السيسي يطوّر سياسة خارجية تقوم على القمع والإستقرار

منذ أن وصل إلى رئاسة الجمهورية في مصر بعدما أطاح محمد مرسي، يحاول الرئيس عبد الفتاح السيسي مواجهة الأوضاع الداخلية والإقتصادية المتردية وفي الوقت عينه يسعى جاهداً إلى إعادة الدور الإقليمي للقاهرة الذي تراجع تدريجاً منذ عقود.

الرئيس الروسي فلاديمير بوتين يستقبل الرئيس السيسي
الرئيس الروسي فلاديمير بوتين يستقبل الرئيس السيسي

القاهرة – هدى أحمد

مرة أخرى، الديبلوماسيون الإسرائيليون والفلسطينيون في القاهرة. لكن هذه المرة لم يتحدث الجانبان مع بعضهما البعض. بدلاً من ذلك، كان المصريون يتنقلون مكوكياً ذهاباً وإياباً بين الإجتماعات الفردية، لاعبين لعبة عالية المخاطر في نقل الكلام والتواصل غير المباشر. في الوقت الراهن تم تأمين وقف إطلاق النار لفترة قصيرة. والسعي إلى تحقيق هدنة على المدى الطويل لا يزال مستمراً.
ينبغي أن يُنظر إلى المصريين كوسيط لا يمكن الإعتماد عليه. حتى قبل بدء الحرب الأخيرة في غزة، أبدت الحكومة الحالية في القاهرة كراهية واضحة تماماً تجاه حركة “حماس”. ولكن في هذه الدورة المتكرّرة من وقف إطلاق النار والعنف، لا تزال مصر الخيار الواقعي الوحيد للوساطة. والسؤال هو ما إذا كانت أكبر دولة في العالم العربي من حيث عدد السكان يمكن أن تحوّل حقائق الجغرافيا الثابتة –مصر لها حدود مع كل من إسرائيل وقطاع غزة– إلى نجاح ديبلوماسي دائم. لن يكون الأمر سهلاً. على المصريين بلوغ الهدف بالإكراه – التكتيك المفضّل لديهم.
لا يمكن أن تنجح عملية التفاوض إلّا إذا وضعت كل من مصر وإسرائيل وحماس جانباً مواقفها التي محصلتها صفر. على الرغم من عدائها ل”حماس”، لا تزال القاهرة قادرة على المساعدة في هذه العملية إذا كانت على إستعداد لإستخدام مصداقيتها مع تل أبيب لإقامة مجموعة واقعية من الترتيبات التي تعالج المخاوف الأمنية المشروعة لإسرائيل ومصر والإحتياجات الملحّة لشعب غزة. إذا كان بإستطاعة المصريين تحقيق ذلك، سيكون الأمر نعمة لمصداقية الرئيس عبد الفتاح السيسي الدولية ولآفاق الإستقرار الداخلي في مصر.
غزة هي إلى حد بعيد أرفع مبادرة سياسية خارجية لمصر، ولكن المنطقة في حالة إضطراب من ليبيا إلى سوريا إلى العراق. وعلى الرغم من تقلص دور القاهرة الإقليمي في السنوات الأخيرة، كان السيسي مضطراً للرد: بعد شهرين على توليه الرئاسة، الخطوط العريضة للسياسة الخارجية المصرية الناشئة بدأت تتركز حيث تبدوسياسة مصر الإقليمية إلى حد كبير ثمرة لبواعث قلقها المحلية الخاصة حول الإسلام، والتشدد، والإرهاب، وعدم الإستقرار. هذه المخاوف تساعد على تفسير قسوة مصر تجاه “حماس” والخطاب المتصاعد من القاهرة بشأن التهديد الذي تشكّله الفوضى في ليبيا.
موقف مصر في منطقة مضطربة يردد الجهود المحلية للنظام الناشئ لتعزيز سلطته وإعادة فرض الإستقرار القمعي.
ولكن نهج السيسي ليس راسخاً كما قد يبدو من مجرد النظر إلى غزة. عند معالجة الوضع في سوريا والعراق، فإن نهج مصر هو أكثر تنوعاً ودقة. إن مصر خارج حدودها، وبعيداً من تأثير سياسة المؤامرة الفاسدة في سياستها الداخلية، هي قادرة على تقييم أكثر دقة للتهديدات والحلول.
برزت مصر في جوهرها بلاد الوضع الراهن في المنطقة التي تركز على مكافحة التشدّد ومعاداة الإسلام، رافضة تغيير النظام في جميع أشكاله ومتشبثة بحزم بسلامة أراضي الدول العربية والحدود الثابتة. ربما الأكثر أهمية، يبدو أن مصر قد نأت بنفسها عن أجندة “الشيعة مقابل السنة” التي تحرّك بشكل متزايد الصراعات في الشرق الأوسط. على الرغم من العداء الطويل الأمد تجاه إيران، والذي لم يُظهر أي علامة على تراجع، فإن القاهرة تابعت بنشاط الديبلوماسية مع حلفاء طهران في العراق وسوريا. يقول العارفون أن السيسي يهتم كثيراً بالإستقرار الإقليمي أكثر من الولاء الطائفي.

وساطة غزة

تراجع موقع مصر الإقليمي بشكل مستمر منذ عقود، ولكن منذ الانسحاب الإسرائيلي من مستوطنات قطاع غزة في العام 2005، كان للقاهرة دور لا غنى عنه في التوسط بين إسرائيل و”حماس”. في عهد الرئيس السابق حسني مبارك والآن السيسي، لم تكن مصر أبداً وسيطاً نزيهاً، ولكن معاهدة السلام مع إسرائيل وحدودها مع غزة جعلتاها خياراً لا مفر منه.
كانت هناك سمة ثابتة للسياسة المصرية – بإستثناء عام واحد حكم خلاله عضو جماعة “الإخوان المسلمين” الرئيس محمد مرسي – العداء الذي لا يتزعزع تجاه “حماس”. منذ أن أجبر المشير السيسي الرئيس مرسي على ترك السلطة نما هذا الشعور العدائي أكثر. ترى المؤسسة الأمنية المصرية بأن منظمة “حماس” ترتبط إرتباطاً وثيقاً بقضايا مصر نفسها من إنعدام الأمن وعدم الإستقرار. وهذه التصورات تصلّبت أكثر في خضم الإضطرابات والإحباط في البلاد في فترة ما بعد مبارك الإنتقالية. في مصر اليوم، مع ذلك، غالباً ما يكون تحدياً للفصل بين المخاوف المشروعة والكلام عن نظريات المؤامرة التي باتت تهيمن على الخطاب العام. إن “حماس” لا تهدّد الإستقرار في مصر إلى الحد الذي يدّعيه النظام، ولكن مصر لديها مخاوف أمنية مشروعة ناجمة عن الوضع الحالي في غزة؛ فقد تحولّت الحدود، التي يسهل إختراقها بين قطاع غزة وشبه جزيرة سيناء المصرية، ممراً للسلاح والمسلحين. كما أن الذي يزيد تشنج الموقف المصري هو العلاقات الوثيقة بين “حماس” وجماعة “الإخوان المسلمين” المصرية المحظورة حالياً.
على الرغم من الإرتباطالأيديولوجي والعلاقات الشخصية، لم يكن الرئيس السابق مرسي قادراً أبداُ على إجراء تغيير جذري للموقف المصري تجاه غزة. في حين إعتقد قادة “حماس” أنهم أمّنوا وضمنوا راعياً سياسياً وركيزة دعم في القاهرة، فإن المكافأة أرجئت إلى حد كبير. كان الإفتراض غير المعلن عندما تولى مرسي منصبه أن جماعة “الإخوان” ستحوّل في نهاية المطاف نهج مصر تجاه “حماس” وغزة بعدما تصبح قوتها تدريجاً آمنة أكثر وتؤكد بالتالي سيطرتها على قضايا الأمن القومي. كان هذا هو الأساس الضمني لوقف إطلاق النار 2012 بعد الجولة الأخيرة من الصراع في غزة، وهو وقف إطلاق النار الذي توسطت فيه حكومة مرسي والتي “بيّضت” صورته في جميع أنحاء العالم. لكن نهج المؤسسة الأمنية المصرية بالنسبة إلى غزة لم يتردد أبداً أو يتغيّر.
سعت مصر منذ فترة طويلة إلى تقويض وإضعاف قوة “حماس”، لكنها كانت أيضاً مدركة لحدود تلك السياسة بسبب التعاطف الشعبي الواسع في مصر للقضية الفلسطينية والقبول على مضض بأن تتعامل القاهرة مع “حماس” بإعتبارها السلطة الحاكمة في “غزة”. هذا النهج تجاه “حماس” وُضع على الرف في أعقاب الإنقلاب العسكري في تموز (يوليو) 2013 الذي أتى على نحو فعال بالسيسي إلى السلطة. سابقاً، كانت مصر تدرك بأن شبكة أنفاق التهريب بين سيناء وقطاع غزة تشكل إشكالية لكنها ضرورية لسكان غزة في ظل الحصار الخانق. منذ إطاحة مرسي، مع ذلك، أطلقت مصر حملة شرسة لتدمير أنفاق التهريب في محاولة لعزل “حماس” أكثر، وشل القوة الإقتصادية للمجموعة، وإبطاء تدفق الأموال والرجال والعتاد.
كانت سياسة مصر تجاه غزة بعد مرسي قاسية بشفافية، مع هدف نهائي يكمن في إنتاج حليف في “حماس” طيّع وليّن سياسياً في غزة لإستغلال الإنقسامات الداخلية داخل المنظمة. إن مصر ترى نفسها كوسيط لا غنى عنه في الأخير. وقد عمل السيسي وحكومته طوال فترة الصراع في غزة على أساس الإعتقاد بأن لديهما مرونة غير مسبوقة لمواصلة إنتهاج سياسات متشدّدة على الرغم من الخسائر البشرية المتزايدة.
الواقع أن إعتقاد القاهرة بأنها يمكنها إجبار “حماس” وحشرها في الزاوية كانت جهوداً مخادعة لتعزيز وقف إطلاق النار قبل الغزو البري الإسرائيلي في 17 تموز (يوليو). وقد سعت تلك الجهود إلى صيغة هادئة مقابل الهدوء لإنهاء العنف في غزة، ولكنها لم تعطِ “حماس” أي تنازلات ملموسة. جرت المبادرة من دون مشاورات جدية مع “حماس”، الأمر الذي يكشف عن جهود مصرية لنصب فخ للإسلاميين في غزة: إما الموافقة على الإستسلام المهين أو مواجهة عواقب إستمرار العدوان الإسرائيلي. وفيما بدأ الهجوم البري الإسرائيلي، وضع مختلف المسؤولين المصريين بشكل مباشر اللوم على تعنت “حماس” للتصعيد على الرغم من التكلفة البشرية المروعة للصراع، حيث قدرت الأمم المتحدة أن الخسائر في صفوف المدنيين تضم 72 في المئة على الاقل من القتلى.
بالنسبة إلى المصريين، كانت المبادرة الأولى لوقف إطلاق النار ذات هدفين رئيسيين، وليس أيّ منهما يهدف إلى السلام في غزة. أولاً، أراد النظام تطعيم نفسه ضد الإنتقادات المحتملة في وسائل الإعلام المصرية، لا سيما الإنتقادات الصادرة من مصادر صديقة عادة. أرادت الحكومة أيضاً التمسك بعباءة الوسيط الإقليمي، وصدّ الجهود التي تبذلها تركيا وقطر لإبراز نفوذها، خصوصاً أن مصر ترى هاتين الدولتين من الرعاة الرئيسيين لجماعة ا”لإخوان المسلمين” في جميع أنحاء المنطقة.
فيما إستمرت محادثات وقف إطلاق النار، ظلّت مصر صامدة في إصرارها ورفضت منح تنازلات جوهرية ل”حماس”، معتقدة بأن الحركة الإسلامية الفلسطينية سوف تضعف أكثر بسبب الهجوم الاسرائيلي وإعتبرت عرض مطالب “حماس” برفع فوري للحصار في خضم النزاعات المسلحة هو شكلاً من أشكال الإكراه. وهذا النهج كان سمة أساسية لجهود الوساطة المصرية.
لكن موقف مصر لا يقتصر فقط على حفظ “حماس” ضعيفة أو الدفاع ضد حملات النقد والإنتقاد. إن قادتها يشاركون أيضاً في صراع هادئ مع إسرائيل حول مصير غزة. بين المخاوف على المدى الطويل لدى المؤسسة الأمنية المصرية هو إحتمال أن تؤدي خطوات أحادية الجانب لفتح الحدود إلى سابقة يمكن أن تجعل في نهاية المطاف غزة مسؤولية مصرية. وغالباً ما تحدّث المتشدّدون الإسرائيليون عن حل إفتراضي قائم على ثلاث دول، الذي من شأنه أن يسمح بإنشاء دولة غزة التي تعتمد في المقام الأول على مصر كصلة وصل بالعالم الخارجي. هذا النوع من تحريف الحدود وتغييرها هو لعنة على النظام الحالي في مصر، والذي أفادت مصادره من أنه مشمئز من تحمله وحيداً، إذا حصل ذلك،  العبء الإقتصادي والسياسي الهائل الذي يمثله قطاع غزة الفقير.
الآن تواجه مصر تحدياً صعباً لموازنة مصالحها مع خلق ترتيبات وقف إطلاق للنار أكثر دواماً. للقيام بذلك، سوف تضطر إلى إتخاذ موقف أكثر واقعية بالنسبة إلى غزة والتي، مع الأخذ بعين الاعتبار المصالح الأمنية المصرية حول التهريب، تعترف بتكاليف الحصار والوضع جانياً الآمال التي لا يمكن تحقيقها لتدمير “حماس”.
إن مقاربة مصر لموضوع غزة خلال الشهر الفائت كانت مغامرة محفوفة بالمخاطر. وقد واجه نظام السيسي إحتمالاً بأن يبدو للجمهور المصري بأنه متواطئ في المجازر الإسرائيلية. وتخاطر الحكومة أيضاً بإثارة رد فعل عنيف أكثر من الجماعات المسلحة المحلية. ولكن أثبت السيسي بأنه لا يخاف من المخاطر. وقد بدت جرأته مع إطاحته مرسي في تموز (يوليو) 2013، على الرغم من التحذيرات الأميركية حول عواقب الإنقلاب، وتوسيع نطاق حملته لتشتيته الدموي للإحتجاجات التي قادها “الإخوان المسلمون”  بعد شهر.

مصر وليبيا

هناك سبب للإعتقاد بأن النهج المتشدّد المصري بالنسبة إلى أمن الحدود والتهريب والتشدد في غزة قد يمتد إلى ليبيا. التصريحات الأخيرة لعمرو موسى وزير الخارجية المصري السابق والآن لاعب سياسي ومستشار غير رسمي للسيسي، زادت من إشعال التكهنات. متحدثاً في أوائل آب (أغسطس) على عدم الإستقرار في ليبيا، دعا موسى إلى “نقاش عام واسع النطاق لتوعية الرأي العام إلى المخاطر، وبناء الدعم اللازم في حال وجدنا أن علينا أن نمارس حقنا في الدفاع عن النفس”. وزير الخارجية الحالي، سامح شكري، أوضح: “لا يوجد حديث عن تدخل القوات المسلحة في ليبيا. لقد كُلِّف الجيش المصري فقط في حماية حدود الدولة المصرية”.
على الرغم من هذا الجهد للتخفيف من الخطاب، فمن الواضح من التصريحات العلنية، والتسريبات، والمحادثات الخاصة مع المسؤولين المصريين، أن ليبيا قد برزت بوصفها مصدر قلق كبير. ولكن ليس واضحاً ما يعتقد هؤلاء حول ما يمكن القيام به حيال ذلك.
تتشارك ليبيا ومصر بحدود يبلغ طولها 745 ميلاً يسهل إختراقها. منذ سقوط نظام معمر القذافي في العام 2011، هُرّبت أسلحة ليبية، بما في ذلك أسلحة متطورة، إلى مصر. وهذا الأمر يخيف المسؤولين الأمنيين المصريين كما يقلقهم تفكك الدولة الليبية وإنهيار القانون والنظام في الجماهيرية السابقة. وقد وجدت الجماعات الإسلامية المتشدّدة أرضاً خصبة في ليبيا التي ينعدم فيها القانون، وهذه حقيقة يشهد عليها إنسحاب معظم الديبلوماسيين الغربيين من البلاد خلال الشهر الفائت. وقال ضابط أمن دولة على الحدود بين مصر وليبيا ل”رويترز” في الشهر الفائت: “نحن نعلم عن ثلاثة مخيمات في صحراء درنة الليبية التي هي قريبة من الحدود المصرية حيث يجري تدريب مئات من المقاتلين”. ويعتقد المسؤولون المصريون أيضاً أن أعضاء من جماعة “لإخوان المسلمين”، الذين تم إعتقالهم بالمئات داخل مصر، يسعون إلى اللجوء إلى ليبيا. كما أن دور الإسلاميين، و”الإخوان المسلمين” على وجه الخصوص، في المستقبل السياسي لليبيا يستمر في أن يكون مصدر قلق للأمن المصري على أسس أيديولوجية وحدها.
لكن إحتمال التدخل العسكري المصري المباشر في ليبيا لا يزال غير مرجّح. ويواجه الجيش المصري تهديدات من متشددين محليين: إنه شارك بنشاط على مستوى منخفض في مكافحة التمرد في سيناء والإرهاب في البر المصري. ويفيد بعض الخبراء بأنه ليس في موقف يسمح له الإقدام على إجراء محفوف بالمخاطر مثل التورط في حرب أهلية متعددة الجوانب والجارية في ليبيا.
ويعتقد بعض المراقبين بأن وراء تركيز المؤسسة الأمنية المصرية على أمن الحدود، والتتبع والحظر على الحدود الليبية، يكمن سبب وهو أن القاهرة هي أكثر عرضة للتورط في الشؤون الداخلية الليبية في المستقبل القريب، حيث أخذت في تعميق علاقاتها مع القوى المناهضة للإسلاميين وإحياء الروابط مع الوجوه السابقة لنظام القذافي. ويمكن أن تشمل هذه الخطوة الدعم الديبلوماسي المصري للحلفاء داخل ليبيا، وتكثيف تبادل المعلومات الإستخباراتية مع الميليشيات المفضّلة، وتنسيق العمليات. وقد بدأت فعلياً زيادة التنسيق مع الدول الأخرى الذي من المرجح أن يتسارع. كما أن مصر ستراقب عن كثب سلامة ووضع مئات الآلاف من المصريين العاملين في الخارج الذين يقيمون ويعملون في ليبيا. بالنسبة إلى مصر، فإن قضية ليبيا، مثل غزة، تُفهم بالنسبة إلى إستقرارها الداخلي. إن نهج مصر من المرجح أن يكون مركزاً على الأمن، وكما هو الحال مع إنتقالها الكارثي الخاص، فهو قصير النظر بالنسبة إلى السياسة والديبلوماسية البناءة.

سوريا والعراق

فقط عندما يبتعد خارج حدوده يتبع مشروع النظام المصري الحالي نهجاً أكثر توازناً حيث يؤكد على الإستقرار من خلال تسوية سياسية. لكن لا تزال هناك أوجه تشابه أساسية: التمسك بالوضع الراهن. يبدو السيسي أنه يعارض أيّ وجميع التغييرات في الأنظمة أو الحدود – بما في ذلك الدول التي ليست بالضرورة حليفة. إنه يركّز على الإستقرار، وليس على دفع أجندات إقليمية.
بالنسبة إلى سوريا، بدأت مصر تراهن على نهجً أكثر تصالحياً وديبلوماسياً مباشرة بعد إطاحة مرسي. متحدثاً في تموز (يوليو) 2013، أوضح وزير الخارجية السابق نبيل فهمي أن مصر تعتقد بأن “الحل السياسي ضروري”. وبتأكيده على الخوف من إمتداد التشدد الإقليمي، فقد أراد فهمي خلق فوارق بين حكومة مرسي وسياسات يفضّلها بعض حلفائه المتشددين بقوله صراحة أنه “لا يوجد أي نية للجهاد”. وجاء هذا التعليق الأخير آخذاً في الإعتبار صعود المقاتلين الأجانب المصريين، فيما سافر عشرات الشبان المصريين إلى سوريا للانضمام إلى الحرب الأهلية الطائفية المتنامية. قبل الانتخابات الرئاسية السورية في  3 حزيران (يونيو) الفائت، أكد فهمي دعم مصر ل “حل سياسي بين الأطراف في سياق مضمون ومبادئ جنيف الثاني، بغض النظر عن الآليات”.
البيانات النمطية على ضرورة إيجاد حلول سياسية للحرب الأهلية في سوريا تأتي من مختلف أنحاء المنطقة. ولكن في الأشهر الأخيرة، عكس نهج مصر بالنسبة إلى سوريا الهدف النهائي، خصوصاً فيما تنظيم “الدولة الإسلامية” ينتشر على جانبي الحدود السورية -العراقية. مع إنضمام العديد من المصريين المتشدّدين إلى المعركة، فقد نأت مصر بنفسها بقوة عن فكرة تغيير النظام في سوريا، والبعض داخل المؤسسة الأمنية يذهب الى حد أنه يرى معركة بشار الأسد ضد “الدولة الإسلامية” بإعتبارها قضية مشتركة.
مصر ليست لاعباً مركزياً ديبلوماسياً بالنسبة إلى سوريا وأنها لن تصبح واحداً. لكن ديبلوماسيين في القاهرة سعوا إلى إقحام أنفسهم من وراء الكواليس الديبلوماسية في طرق تذهب ضد السعودية أكبر راعٍ وداعم للقاهرة. وأبرزها كان حين سعت مصر إلى تسهيل الحوار السري بين الشخصيات المعارضة المعتدلة والنظام السوري. الهدف غير المعلن من هذا الحوار كان التحوّل السياسي في نهاية المطاف الذي يحافظ على الدولة السورية في حين تنضم إليها شخصيات معارضة تُعتبر مقبولة لدى معظم الأطراف. من جهتها تجنبت القاهرة بشكل واضح أهدافاً طائفية في سوريا وتحرص على الدفع لإعادة هندسة الوضع الراهن إلى وضع ما زال مبهماً حتى الآن كمصير بشار الأسد النهائي.
إن وقف تقدم تنظيم “الدولة الإسلامية” والقضاء عليه له الأسبقية على المنافسة الإقليمية وسياسات القوة الطائفية.
وقد أُعلن هذا التوجه المؤيد للوضع الراهن بصراحة أكثر وعلناً عندما تعلّق الأمر بالعراق، البلد الذي إلى حد كبير يقاطعه السنة في العالم العربي الذين يبدو أنهم غير مستعدين لبدء التعامل مع واقع النظام السياسي الذي يقوده الشيعة في بغداد. إن موقف مصر لافت خصوصاً في ضوء الدعم المالي والديبلوماسي الهائل الذي تلقته وتتلقاه البلاد من كل من المملكة العربية السعودية ودولة الامارات العربية المتحدة منذ إطاحة مرسي. حتى في خضم توسّع القلق المشترك حول زخم توسع “الدولة الإسلامية”، فإن المملكة العربية السعودية ودول الخليج لم تبذل أي جهد لإصلاح العلاقات مع الحكومة العراقية. بدلاً من ذلك، إستمرت النظر إلى العلاقات بدقة من خلال منظور طائفي. وعلى هذه الخلفية، إن مواقف مصر الصريحة بالنسبة إلى العراق كانت مفاجئة.
بعد سقوط الموصل في أيدي تنظيم “داعش”، تحدث الرئيس السيسي مباشرة مع رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي، مبدياً دعم مصر الكامل. وأعقب الإتصال الهاتفي المزيد من التعليقات العامة التي إنتقد فيها السيسي إمكانية الإستقلال الكردي وتقسيم العراق. “الإستفتاء الذي يطالبون به الاكراد الآن في الواقع ليس أكثر من بداية تقسيم كارثي للعراق إلى دويلات أصغر متناحرة”، قال الرئيس المصري. وتبع ذلك إرسال وزير خارجيته إلى بغداد، في إشارة إلى مزيد من الدعم. وفي قلب رسالة وزير الخارجية كان التهديد الإقليمي الذي تشكله “المواجهة الطائفية وإنتشار التطرف والإرهاب باسم الدين الإسلامي”. وجاءت هذه الإتصالات الديبلوماسية فيما كانت إيران تبحث عن بديل من المالكي، الذي أصبح مسؤولاً غير مرغوب فيه. مع أيام المالكي صارت معدودة الآن بتعيين حيدر العبادي خلفاً له، فإن إنفتاح مصر على العراق قد يمثل طريقاً واعداً لإصلاح العلاقات مع العراق والبدء في عملية إعادة إدماج.
جاء تنشيط وإنتعاش السياسة الإقليمية في مصر في الوقت الذي تعرف العلاقات بين القاهرة وواشنطن توتراً أكثر مما كانت عليه منذ عقود. إن إدارة باراك أوباما، وعلى وجه الخصوص، وزير الخارجية جون كيري، حاول إصلاح العلاقات بين البلدين لكن لم تنجح هذه الجهود حتى في ظل البيئة السياسية المتردية في مصر. وكثيراً ما قوبلت المبادرات الأميركية لبدء إصلاح الإنقسامات السياسية في مصر بقمع سياسي جديد، مثل أحكام الإعدام الجماعية وسجن النشطاء السياسيين والصحافيين. وقد تسبب ذلك في حرج كبير للولايات المتحدة.
من جهة أخرى، سعى السيسي إلى إبراز جو من إستقلالية أكبر عن أميركا، في المقام الأول بمغازلة روسيا. وقد تردّت العلاقات بين واشنطن والقاهرة بفعل الأحداث الأخيرة، ولكن، مع ذلك، ما زالت حكومة السيسي تعتبر أميركا صديقة. في حين أن العلاقة ستبقى باردة ومحفوفة، لا أحد من الطرفين على استعداد لرؤية قطيعة كاملة. بدلاً من ذلك، فإن التركيز الآن يبدو أنه سيكون على القضايا التي يمكن لواشنطن والقاهرة التوافق حولها أكثر وبسهولة: مكافحة الإرهاب والتعاون الأمني.
إنالصراعات الداخلية في مصر ستبقى محط تركيز النظام في المستقبل القريب. ولكن مع الأزمة في جميع أنحاء المنطقة، بات لزاماً على نظام السيسي تطوير سياسة خارجية. والسياسة التي تبرز يبدو أنها تركز على التشدد وعدم الاستقرار، وتسعى إلى تنشيط وإبقاء الوضع الراهن في المنطقة.
مع ذلك، هناك مفارقة في نهج السيسي. أبعد من البيئة المباشرة في مصر، فقد أبدت الحكومة درجة من الواقعية وهذا هو بالضبط ما كان مفقوداً من السياسة الداخلية في مصر منذ إنقلاب العام الفائت. متحدثاً في بغداد في تموز (يوليو) 2014، شدد وزير الخارجية المصري سامح شكري على ضرورة وضع الزعماء السياسيين في العراق جانباً “الإنتماءات الحزبية والمصالح الشخصية وتحمل المسؤولية الوطنية الجسيمة الملقاة على عاتقهم لحماية العراق والحفاظ على وحدة أراضيه ووحدته”. نصيحة شكري للطبقة السياسية العراقية سليمة. ينبغي على مصر الآن أن تتبناها وتطبق كلماتها.
مستشار الرئيس غير الرسمي عمرو موسى دعا إلى “نقاش عام واسع النطاق لتوعية الرأي العام إلى المخاطر بالنسبة إلى ليبيا، وبناء الدعم اللازم في حال وجدنا أن علينا أن نمارس حقنا في الدفاع عن النفس”
جاء تنشيط وإنتعاش السياسة الإقليمية في مصر في الوقت الذي تعرف العلاقات بين القاهرة وواشنطن توتراً أكثر مما كانت عليه منذ عقود. إن إدارة باراك أوباما، وعلى وجه الخصوص، وزير الخارجية جون كيري، حاول إصلاح العلاقات بين البلدين لكن لم تنجح هذه الجهود حتى في ظل البيئة السياسية المتردية في مصر

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى