كورساكوف المسحور بعطور الشرق

سيمفونية شهرزاد: استوحاها كورساكوف من قصص ألف ليلة وليلة

عمّار مروّه*

(18 آذار/مارس: ذكرى مولد ريمسكي كورساكوف 1844 – 1908)

ريمسكي كورساكوف هو أحد أهم روّاد التأليف الموسيقي الكلاسيكي الروسي والعالمي، وأحد أبرز أعضاء “عصبة الموسيقيين الروس الخمسة” الذين فتحوا آفاق التأليف الموسيقى الروسي على عوالم الشرق ودخلوه بنجاح وتميّز من أوسع أبوابه.

نزعةُ التطلّع إلى الخارج عند الدول الكبرى (لرفد الداخل بالمواد الأوّلية وأسباب التحديث ودواعي التجديد بالأفكار والدوافع(، انتقلت من السياسة والاقتصاد إلى الفن.

فالملكة كاترين الثانية (القيصر الروسية) رأت أن مفتاحَ روسيا إلى قلب الشرق والعالم موجودٌ في دمشق. وطموح نابوليون بونابرت لغزو الشرق اصطحب معه إلى مصر مستشارين، بينهم فنانون. هكذا تنتقل عدوى هذا التفكير من السياسة إلى الفكر والأدب والثقافة والفن، رُغم الفارق الكبير بين استعمارية النظرة السياسية وإنسانية النظرة الفنية.

ريمسكي كورساكوف هو أحد أعظم مُؤلّفين روس عظماء أسّسوا النهضة الموسيقية الوطنية الروسية، لا في التفكير الموسيقي الأكاديمي الجريء والمُبدع فقط بل في أُسُس التوق إلى إضافة روحٍ مرجعية وطنية لجذور تطلعات ترفد اتجاهات التأليف الموسيقي بعوالم الشرق الغنية والتي تجلّت عند كورساكوف في الروح الموسيقية المثالية. لذا جاءت مؤلفاته مُكتنزة ومُشْبعة بروح الشرق.

أَغْنى كورساكوف الموسيقى الوطنية الروسية بأُسُس ومنهجية التعبير الموسيقي العميق الطافح بمنابع وتيمات موسيقية غنية بتفاعلها الشفاف مع مناخات الشرق في أجمل أجوائه السحرية وملامحه المُشرِقة بأنوار شمسه الدافئة وفصوله الاربعة التي تفتقدها روسيا البعيدة جغرافيًا من الأفكار ذات الخلفية والتطلعات الشرقية. أغناها بسمو ما يوازيها من الألوان المقامية اللحنية وعزّزها بأجواء التوافقات الهارمونية المُرَكّبة فوقها بتقنيات البوليمودالية المُعزَّزة بالإيقاعات المُركَّبة بالبوليريتمية، فأثرى بكل هذا المزيج السمفوني الساحر ليخلق عالمه الأوركسترالي المبتكر المميز والمركَّب بأجواء التفكير الموسيقي الذي توسل له الفخامة الأوركسترالية بوليفونيًا والتي هندس بها أنسجة مودالية عرفت كيف تسرد قصص وأساطير الشرق لتستوعبه بهوية الطنين اللحني المُطعّم بتركيباتها التونالية المقامية التي ابتعد بها عمدًا من أسلوب تفكير المدرسة الكلاسيكية السيمفونية الالمانية ليأخذها أقرب ما يمكن إلى ما يُمثّل ويُناسب طنين الأُذُن الروسية معالجًا إياها بأسلوبٍ طنيني روسي الهوى طبع بها حتى ذلك الوقت عالم التفكير السيمفوني الروسي الجديد.

هكذا طفحت أفكار كورساكوف ومؤلّفاته بهوس التفتيش عن منابعٍ طالما حنّت إليها الروح الوطنية الروسية لتجد لها علاقات جذور ذات مرجعية تتصل عبرها بروح الشرق وشمسه ومياهه الدافئة وملامحه الفكرية والأدبية، عكس ما يمكن تسميته “عقدة الغرب” لدى مؤلفين موسيقيين عرب يلهثون خلف التأليف السيمفوني الألماني المركّب بالحياكة الدياتونية الجامدة بتركيبات صوتية لا تقوم إلّا بطنين التونال العمودي الذي بنى عليها مرجعيته الدياتونية عبر تطور حقبات تاريخه الموسيقي.

لا ينكر احدٌ تأثير كورساكوف في مؤلفين بعده في العالم وخصوصًا في الشرق. فحتى الأخوان رحباني وتوفيق الباشا وسواهما في لبنان بقيا في فكرهم الموسيقي مفتونين بفكره الخلّاق ومؤلّفاته الشاهقة التي ألهمتهم مع غيرهم الكثير من الحلول والأساليب الناجعة التي عبرها قاربوا مؤلفاتهم التي خاطبوا بها الموسيقى والأغاني ومسرحهم الغنائي العظيم، فعالجوها بمقترحات وأفكار كورساكوف فنيًا وفكريًا حلّوا بها عوائق واجهت مسألة تطوير وانفتاح الفن الغنائي والموسيقي لإرساء معالم موسيقى لبنانية شرق عربية جديدة ازدهرت بها ملامح مؤلفاتهم لتأخذ طابعًا محليًا متطورًا يُحاكي تحديات اصوات عصرهم الجديد، فانتقل مصطلح “عصبة الموسيقيين الروس الخمسة الكبار” الى  لبنان لتضمّهم مع زكي ناصيف وتوفيق سكر.

انتقل كورساكوف من كونه مؤلفًا روسياً مرموقًا ليصبح نموذجًا كوزموبوليتيًا يُحتذى لأهمّية منجزاته المختلفة في التأليف والتوزيع الأوركسترالي، ما ظهر عند مؤلفين يبحثون عن نماذج شفافة تُحتذى للتعبير الإنساني، فعبّروا عن أحلامهم بإباء وتمرّد على الذين يُكرّرون الأسلوب الغربي بالكتابه البوليفونية بروح دياتونية ميكانيكية مُكرَّرة مدرسيًا، حتى أن مفاهيم ومصطلحات ذات عمق موسيقي خلّاق كمصطلح مدرسة “المقام السيمفوني” لدى موسيقيين شرقيين من أذربيدجان وبلدان الشرق الأسيوي الأخرى أمثال نيازي وفكرت أميروف وغيرهما ممن يدينون بها إلى أفكار واقتراحات كورساكوف.

من المعروف مثلًا أن الموسيقي الروسي ميخائيل غلينكا مزّق سيمفونيته الأولى لأنها جاءت بروح ألمانية لا تُحاكي التقاليد والمناخات الموسيقية الروسية المختلفة بتطلعاتها الوطنية والمحلية. فكورساكوف عبّر عمليًا بالنظرية والممارسة عن روح المقام الشرقي الجديد بأحلامه الشرعية وأجوائه الناصعة بالشمس ومغامرات السفر عبر البحار الدافئة وأنجزه بتعابير عوالمه المُبتكرة في مؤلفات خالدة.

في طليعة تلك الأعمال: سيمفونية شهرزاد، وفيها شيّد كورساكوف عوالمه الموسيقية الشرقية فاهتدى بها الموسيقيون المعنيون بالشرق. هكذا فتح كورساكوف نوافذ الموسيقى الروسية على آفاق ومناخات ومواضيع الشرق، واخترقت العالم بالثيمات الموسيقية الغنية بالهوى والملامح والمضامين ذات المصادر الشرق عربية الصافية كألف ليلة وليلة وشهرزاد وعلي بابا وعبلة وعنترة والسندباد وسواها، عبّر عنها بأسلوب الكتابة المقامية بوليفونيًا بما يتناسب وطبيعة الموسيقى الشرقية الوطنيه المحلية لروسيا وبقية بلاد الشرق.

سَخَّر كورساكوف فنون التأليف الموسيقي من قوالب وألحان وهارموني وكونتربوانت وبوليفونيا ومودال وخلافه، ضمن أسلوبٍ حاذقٍ مُبهر ونوعية جميلة مُبتكرة ليخدم عملية رفد وتطوير الفكر الموسيقي الأصيل بعوالم الشرق الساحر. وبهذه الفانتازيا اختمرت موسيقانا مع أفذاذٍ من طراز الأخوين رحباني وتوفيق الباشا ومؤلِّفِين شباب كزياد الرحباني وعبد الله المصري الذي يدخل بالتأليف الموسيقي من باب الحداثه بأصوات عصره الجديد ليُعبّر بها بصدق عن الشرق ويخدم عجينته الفنية المُتجددة بالكنوز. وهكذا، بفضل كورساكوف وامثاله تتحوّل موسيقانا إلى خبز فني يومي طازج تتقبّله الأذواق والحواس والآذان، وتُقْبل عليه بدهشة وفكر ثوري.

قلائلٌ هم المؤلفون الذين استطاعوا أن يفعلوا ما فعله كورساكوف بعقليته النفّاذة إلى جوهر الروح وبخياله الساحر الخلّاق. مع ذلك كان يَعتَبر نفسه دخيلًا على الشرق لأنه لم يُولَد في أرضه وبيئته العربية. مع ذلك مثَّل الشرق وصوّره بإعادة خلقه وصياغته فنيًا وموسيقيًا وحضاريًا لكل العالم، فأحبّته الشعوب والذوّاقة والخبراء والنقّاد عبر العالم.

استوحى كورساكوف سيمفونيته “شهرزاد” من قصص ألف ليلة وليلة، فباتت نموذجًا ينهل منه مَن يُريد دخول عالم الشرق موسيقيًا بكلِّ ما فيه من سحر وعطور وغنى وعظمه وتميّز. وكان الفنان ومصمم الرقص اللبناني الأشهَر عبد الحليم كركلّا قدّم عملًا مسرحيًا راقصًا مُبهرًا ومُتكاملًا عُرض في لبنان وعلى مسارح عالمية،  بناه على أساس سيمفونية شهرزاد بحركاتها الأربع مُجسِّدًا كل ماسورة منها في السكور الموسيقي العام حسب مسار النسيج البوليفوني المكتوب بِنَص النوتة الموسيقية حرفيًا، مطرزًا عمله بآلات شعبية وتراثية شرقية قديمة، مُستعملًا الديابازون الكامل لتلك الآلات، مُرادفًا ما يقال بالإنكليزية (Period instruments) لعالم الف ليلة وليلة.

  • عمّار مروّه هو صحافي لبناني مُقيم في بلجيكا.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى