فريد الخازن تنبأ بإفراغ الجمهورية من الرئاسة الأولى منذ 14 عاماً!

عادة نكتب في هذه الصفحة عن كتاب صدر حديثاً إلّا أن “أسواق العرب” إرتأت أن تكتب في هذا الشهر عن كتاب صار عمره 14 عاماً لأهمية ما جاء فيه ولتوقعاته المهمة بالنسبة إلى لبنان، والذي كتبه النائب في مجلس النواب اللبناني وأستاذ العلوم السياسية في الجامعة الأميركية في بيروت الدكتور فريد الياس الخازن تحت عنوان “تفكك أوصال الدولة في لبنان”.

كتاب "تفكك أوصال الدولة": كأنه كتب الآن !!!
كتاب “تفكك أوصال الدولة”: كأنه كتب الآن !!!

بيروت – جوزف قرداحي

ماذا تغيّر منذ “إتفاق القاهرة” الذي وقّعته الدولة اللبنانية مع منظمة التحرير الفلسطينية في العام 1969، ومنح الفلسطيني الحق بالتسلح، وإقامة الحواجز داخل العاصمة، وشن العمليات الفدائية عبر الحدود، وإخضاع هيبة الدولة لسلطة ياسر عرفات، الذي أعلن من داخل الضفة الغربية، أنه حكم لبنان مدة عشر سنين، ولن يعجز في أن يحكم الضفة وقطاع غزة؟!
أين نحن اليوم من الأمس، وكم من حكايات الموت نسجتها دولتنا مفككة الأوصال، ورمت أبناءها في أتون نار الحروب العبثية المتكررة، بأسماء وتواريخ وعناوين ووجوه تتغير كما الفصول والأعمار وسياسات دول القرار في العالم.
قلة من الأكاديميين قامت بدراسة الحقبة التي تلت حرب العام 67، والهزيمة المدوية للجيش المصري، وحاولت تحليل العلاقة بينها وبين تطور النزاعات المسلّحة منذ إتفاق القاهرة وما قبله وما بعده. من هذه القلّة التي وضعت دراسة أكاديمية حول مسببات الأزمات الأمنية المتكررة في بلد مثل لبنان، كان النائب في البرلمان اللبناني عضو “تكتل التغيير والإصلاح” الدكتور فريد الياس الخازن، ونشرها بالأنكليزية أولاً في كتاب صدر عن دار “I.B.Tauris Publishers. London. New york” في العام 2000 تحت عنوان: “The breakdown of the State in Lebanon”، ومن ثم بالعربية في العام 2002 عن “دار النهار للنشر”، تحت عنوان: “تفكك أوصال الدولة في لبنان” (ترجمة شكري رحيّم) يتناول فيه عملية زعزعة الإستقرار على الصعيدين الداخلي والخارجي على حد سواء، وذلك منذ نهاية ستينات القرن الفائت، وهي الفترة التي شهدت توقيع “إتفاق القاهرة” في عهد الرئيس شارل الحلو، والتداعيات التي تسبب فيها هذا الإتفاق، الذي أدى إلى تفكك أوصال الدولة وإنهيارها كلياً في العام 1975.
لكن ما هدف “أسواق العرب” اليوم، من وراء تسليط الضوء على كتاب مر على صدور طبعته الأولى بالإنكليزية 14 عاماً وطبعته الثالثة نحو من سبعة أعوام، وفي هذا التوقيت بالذات وفي ظل الظروف الأمنية والسياسية التي يمر بها لبنان؟!
إذا استعرضنا أهم المحطات التي عالجها دكتور فريد الياس الخازن في كتابه، نُدرك أن ما يعانيه لبنان اليوم من أزمات، هو نتيجة تراكمات أخطاء جسيمة في إدارة الدولة، إرتكبها السياسيون اللبنانيون تباعاً، بسبب تناقضات أهل الحكم في ما بينهم، والصراعات الخفية على إقتسام الحصص والمكاسب، وسياسة الترقيع والتراضي على حساب القانون وهيبة السلطة. ومع كل خضّة أمنية كانت تخوضها المجموعات المسلحة الخارجة على القانون ضد المؤسسات العسكرية، كانت تلجأ الدولة إلى ترقيع الحلول، والخروج من أزماتها على قاعدة سياسة: “قتل الناطور ومسايرة الواوي من دون أن تأكل العنب”.
وسنلاحظ أن سياسة عض الأصابع ولحس المبرد، لا تزال تراوح مكانها، وإن تغيّرت هُوية المجموعات المسلحة التي تزعزع أمن اللبنانيين، من الكوفية الفلسطينية التي فقدت قدسيتها وغرقت في وحول الطوائف اللبنانية، إلى المجموعات السورية المتخذة أدوارا عديدة والمتحكّمة بكل مفاصل الدولة، ناهيك عن المجموعات المسلّحة اللبنانية المتعددة الإنتماءات، وصولاً إلى المجموعات المتطرفة الإسلامية التي تنتمي إلى عشرات الجنسيات والإيديولوجيات والعقائد والشرائع والمخططات.
يؤكد الخازن في كتابه “تفكك أوصال الدولة اللبنانية” أنه مع كل الدعم العربي الذي حشدته منظمة التحرير الفلسطينية لنفسها، ومع كل الإنتباه الدولي الذي استقطبته، ما كانت لتستطيع ممارسة عملها ونشاطها بإستقلالية ذاتية لولا الملاذ الذي وجدته في لبنان. إنها إستقلالية مستحيلة المنال في أي بلد عربي غير لبنان، وقد نظرت منظمة التحرير إلى قاعدتها اللبنانية نظرة إستراتيجية في السنوات التي تلت خسارتها قاعدتها الأردنية. من هنا، ونتيجة لهذا المستجدّ، لم يعد لبنان مكانا تكتفي فيه المنظمة بوجود سياسيّ وعسكري محدود.
ويفسر الخازن في سياق متصل، أسباب فشل النظام اللبناني، فيقول في الصفحة 33: “عديدة هي الطروحات التي حاولت تفسير فشل النظام اللبناني، وقد ركّزت كلها على العوامل الداخلية والخارجية. وفيما تعكس هذه التفسيرات وجهات نظر متباينة حول لبنان ما قبل الحرب وما بعدها، سنركّز نحن على دراسات رئيسية كُتبت قبل إندلاع الحرب في العام 1975 لأن معالجتها النظام السياسي جاءت من موقع يرى لبنان ما قبل الحرب، ذلك أن لبنان ما بعد الحرب كان قد تحوّل دولة مختلفة كفّ فيها النظام السياسي عن القيام بمهمته”.
وفي مكان آخر، يلجأ الدكتور فريد الخازن إلى دراسة مسهبة عن لبنان اعدها البروفسور في علم الإقتصاد والباحث الأميركي مايكل هدسون يقول فيها: “إن مشكلات لبنان التاريخية ليست في طور الإختفاء، فالفئوية الضيِّقة تزداد حدة مع التغيّر الإجتماعي، وإمكانات الإزدهار الداخلي تبقى موضع شك في ظل المناحي الديموغرافية وضعف القطاع المنتج. (مؤكداً) أن التطرف ولو كان جزئياً فهو من سمات الإضطراب المتمادي في العالم العربي عموماً، الذي لا يجد له موقعاً شرعياً في السياسة اللبنانية، وقد فشل النظام في إيجاد معارضة يسارية مسؤولة”.
ويتابع هدسون ليضع إصبعه على الجرح مباشرة، فيقول: “وعلى الرغم من الميثاق الوطني فإن القومية العربية والخصوصيات الإقليمية لا تزال تشكل تهديداً للكيان اللبناني، كما لا ينفك تنافس القوى العظمى يورّط شعوب المنطقة. إن موقع لبنان من الأهمية الإستراتيجية بحيث لا يمكنه البقاء خارج تأثير هذه التزاعات”.
ويختم قائلاً: “لعلّنا نخاطر في الظهور كمن يقلل من شأن العبقرية اللبنانية، لكن لا بدّ من الإستنتاج أن المستقبل السياسي للجمهورية سيكون عاصفاً!” (صفحة 37).
في الختام، لا نستطيع سوى القول أن كتاب “تفكك أوصال الدولة اللبنانية” الذي يستشرف المستقبل، وكأنه كان يتنبأ بما ستؤول إليه الجمهورية التي أُفرِغت من رئاستها الأولى إلى أجل غير مسمّى، والتي أُفرغت بالتالي من كل رجالات الوطن الكبار الذين يصنعون جمهورية بحجم الكون، لا مزرعة بحجم حساباتهم السياسية الضيِّقة!

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى