تَراجُعُ هَيبَة الشهادات وصعودُ منظومة المهارات: كيفَ يُعيدُ العالمُ رَسمَ خرائط العِلمِ والعمل؟
البروفِسور بيار الخوري*
يشيرُ تقريرُ العام 2025 للمُنتَدى الاقتصادي العالمي حول مستقبل الوظائف إلى أنَّ ما يُقارب 39% من المهارات المطلوبة في سوق العمل ستتغير بحلول العام 2030، وهو ما يَعكسُ التحوُّل الكبير الذي يعيشه الاقتصاد العالمي، حيث لم تَعُد الشهادات وحدها كافيةً لضمانِ النجاح المهني. التركيزُ باتَ مُنصَبًّا على مهارات التفكير التحليلي والإبداعي والمرونة والقدرة على القيادة. هذا التحوُّلُ لا يَظهَرُ في الأرقام فقط، بل يتجسّدُ في سياساتٍ عمليّة تبنَّتها دولٌ وشركات، اختارت أن تمنحَ الأولويّة للكفاءة الواقعية على حسابِ المؤهّلات الأكاديمية.
الهند تُمثّلُ أحد أبرز النماذج في هذا المجال. فقد كشف “تقرير المهارات في الهند 2025″ (India Skills Report 2025) أنَّ نسبةَ القابليّة للتوظيف بين الشباب تبلغ 54.8%، في إشارةٍ إلى أنَّ السوقَ الهندية تعترفُ بأنَّ الشهادة ليست سوى بداية. كما إنَّ 63% من العاملين سيحتاجون إلى إعادةِ تأهيلٍ مهني بحلول العام 2030، ما يجعلُ التعلُّم المُستَمرّ ضرورة لا غنى عنها. ولعلَّ ما يُميِّزُ التجربة الهندية أنَّ المؤسّسات التعليمية والصناعية تتحرّكُ بشكلٍ مُتوازٍ: الجامعات تُدخِلُ خرائطَ المهارات في مناهجها، والشركات تُوَسِّعُ برامجَ التدريبِ العملي والتلمَذة، حتى وصلَ عدد المُتدرِّبين في منتصف 2024 إلى أكثر من 746 ألف شاب وشابة مُوزَّعين على عشرات الآلاف من المنشآت. هذا الدمجُ جعلَ الخرّيجين يحملون سجلًّا عمليًّا حقيقيًّا بدلًا من الاكتفاء بالدرجات النظرية، وهو ما يعكسُ قدرة الهند على تحويل ثقلها السكاني من عبءٍ إلى ميزةٍ استراتيجية.
لكنَّ الهند ليست وحدها في هذا الطريق. في بريطانيا مثلًا، بدأت شركات كبرى مثل” Kurt Geiger” و”Accenture” و”IBM” و”Kellogg’s” في تقليص الاعتماد على شرط الشهادة الجامعية، مُعتبرةً أن الموهبة والطموح والقدرة العملية أهم بكثير. وفي الولايات المتحدة ظهر مفهوم “New Collar” الذي يَصفُ الموظفين الذين يثبتون أنفسهم بالمهارات الفعلية لا بالألقاب الأكاديمية، حيث أطلقت شركات مثل “IBM” و”Walmart” و”Aon” برامج واسعة تمنح فُرَصًا واقعية لغير الجامعيين، بينما ألغت ولايات مثل بنسلفانيا شرط الشهادة في آلاف الوظائف الحكومية. كوريا الجنوبية من جهتها بنت تجربة “Meister Schools” التي تضمن للطلاب تعليمًا مهنيًا عالي الجودة يربطهم مباشرة بسوق العمل ويؤمن لهم وظيفة شبه مؤكّدة فور التخرُّج، وهو ما غيّر النظرة الاجتماعية للتعليم المهني. أما بنغلادش فاعتمدت برنامج “برنامج الاستثمار في المهارات من أجل التوظيف” (Skills for Employment Investment Program) الذي نجح حتى العام 2023 في تدريب مئات الآلاف ورفع نسب التوظيف إلى أكثر من سبعين في المئة، مع إشراكِ النساء والفئات المهمَّشة في سوق العمل. وفي دول الشمال الأوروبي مثل فنلندا والنروج وسويسرا، أصبح التعليم المهني خيارًا متساويًا مع التعليم الأكاديمي، حيث يجمع الطالب بين الدراسة والتدريب العملي المأجور، ما ساعد على تقليص بطالة الشباب إلى معدلات تُعَدُّ من الأدنى عالميًا.
تجاربُ الهند وبريطانيا والولايات المتحدة وكوريا الجنوبية وبنغلادش وأوروبا الشمالية تلتقي عند قناعة واحدة: الشهادةُ وحدها لم تَعُد كافية. ما يُميّزُ الاقتصادات الأكثر قدرةً على المنافسة هو الاستثمار في الإنسان عبر التدريب المُستمر، وفتح أبواب سوق العمل أمام الكفاءة الحقيقية بدلًا من احتكار الاعتراف بالمؤهّلات الأكاديمية. هذا الاتجاه يشي بمرحلةٍ جديدة تتجاوز الشكل التقليدي للتعليم نحو منظومةٍ أكثر حيوية، تضعُ الأداء العملي والابتكار والتعلُّم مدى الحياة في صميم النجاح الفردي والجماعي.
- البروفِسور بيار الخوري هو أكاديمي لبناني وكاتب في الإقتصاد السياسي. وهو عميد كلية إدارة الأعمال في الجامعة الأميركية للتكنولوجيا. يُمكن التواصل معه على بريده الإلكتروني: info@pierrekhoury.com