مصر: أقدارُ الجغرافيا وأخطارُ حَربِ غَزّة

محمّد قوّاص*

تتحرّكُ مصر مُنذُ تَفَجُّرِ الوضع في غزّة بإيقاعاتٍ عالية، في سعيٍ لوَقفِ تدهورِ المشهد الغزّي وإمكانات توسّعه داخل المنطقة. وتنطلِقُ القاهرة من زاوية الدفاع عن مصالح مصر وأمنها المُهَدّد مباشرة بسبب الحرب وويلاتها التي تطلُّ مباشرةً على حدودها. لكنَّ التحرّكَ يعودُ أيضًا إلى محورية دور القاهرة لحلِّ هذه الأزمة، بحيث باتت وجهةً أولى لكل المبعوثين الدوليين.

والواضحُ أنَّ أيَّ مستقبلٍ لقطاع غزّة وللقضية الفلسطينية، بعد 7 تشرين الأول (أكتوبر) خصوصًا، يمرُّ حُكمًا من أبواب القاهرة. كما إنَّ كلَّ الخطط والأوراق، وآخرها تلك الصادرة عن الاتحاد الأوروبي، بشأن التسوية السياسية واحتمالات “حَلِّ الدولتين” تحتاج إلى إدارة ورعاية مصر، ذلك أنّها تمتلك علاقاتٍ مع إسرائيل من جهة والسلطة الفلسطينية وحركَتَي “حماس” و”الجهاد الإسلامي الفلسطيني” من جهةٍ ثانية، إضافةً إلى علاقاتها مع الولايات المتحدة والدائرة العربية الكبرى.

وعلى خلافِ جولاتِ الحروب التي تعرّضَ لها قطاع غزّة منذ العام 2014، وكانت القاهرة وسيطًا دائمًا ووحيدًا لإنهائها وترتيب اتفاقاتها، فإنَّ الحربَ هذه المرّة وضعت مصالح مصر على المحكِّ مباشرةً.

تعرّضَ معبر رفح بين غزّة ومصر لقصفٍ إسرائيلي من الجهة الغزّية بما يَفرُضُ مزاجًا إسرائيليًا على أنشطة المعبر. كما هدّدَ رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو بإعادة احتلال محور فيلادلفيا (صلاح الدين) الذي يقع في منطقةٍ عازلة على الحدود بين غزّة ومصر. وتعتبر مصر الأمر انتهاكاً لاتفاقية كامب ديفيد المصرية-الإسرائيلية وتصفه بـ”الخط الأحمر”.

لكنَّ التهديدَ المُباشَر للحرب في غزّة على مصر ظهرَ في ما أُعلِنَ في إسرائيل في الأسابيع الأولى للحرب، من خططٍ لتهجيرِ سكان القطاع باتجاه سيناء. ولم يكن الضجيجُ الإسرائيلي وليد الساعة، بل سبق لإسرائيل أن اقترحت الأمر على القاهرة في عهد الرئيس حسني مبارك، وأثاره الرئيس محمد مرسي مع الرئيس الفلسطيني محمود عباس.

والواضح أنَّ ردَّ فعلِ القاهرة الحاسم والحازم، وعلى لسان الرئيس عبد الفتاح السيسي، كان ضروريًا ونهائيًا لمواجهة ضغوطٍ من هذا النوع، مارسها أيضًا موفدون غربيون. أضف إلى هذه التهديدات، ما بات يتسرَّبُ داخل صحف إسرائيل من تقارير تتَّهمُ مصر بتهريب الأسلحة إلى حركة “حماس”، وتُحَمّلُ القاهرة مسؤولية مستوى التسليح الذي امتلكته “القسّام” وتعاظم أخطارها على إسرائيل. واستشرفَ بعض هذه التقارير صدامًا ما بين البلدين.

وتعتبرُ القاهرة أنَّ الحربَ في غزّة تقف وراء تراجع مداخيل مصر في قناة السويس. وبغضّ النظر عن الأجندة التي تدفع جماعة الحوثي في اليمن وإيران من ورائها لاستغلالِ حَربِ غزّة من أجل مَرامٍ أخرى، فإنَّ مصر تتعامل مع حجج الحوثيين بشكلٍ جدّي، وتسعى من خلال تطوير حلٍّ في غزّة إلى نزعِ فتيل الأخطار التي تهدّد البحر الأحمر والملاحة في مضيق باب المندب كما قناة السويس. وتتحدث معلومات من العاصمة المصرية، عن اتصالاتٍ تجري في هذا الصدد مع الحوثيين في اليمن، وعن مداولاتٍ تجري مع طهران، بغية رفع مستوى العلاقات المصرية مع إيران.

وكانَ لافتًا أنَّ مصر، كما بقية بلدان البحر الأحمر، لم تُشارِك في تحالف “حارس الازدهار” الذي أنشأته الولايات المتحدة في 18 كانون الأول (ديسمبر) الماضي لمواجهة تهديدات الحوثيين للملاحة الدولية في تلك المنطقة. كما إنَّ مصر رفضت اتّخاذ مواقف وإجراءات عدائية ضدّ جماعة الحوثي في اليمن. وقد صدر من مصر ما يُعبّرُ عن مخاوف من العسكرة التي يفرضها الغرب بقيادة واشنطن على البحر الأحمر، وما يمكن أن تسببّه من تفاقمٍ للوضع وتهديدٍ بإغلاق الملاحة، بدل توفير الأمان لها، وهو أمرٌ سيتداعى بشكلٍ موجع على أنشطة قناة السويس.

وكان رئيس هيئة قناة السويس، الفريق أسامة ربيع، أعلن في 11 من الشهر الجاري، أنّ إيرادات القناة انخفضت 40 في المئة منذ بداية العام، مُقارنةً بالعام 2023، بعدما أدّت هجمات الحوثيين في اليمن على سفن، إلى تحويل مسار إبحارها بعيدًا من هذا الممر.

وتوازيًا مع اتصالاتٍ تجريها مصر مع الحوثيين. تُطَوِّرُ القاهرة علاقاتها مع طهران بإيقاعاتٍ سريعة، خصوصًا بعدما تطوّرت علاقات السعودية والإمارات ودول خليجية أخرى مع طهران. وكان وزير الخارجية المصري سامح شكري التقى نظيره الإيراني حسين أمير عبد اللهيان على هامش الاجتماع السنوي للجمعية العامة للأمم المتحدة في نيويورك في أيلول (سبتمبر) الماضي. كما إنَّ الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي كان أجرى اتصالًا هاتفيًا مع الرئيس السيسي الشهر الماضي، واتفقا، وفقَ مصدرٍ إيراني، على “اتخاذِ خطواتٍ جادة لحسم الخلافات العالقة بين إيران ومصر، وضرورة إنهائها بشكلٍ كامل”. وتكشف المعلومات، عن الإعداد لزيارةٍ يقوم بها عبد اللهيان إلى القاهرة، للإعداد ربما لزيارة رئاسية يقوم بها رئيسي إلى مصر.

ويذهبُ بعضُ التحليلات إلى أنَّ الضغوطَ الاقتصادية الحادة التي تتعرّض لها مصر، بما في ذلك تغيير وكالة “موديز” للتصنيفات الإئتمانية نظرتها المستقبلية لمصر من “مستقرة” إلى “سلبية” في 18 من الشهر الجاري، ليست بعيدة من سياقِ ضغوطٍ مُتعدّدة الأغراض تتعرّضُ لها القاهرة.

غير أنّ تقاريرَ أُخرى تضعُ الأزمة أيضًا في سياقٍ مصري، يتعلّقُ بهيكل الاقتصاد والنموذج التنموي المعمول به، الذي لا يُجاري إمكانات مصر وكفاءاتها، ولا يأخذُ بالاعتبار المشهدَين الإقليمي والدولي في التأثير على استيراد الرساميل الأجنبية. وما بين ما هو أمني وما هو اقتصادي، تنشطُ مصر للتعامل مع أخطارٍ مُتعَدِّدة تناسلت من حرب غزّة.

في المقابل، فإنَّ الحربَ في السودان والأزمة في ليبيا تطلّان على اليوميات المصرية بشكلٍ ضاغط، يَفرُضُ على القاهرة أدوارًا إجبارية داخل هذين الملفَّين. وكان لافتًا في الأيام الأخيرة الموقف الصاخب الذي اتخذته مصر ضدّ إثيوبيا بسبب اتفاق أبرمته الأخيرة مع “جمهورية أرض الصومال” غير المُعتَرَف بها، من أجل إنشاء منفذٍ بحري وقوة عسكرية بحرية على البحر الأحمر. وتُمثّلُ الزيارة التي قام بها الرئيس الصومالي حسن شيخ محمود، الأحد الماضي، وعقده قمّة مع الرئيس المصري في القاهرة أعراضَ “تحالف” ضدّ إثيوبيا يرفع من مستوى التوتّر الذي سبق أن شاب العلاقات المصرية-الإثيوبية، بسبب الخلاف بشأن سدّ النهضة الإثيوبي في السنوات الأخيرة.

  • محمّد قوّاص هو كاتب، صحافي ومُحلّل سياسي لبناني مُقيم في لندن. يُمكن متابعته عبر تويتر على: @mohamadkawas
  • يَصدُرُ هذا المقال في “أسواق العرب” (لندن) توازيًا مع صدوره في “النهار العربي” (بيروت).

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى