تشارلز ديكنز: الزَوجة المنْسيَّة
هنري زغيب*
في 17 تشرين الثاني/نوڤمبر 1879، وكانت كاثرين تومسون ديكنز (1815- 1879) زوجة الكاتب الإِنكليزي الشهير تشارلز ديكنز (1812 – 1872) تشعر أَنها في ساعاتها الأَخيرة، دعَت إِلى فراش احتضارِها ابنتَها كيتي وسلَّمتها رُزمة رسائل من زوجها الكاتب معلِّقَةً: “أَودِعي هذه الرسائل في المتحف الوطني البريطاني، كي يعرف العالم أَن تشارلز ذات فترة كان يحبُّني”.
هبوب الحب العاصف
كانت كاثرين ابنةَ صحافيّ مرموق في “جريدة إِدِنبُرغ” وكاتب وناقد موسيقيّ في جريدة “مورننغ كرونيكل” التي تدرَّج فيها الشاب تشارلز ديكنز. هناك سنة 1834 التقى كاثرين بنت التسعة عشر ربيعًا، ودعاها إِلى الاحتفال بعيد ميلاده الثاني والعشرين. وما هي حتى تلاقيا على الحب العاصف، فأَعلنا خُطوبتهما سنة 1835 وتزوَّجا في الثاني من نيسان/أَبريل 1836. سكنا شقَّةً متواضعةً في منطقة بلومْزْبُري، وفيها وُلِد أَولادُهما العشرة، وكتب تشارلز غير مرة أَنه، حتى لو بلغ الغنى والشهرة، لن يعرف السعادة التي يذوقها مع كاثرين في تلك الشقة المتواضعة. فمنذ التقيا رفع تشارلز حبيبتَه كاثرين إِلى مرتبة سامية. كانت طفولته بائسة حيال طفولتها الهانئة الميسورة، وأَراد نقْل تلك الرفاهية إِلى أَولاده فشاءَ له زوجةً ولهُم أُمًّا تؤَمِّن استقرار العائلة. من هنا كان يعتبر كاثرين امرأَةً استثنائية.
من الغرام إِلى الاتهام
لكنه مع توسُّع شهرته ككاتب بات يرى أَن “كاثرين والدةٌ فاشلةٌ ومدبِّرةُ بيتٍ عاجزةٌ” ويلومُها على توليدها عشرة أَولاد سببوا له عسرًا في تأْمين الموارد الكافية لمعيشتهم. وكي يضمن أَلَّا تحبل بَعد، أَوصى على سريرَين لغرفة النوم وعلى حاجز خشبي بينهما.
تمَّ الانفصال في أَيار/مايو 1858 إِثْر تَلَقّي كاثرين، مصادفةً، إِسوارة أَهداها تشارلز إِلى الممثلة الإِنكليزية هِلِن ترنان. أَذاعت الزوجةُ المصدومةُ الخبر فانتشر نبأُ العلاقة السرية بين الكاتب والممثلة.
وتروي كيتي (الابنة الثالثة لديكنز) أَنها فاجأَت والدتها تبكي بقهر ومرارة يوم وصول الإِسوارة خطأً إِلى بيت الكاتب عوض تسليمها إِلى الممثلة العشيقة وانفضاح أَمر علاقتهما. نفى تشارلز تلك الشائعات عن خيانته زوجتَه مُدِّعيًا أَنه، ككاتب مسرحي، دومًا يقدِّم هدايا للممثلين والممثلات في مسرحياته. وتحجج بتلك الاتهامات ليُعلن أَنه ما عاد يستطيع العيش تحت سقف واحد مع زوجته.
هيَ المضطربة؟ أَم هو؟
في 12حزيران/يونيو 1858 نشَر مقالًا نفى فيه قراره الانفصال عن زوجته، جاء فيه: “هذه إِشاعات كاذبة مُغْرِضة لا تنال مني وحدي بل تؤْذي إِنسانةً بريئةً غاليةً على قلبي. لذا أُعلن، باسمي وباسم زوجتي، أَنَّ أَيَّ خبر من هذا النوع بعد صدور هذا المقال يكون كاذبًا كليًّا ويكون مُطْلقه خبيثًا مؤْذيًا تشهد على كذِبه الأَرضُ والسماء”. ولكنه، بتناقض عجيب، وجَّه رسالة إِلى جريدة “نيويورك تريبيون” متهمًا زوجته بـ”غرابة مزاج” أَدَّت به إِلى تكليف شقيقتها جورجينا تربيةَ أَولاده.
بعد 158 سنة على تلك العاصفة الزوجية أَعلنَت لوسيندا هوكسْلي (حفيدةُ إِحدى حفيدات ديكنز) في حديث إِلى محطة “بي بي سي” سنة 2016 أَن جدَّةَ جدَّتِها كاثرين لم تكن مجرَّد أُمٍّ وحسْب بل كانت كاتبة وممثلة موهوبة وطاهية ممتازة، وحسَب عبارات زوجها ذاته، كانت رفيقة سفر مثالية. لكن هذه كلَّها سقطت أَمام عيشها زوجةً في ظلّ كاتب شهير مع أَنها كانت جميلةً أَنيقةَ الهندام والمظهر، كثيرةَ الأَسفار معه عكس ما أُتيح للنساء في محيطها. وكانت ممثلة جيدة جالت وإِياه على مسارح الولايات المتحدة وكندا. سوى أَنَّ حَمْلها عشر مرات أَهلك صحتها وطاقتها وحتى حياتها الزوجية. وحين أَصدرت كتابها “ماذا نهيِّئُ للعشاء؟” دليلًا للزوجات الشابات كيف يهيِّئْنَ مائدة لما بين ضيفَين و18 ضيفًا، هاجمها النقاد على أَن “وصفاتها غير صالحة بقلم امرأَة بَدينة”.
الإِنصاف بعد الغياب
سنة 2010 أَنصفتْها ليليان مايدر (مدرِّسة الأَدب الإِنكليزي لدى معهد بيتس في مدينة لُوِيْسْتُون، ولاية ماين الأَميركية) في مقال جاء فيه أَن الكتاب يقدِّم أَفكارًا لا وجبات وأَنَّ كُتَّاب سيرة ديكنز استعملوه ضدَّها ليُثْبتوا فشل الزواج مُدَّعين أَنه “كان خارق الذكاء فيما لا هَمَّ لها معه سوى حديث الجبنة والمعكرونة”. ورأت مايدر أَن “في تلك الكتابات افتراءَات كتَّاب سيرة ديكنز بتأْثير منه”.
طويلًا بقيَت سيرة كاثرين منسيَّة مظلومةً حتى سنة 2014 حين اكتشف جون باوِن (أُستاذ في جامعة يورك الكَنَدية) 98 رسالة يَظهر فيها تشارلز يغُشُّ كاثرين ويضلِّل محيطه عنها (أَودعها باون سنة 2019 مكتبة هوتون في كامبردج، ولاية ماساشوستس الأَميركية).
تلك الرسائل كان إِدوارد كوك (صديق أُسرة ديكنز وجارُها) وجَّهها إِلى صحافي صديقه روى له فيها تفاصيل غير معروفة عن فراق الزوجين كما روَتْها كاثرين لكوك قبيل وفاتها سنة 1879.
الرسائل الكاشفة
من إِحدى الرسائل: “حين أَيقن تشارلز أَن كاثرين باتت دونه مستوًى فكريًّا، حاول أَن يُوْدِعَها مصحًّا عقليًا. وصرَّحت عمّتُها هِلِن تومسون أَنه حاول إِقناع طبيب صديقه بكتابة تقرير مزوَّر يفيد أَنها مريضة عقليًّا،ة ما صدم أَصدقاء تشارلز الذين عرفوه مُدافعًا عن الفقراء والمساكين البريطانيين، ومُطالبًا بالإِصلاح الاجتماعي”.
ومن رسالة أُخرى: “لو قُدِّر لكاثرين أَن تواجه تشارلز لكانت استعارت من روايته الأَخيرة “صديقنا المشترك” (1865) هذه الأَسطر: “يمكنُكَ أَن ترميني في النار، في المياه، تحت المشنقة، وأَن تعرِّضَني لأَيِّ سقْطةٍ أَو خطرٍ أَو أَيِّ ميتةٍ تجنَّبْتُها في حياتي، فسوف أَظل على يقين بأَنني لستُ بهذه التفاهة، وبأَنكَ أَنتَ سببُ انهيار حياتي”.
- هنري زغيب هو شاعر، أديب وكاتب صحافي لبناني. وهو مدير مركز التراث في الجامعة اللبنانية الأميركية. يُمكن التواصل معه عبر بريده الإلكتروني: email@henrizoghaib.com أو متابعته على موقعه الإلكتروني: henrizoghaib.com أو عبر تويتر: @HenriZoghaib
- يَصدُر هذا النص في “أَسواق العرب” (لندن) تَوَازيًا مع صُدُوره في “النهار العربي” (بيروت).
يجب عليك تسجيل الدخول لكتابة تعليق.