة سواء من حيث الموارد أو الكفاءة للقيام بذلك، فإنَّ رؤية الصين للاستقرار المستقبلي في الشرق الأوسط تهدف إلى إنشاءِ نظامٍ جديد من شأنه أن يحلَّ مَحَلِّ الهيمنة الأميركية بدون استبدالها. إنَّ فعاليةَ مثل هذا الإطار مَوضِعُ شَكّ، ولكن هذا ليس الشغل الشاغل للصين. فهي تُريد هدم البنية الأمنية التي تقودها الولايات المتحدة، ولكن ليس بالضرورة بناء هيكلٍ جديد تكون بكين على رأسه.

على مدى العقود القليلة الماضية، تمتّعت الصين بالأمن الذي تُوَفّره وتُحافظ عليه الولايات المتحدة في الشرق الأوسط. ويُشَكّكُ المحلّلون الصينيون في الفكرة القائلة بأنَّ الصين كانت تستفيد من الأمن الذي توفره أميركا في المنطقة، ليس فقط لأنهم يرون المشاركة الاقتصادية كوسيلةٍ لتحقيقِ الاستقرار، ولكن أيضًا لأنهم يرون السياسة الأميركية كمصدرٍ لعدم الاستقرار. ولكن بما أنَّ 53% من وارداتها من النفط الخام تأتي من المنطقة، فإنَّ للصين مصلحةً جوهرية في الحفاظ على السلام والاستقرار الإقليميين حتى لا يتعطّل إنتاج النفط ونقله. هناك اعترافٌ صيني واضحٌ بأنَّ الصين لا تملك الموارد اللازمة للدخول في أعشابِ الصراعات، وأصولها، وحلولها المُحتَملة، كما إنها لا ترغب في ذلك. لقد وضعت الصين نفسها منذ فترة طويلة كعميلٍ وزبونٍ لنفط الشرق الأوسط، وهو الدور الذي يُعتَقَدُ أنه يمنح الصين الكثير من القوة ولكن بدون أيِّ عبءٍ عليها لتوفير السلام.

لكنَّ الصين لديها رؤى بديلة للبنية الأمنية الإقليمية. في العام 2018، قَدَّمَ الرئيس شي جين بينغ اقتراحًا رسميًا “لصياغةِ بُنيَةٍ أمنيةٍ جديدة في الشرق الأوسط تكون مُشتَرَكة وشاملة وتعاونية ومُستدامة”. في عالمٍ مثالي، فإنَّ الترتيبات الأمنية التي تقول الصين إنها تريدها في المنطقة سوف تعتمدُ على مُراعاةِ المخاوف الأمنية لجميع البلدان، وتتكوّن من حواراتٍ سياسية وأمنية، تَقودُها وتُدِيرُها دولُ المنطقة وتلتزم بمواثيق الأمم المتحدة. وعندما قدّمَ شي رسميًا مفهوم مبادرته للأمن العالمي ــرؤية الصين الكبرى لنظام الأمن الدولي والحوكمةــ تمّ استيعاب “البنية الأمنية الجديدة في الشرق الأوسط” فيها بسرعة.

تم إنشاء البنية الأمنية “الجديدة” للصين على النقيض من البنية الأمنية “القديمة” التي تقودها الولايات المتحدة على أساس نظام التحالف الأميركي في المنطقة. إنَّ جوهرَ اقتراح الصين ــالذي يُرَكّزُ على الحوار والتسويةــ مُوَجَّهٌ نحو العملية بدلًا من التوجّه نحو النتائج.

ليست للصين مصلحة كبيرة في استبدال الولايات المتحدة كضامنٍ أمني في المنطقة، ولكنها تقترح بدلًا من ذلك إنشاءَ بُنيةٍ أمنية بين اللاعبين الإقليميين حيث تلعب الصين دورًا حاسمًا.

تُحَدّدُ الصين تحدِّيَين أمنيَين رئيسيَين للسلام والاستقرار في الشرق الأوسط: القضية الإسرائيلية-الفلسطينية وقضية الخليج (في المقام الأول بين إيران وبقية دول الخليج). في كلتا القضيَّتَين، ركّزت الرؤى الصينية على الحوارات الأمنية الإقليمية، بما في ذلك مؤتمر سلام دولي أوسع نطاقًا وأكثر موثوقية وتأثيرًا بشأنِ القضايا الإسرائيلية-الفلسطينية، فضلًا عن منصّة الحوار الأمني في الخليج. ولا ترى بكين نفسها تلعب دور الضامن أو حتى ترسيخ نفسها كحَكَمٍ في الأزمة. بدلًا من ذلك، فإنها تضع نفسها كداعيةٍ للاجتماع وربما وسيطًا، إذا وافقت دول المنطقة.

إن هذا الإطار عبارةٌ عن رؤيةٍ مثالية لما ينبغي أو يمكن أن يبدو عليه الأمن في الشرق الأوسط، إلّا أنَّه لا توجد اعتبارات التطبيق العملي والجدوى. بالنسبة إلى الصين، الإطار الأمني الحالي لا يعمل، لذلك هناك حاجة إلى إجراء محادثات ومناقشاتٍ حولَ إطارٍ جديد. لكنَّ الصين لم تُقدّم أيَّ تفاصيل حول الشكل الذي سيبدو عليه هذا الإطار، وستترك الأمر للمنطقة لاتخاذ القرار.

وعلى الرُغم من أنَّ بكين تنتقدُ الوجودَ الأميركي لأنه يُزعزعُ استقرارَ المنطقة، إلّا أنها لا تَهدُفُ إلى أن تحلَّ محلَّ واشنطن. ونظرًا لموازنة الصين الدفاعية المحدودة وعرض النطاق التردّدي المحدود خارج مسرحها الرئيس في غرب المحيط الهادئ حاليًا، فإنَّ استبدالَ الولايات المتحدة سيكون أمرًا بعيد المنال. ولا تعتقد بكين أنَّ أميركا ستنسحب فعليًا من منطقةٍ ذات أهمية استراتيجية مثل الشرق الأوسط أيضًا، ما يجعلُ تحدّي السياسة الأميركية وانتقادها أمرًا غير مُجدٍ نسبيًا.

إنَّ غيابَ واشنطن بشكلٍ حقيقي قد يخلقُ حالةً من عدم الاستقرار الذي تخشاه الصين، ما يؤدّي إلى رفع أسعار النفط وتعطيل العلاقات القائمة، لكن بكين لا تعتقد أن ذلك سيحدث. والأهم من ذلك، على الرُغمِ من أنَّ الصين لا تهدفُ إلى الحلولِ محلّ الولايات المتحدة، فإنها لن تُفَوِّتَ فُرصَةَ استنزاف قيادة الولايات المتحدة أو مصداقيتها، أو الاستفادة من الاستياء الذي تشعرُ به دول المنطقة تجاه القوّة الأميركية المُهَيمِنة.

وربما تكون الحالة الأكثر مُقارنةً هي أفغانستان. قبل الانسحاب الأميركي من أفغانستان في العام 2021، كانت الصين تنتقدُ الحرب الأميركية ودورها في أفغانستان لعقودٍ من الزمن. وبينما كانت الصين تتمتّع بالأمن الذي تُوفّره الولايات المتحدة لتعاملاتها في أفغانستان، كانت سعيدة باستغلال كل فرصة لإلقاء اللوم على الوجود الأميركي في الفوضى وعدم الاستقرار داخل البلاد. ولكن عندما قررت الولايات المتحدة الانسحاب، كانت الصين تشعر بالقلق بقدر ما كانت غاضبة لأنها تُرِكَت للتعامل مع جحيمٍ من التهديدات الأمنية المُحتَملة، فلجأت على الفور إلى مهاجمة “الانسحاب غير المسؤول”.

لم تبدأ الصين في أفغانستان من حيث توقّفت الولايات المتحدة. الواقع أن الصين اختارت نهجًا إقليميًا مُتعدّد الأطراف في التعامل مع أفغانستان باعتباره تحديًا وليس نهجًا أحاديًا لتحمُّل المسؤوليات. فقد أنشأت إطارًا إقليميًا ـإجتماع وزراء خارجية جيران أفغانستان (بالإضافة إلى روسيا)ـ للتعاملِ بشكلٍ جماعي مع التحدّيات الأمنية والتنموية التي تواجهها أفغانستان. يُعَدُّ الاجتماع أيضًا إحدى القنوات الرئيسة التي تستخدمها الصين للتعامل مع نظام طالبان. ولم تُسفِر هذه الجهود عن سوى القليل من النتائج الملموسة حتى الآن، ولكن الهدف يتعلّق أكثر بالسيطرة على الأضرار بدلًا من توسيِعِ الفُرَص. وربما تفعل الصين الشيء نفسه في الشرق الأوسط، في حالة ظهور فراغ فعلي في القوة والسلطة هناك.

تتمتّعُ الصين بجاذبية كبيرة في منطقةٍ غالبًا ما تكون غير راضية عن النهج الأميركي. وبدلًا من التخلّي عن الولايات المتحدة لصالحِ الصين من أجل الأمن، تتطلّعُ دول المنطقة إلى بكين للحصول على نفوذٍ لتحقيقِ التوازن. بالنسبة إلى اللاعبين الأقوياء في المنطقة، فإنَّ المنافسة بين القوى العظمى تعني الوكالة والسلطة، وليس الفزع أو اليأس. وفي حين أنَّ هناكَ شهيةً لمُشاركة الصين، وخصوصًا بين البلدان ذات التفكير المُماثل والتي تتقاسم قناعة الصين الاستبدادية، فإنَّ الثقة والاهتمام بالصين باعتبارها لاعبًا أمنيًا رئيسًا يبدوان أقل وضوحًا بكثير. وعلى هذا النحو، ربما تُظهِر هذه البلدان أيضًا اهتمامًا بمقترحات الصين ــ في حين ينتهي بها الأمر إلى خيبةِ أملٍ إزاءَ الواقع.

  • يون صَن هي زميلة أولى ومديرة مشاركة لبرنامج شرق آسيا ومديرة برنامج الصين في مركز ستيمسون. وتتركّز خبرتها في السياسة الخارجية الصينية والعلاقات الأميركية-الصينية وعلاقات الصين مع الدول المجاورة والأنظمة الاستبدادية.
  • كُتِبَ المقال بالإنكليزية وترجمه قسم الدراسات والأبحاث في “أسواق العرب”.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى