غزة ليست لبنان؟ عُقدةُ المَسار والمَصير بين “حزب الله” و”حماس”

تتقاطَعُ أزماتُ غزة ولبنان في المشهد الإقليمي المُضطَرِب، لكن تشابه المآسي لا يعني تَطابُق المسارات. فبين “حماس” و”حزب الله” فروقٌ جوهرية في العقيدة والتحالفات والظروف الداخلية تجعلُ مصير كلٍّ منهما مرهونًا بمعادلات مختلفة، في زمنٍ تُعيدُ فيه القوى الإقليمية صياغة أدوارها وحدود نفوذها.

غزة وبؤس المصير: هل تنفّذ “حماس” الاتفاق الذي وقعته مع إسرائيل؟

ملاك جعفر عبّاس*

يترقَّبُ اللبنانيون بقلقٍ متزايد نتائجَ الاتفاق الرامي إلى إنهاء الحرب في غزة، وما قد تحمله الأسابيع المقبلة من تطوّراتٍ يُخشى أن تفتحَ البابَ أمام عمليةٍ عسكرية إسرائيلية تستهدفُ ما تبقّى من “حزب الله” في لبنان، في محاولةٍ لفَرضِ تسويةٍ شبيهة بتلك التي عُرِضَت على حركة “حماس”. غير أنَّ المخاوفَ تتصاعَدُ من أن يأتي ذلك بعد أن تتحوّلَ قرى شمال الليطاني والبقاع والضاحية الجنوبية إلى نُسَخٍ جديدة من قرى جنوب الليطاني أو من غزّة المُدَمَّرة. وتتداول الأوساط السياسية والأمنية سيناريوهاتٍ مُتعدِّدة، أحدها يُشيرُ إلى أنَّ المرافقَ العامة والعاصمة بيروت قد لا تسلم هذه المرة، فيما يذهبُ آخر إلى احتمالِ اجتياحٍ بريٍّ واسع يبدأ من البقاع.
في المقابل، يرى كثيرون أنَّ “حزب الله” ليس “حماس”، ولبنان ليس غزة، وأنَّ التهويلَ بالحرب الكبرى يخدمُ بالدرجة الأولى الأجندة الإسرائيلية الساعية إلى تحقيقِ مكاسب سياسية داخلية عشية الانتخابات. فـ”وحدة الساحات” لا تعني بالضرورة أنَّ تَلازُمَ المسارات قدرٌ لا يُمكِنُ تجنُّبه. وربما في هذا الطرح شيءٌ من الدقة، لا لجهة التقليل من خطر المواجهة والحرب، بل لجهة اختلاف طبيعة الخيارات والفُرَص المُتاحة أمام كلٍّ من الجماعتَين المسلحتين في المرحلة المقبلة.

تركيا و”حماس”: من المقاومة إلى البراغماتية السياسية

صحيحٌ أنَّ اتفاقَ إنهاء الحرب في غزة –إذا ما طُبّق فعلًا– سيعني عمليًا نهاية حركة “حماس” كتنظيمٍ مسلّح وهيكلٍ إداري وربما كفاعلٍ سياسي يقوم على سردية المقاومة المسلّحة، إلّا أنَّ دخولَ تركيا بقوة على المشهد الفلسطيني يفتح أمام الحركة آفاقًا جديدة قد تُمكّنها، إن أحسنت استثمارها والاستفادة منها، من العودة إلى الحياة السياسية بزخمٍ أكبر، وربما حتى من طَرقِ أبواب البيت الأبيض يومًا ما.
فلأنقرة خبرةٌ طويلة في إعادةِ تشكيلِ الخطاب الإسلامي بما يتلاءم مع مقتضيات السياسة، من مشروعِ الدولة الإسلامية لنجم الدين أربكان إلى الدولة المحافظة ذات المرجعية الإسلامية في عهد رجب طيّب إردوغان، وما انبثقَ عن ذلك من أحزابٍ وتياراتٍ تدورُ جميعها في فلك الإسلام السياسي، لكنها تبقى ضمن إطار الدولة الوطنية الحديثة. وقد بنى الإسلام السياسي التركي الحديث نفوذه لا على الخطاب الديني وحده، بل على إنجازاتٍ اقتصاديةٍ كبرى أسّست لشبكةٍ واسعة من رجال الأعمال والمؤسّسات، وجعلت من تركيا مركزًا اقتصاديًا وعسكريًا فاعلًا بين منابع الطاقة والأسواق العالمية، وقوةً إقليميةً يُحسَبُ لها حساب في المعادلات السياسية والأمنية من آسيا الوسطى إلى شمال أفريقيا.
كما نجحت الديبلوماسية التركية في ترميم شبكة علاقاتها ومصالحها خلال السنوات الأخيرة، لتَستعيدَ أنقرة موقعها المحوري في معظم الملفّات الساخنة في المنطقة. وكما مهّدت الطريق سابقًا أمام أبي محمد الجولاني للانتقال من إدلب إلى دمشق، ويُصبح الرئيس أحمد الشرع، عبر تسويةٍ معقّدة غيّرت مسار الصراع السوري، يُمكنها اليوم أن تُهَيئَ ل”حماس” موقعًا جديدًا في المشهد الفلسطيني المقبل، شرطَ أن تُدرِكَ الحركة مُتغيِّرات المرحلة وتقطعَ صلتها بطهران، وأن تُسلِّمَ سلاحها وتنخرطَ في مسارٍ سياسي مدني مختلف جذريًا عن سابق عهدها.
وقد بدا التأثير التركي واضحًا في موقف “حماس” الأخير، إذ مارست أنقرة ضغوطًا على قياداتها للقبول باتفاق إنهاء الحرب، بعد جهدٍ ديبلوماسي كبير أقنعت فيه الدول المشاركة في مؤتمر شرم الشيخ بطرحها القائم على التوازن بين التحوُّل الاقتصادي والسياسي في رَسمِ ملامح ما بعد الحرب. وربما أدركت قيادة “حماس”، بعد الضربة الإسرائيلية لقطر والهزيمة العسكرية في غزة، أنَّ لا حامي لها اليوم سوى تركيا التي احتضنتها سياسيًا وأمنيًا، حتى حانت لحظة التسوية وهي تعلم أنَّ العودة إلى الحضن الإيراني لن تجلبَ لها سوى سلسلة من الاغتيالات والانتكاسات.
إلّا أنَّ الوقت لا يعمل لصالح “حماس”؛ فهي محكومة بجداول تنفيذ الاتفاق وتحت رقابة آلة الحرب الإسرائيلية التي تنتظرُ الفرصة للعودة إلى المواجهة. كما إنَّ الرعاية التركية نفسها تبقى رهنًا ببقاء إردوغان في الحكم، وسط مؤشّراتٍ إلى تحوّلاتٍ محتملة في المزاج السياسي الداخلي التركي.
ورُغمَ ذلك، تمتلكُ “حماس” فرصةً استثنائية إن أرادت التحوُّل: فهي كتنظيمٍ مسلح لا تُدرَج على قوائم الإرهاب الدولية، إذ لم تُنفِّذ عملياتٍ خارج فلسطين التاريخية. كما إنَّ لها أكثر من خيارٍ للبقاء؛ فيمكنها أن تفكَّ ارتباطها ب”محور الممانعة” الإيراني وتواصل كحركة مقاومة وطنية فلسطينية، أو أن تُلقي السلاح وتتحوّل إلى حزبٍ سياسي ذي مرجعية إسلامية سنّية، أو أن تُخفّفَ من لهجة خطابها الإيديولوجي لتصبحَ حزبًا محافظًا ضمن إطار منظمة التحرير الفلسطينية.
لكن هذا الترف في الخيارات الذي تملكه “حماس”، لا يبدو مُتاحًا ل”حزب الله” في لبنان.

“حزب الله” وإيران: الطريق المسدود ومأزق الخيارات

وإن كانَ طريقُ “حماس” إلى الخروج من عنق الزجاجة يمرُّ عبر أنقرة، فإنَّ طريقَ “حزب الله” لا يمكن أن يمرَّ إلّا بطهران. فالعلاقة بين الطرفين لا تقوم على تحالفٍ سياسي ظرفي، بل على ارتباطٍ عقائدي وتنظيمي ومالي عميق يجعل مصير الحزب مُلحقًا بالقرار الإيراني، من دون أن يمتلكَ القدرة على التأثير فيه أو الفكاك منه. وليس ذلك لأنَّ إيران قادرة على صياغةِ اتفاقٍ يمنحُ الحزب فُرصةً مشابهة لتلك التي قد تُتاح ل”حماس”، بل لأنَّ تشابُكَ المصالح والولاءات يجعلُ أيَّ تحوُّلٍ في مسار “حزب الله” رهنًا بما تريده طهران لا بما يحتاجه لبنان.
وطالما أنَّ إيران نفسها ما زالت عالقة في أزمتها، بين تجميد الحرب مع إسرائيل وتعثُّر المفاوضات النووية وعودة العقوبات الأممية، فلا يبدو أنَّ هناكَ حبلَ نجاةٍ خارجيًّا يمكن أن يُمَدَّ لإنقاذ “حزب الله” ولبنان من مصيرٍ قد يشبه مصير غزة، إلّا في إطار تسويةٍ إقليمية أوسع تُعقَدُ مع طهران.
في الداخل، لا تبدو قيادة الحزب الحالية مؤهَّلة لاجتراح حلولٍ غير تقليدية، فهي أسيرة جمودٍ إيديولوجي وتنظيمي تتحكّم طهران بتفاصيله، وغير قادرة حتى على استخدام ما في متناولها من أوراق بسبب الرقابة الإسرائيلية الدقيقة. يُكثِرُ خطابها من الشعارات التي تُعمِّقُ وتوسّع المسافات مع أبناء الوطن، وتفتقرُ ممارساتها إلى أيِّ مبادرةٍ جريئة يمكن أن تُنقذَ جمهورها من موتٍ محتوم. في المقابل، تطفو إلى السطح خلافاتٌ داخل الصفّ القيادي الثاني، حيث ينشغلُ بعضُ الشخصيات بصغائر الأمور والمكاسب الانتخابية، بدلًا من الانخراط في تفكيرٍ استراتيجي يُعيدُ قراءة التجربة التاريخية للحزب من منظورٍ نقديٍّ بنّاء، يتعلّم من الأخطاء، ويبني على ما تحقّق لصناعة مستقبلٍ أكثر أمنًا وعدلًا لأبنائه.

بين التاريخ والمصير: خيارُ الشيعة بين العزلة والدولة

لا تكفي قراءة العقود الأربعة الماضية لمعرفة تاريخ الشيعة في لبنان، فهو، كما يرويه المؤرّخ سعدون حمادة، تاريخٌ ممتدٌ لمئات السنين يتحدّثُ عن طائفةٍ كانت تُشكّلُ يومًا أكثر من تسعين في المئة من عدد سكان ما يعرف اليوم بدولة لبنان، وكان لها من الإمارات والزعماء والأبطال والشهداء ما يفوق بأشواطٍ ما قدّمه “حزب الله” وحركة “أمل” مُجتمعَين. فقد شهد التاريخ الشيعي حركة الأمير علي بن موسى في القرن العثماني الأول وثورة ناصيف النصّار بعده بقرنين وغيرهما. وقيل عن الأخير أنه ” لم ينهزم في معركة قط، ولم يشترك في حربٍ إلّا وربحها. وكانت انتصاراته غريبة في بابها تكاد تُنكِرها العقول. قتلَ من اعدائه ثلاثة الاف في موقعة كفررمّان وقُتِلَ من جيشه خمسة عشر رجلًا فقط، وقتلَ في وقعة البحرة ثمانية ألاف من خصومه وقُتِل من عسكره رجلٌ واحد هو الشيخ جبر من الحمادية. وبعد نصره كان لا يستأصل ولا ينهي ولا يدمّر”. يكفي أنَّ ذكرى هذا الثائر عاشت لأكثر من خمسين عامًا بعد رحيله قبل اختراع التكنولوجيا ووسائل التواصل الحديثة.

لكن هذه البطولات لم تمنع تقلّص حضور الشيعة بفعل الحروب والمجازر والتحوُّل الى الديانات والمذاهب الأخرى ليس فقط بسبب القمع الديني لكلِّ الدول التي تعاقبت على حكم “لبنان” منذ المماليك وحتى الاستقلال، إنما أيضًا وبشكلٍ أساسي بسبب عجزِ معظم قياداتهم التاريخية عن نسجِ التحالفات والمصالح والعلاقات الاستراتيجية العابرة للطوائف التي تُعلي حرمة الدم الشيعي على أيِّ هدفٍ آخر، فذُرِفت الدماء على مدى قرون فداءً لأفكارٍ غير واقعية أنتجت اندثارًا لكلِّ هذه الإمارات، إلى أن انتهى المطاف بالشيعة طائفةً محرومة بكلِّ ما للكلمة من معنى عشية الحرب الأهلية.

ومع اتفاق الطائف، نال الشيعة اعترافًا غير مسبوق بدورهم ومكانتهم داخل الدولة، لكن هذا الاعتراف اليوم مهدَّد، ليس فقط بمشاريع إعادة رسم الخرائط الإقليمية، بل أيضًا بالتفكك الداخلي الناتج عن الاستقطاب السياسي الحاد الذي قد يعيدهم إلى مربع الحرمان والمطاردة. يعيش الشيعة اليوم حالة خوفٍ عميقة يصوّرها “حزب الله” كتهديدٍ وجودي، وقد تتحوّل فعلًا إلى خطرٍ حقيقي إن لم يرتقِ صانع القرار داخل الحزب إلى مستوى التحدي التاريخي.

على قادة “حزب الله” أن يُدركوا أنَّ إيران باتت عبئًا ثقيلًا عليهم وعلى شيعة لبنان، حتى وإن ظلّوا مقتنعين بصواب خطابها، فإنهم لم يَعُودوا قادرين على تحمّل كلفة أن يكونوا رأس حربتها في المنطقة. اللحظة الراهنة تستدعي قراراتٍ جريئة، وربما مغامرة نحو مجهولٍ قد يكون أكثر أمنًا من الموت المعلوم. فطريقُ الخلاص يمرّ عبر مؤسسات الدولة –من بعبدا إلى عين التينة ورياض الصلح– بدعم الدولة في مفاوضاتٍ ديبلوماسية تُنهي النزاع مع إسرائيل، وتفتح الباب أمام هدنةٍ طويلة الأمد، تُمهّدُ لسلامٍ باردٍ يُبعد شبح الحرب عن لبنان تحت المظلّة العربية والإسلامية وقرارات الشرعية الدولية.
وفي المقابل، على الحزب أن يتخذ قراره المصيري بفك الارتباط مع إيران، بما يفرضه ذلك من تغييراتٍ جذرية في الخطاب والنهج والأداء، وربما في القيادة نفسها، لإعادة وصل ما انقطع مع أبناء الوطن. وسيعني ذلك بالضرورة إغلاق ملف السلاح، وتفكيك الشبكات المالية والمؤسّسات المشبوهة التي جلبت على الطائفة عزلةً اقتصادية وملاحقاتٍ قانونية في مختلف أنحاء العالم.
فليس قدر الشيعة أن يكونوا جماعة محاربة معزولة مُهَدَّدة على الدوام، بل هو قرارٌ تصنعه القيادات وتتحمّل مسؤوليته وتُحاسَب عليه.

  • ملاك جعفر عباس هي كاتبة سياسية وإعلامية لبنانية حاورت شخصيات عربية وعالمية عدة خلال عملها في شبكة “بي بي سي نيوز عربي”. وقد تخصصت في دراسة مكافحة الإرهاب والجماعات المسلحة في جامعة كينغز كولدج لندن. يمكن التواصل معها عبر منصة “ “Linkedin على: linkedin.com/in/malakjaafar

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى