إشكاليّة السلم والحرب بين إيران والغرب
في هذه الحلقة السابعة من مسلسل “إشكالية السلم والحرب بين إيران والغرب”، نتابع خيوط تلك المرحلة الحرجة، التي مهّدت لسقوط الإمبراطورية الساسانية، ولانهيار توازنٍ إقليمي استمر قرونًا بين بلاد فارس وبيزنطية، قبل أن يبدّله الفتح العربي الإسلامي إلى الأبد.

(7)
“مقاتلُ المسيحيين”
سليمان الفرزلي*
مجازر القدس، التي سالت فيها دماءُ المسيحيين، عند دخول الجيش الفارسي إليها بقيادة كسرى الثاني (أبرويز)، في العام الميلادي 614، مُحَيِّرة للباحثين. وتفسيرها، على الأرجح، يتعلّقُ بالتقلّبات في مواقف كسرى، بسبب ما جرى له في بداية عهده، فعُزِلَ عن عرشه، ثم ما لبث أن استعاده بمساعدة الإمبراطور البيزنطي موريس.
في تقديري أنَّ كسرى غَيَّرَ رأيه بالمسيحية البيزنطية بعد مقتل الإمبراطور موريس في القسطنطينية. فقد كان المسيحيون مُقدَّمين في بلاطه، لا سيما أنَّ زوجته المفضلة، شيرين، كانت مسيحية، ولها نفوذٌ يُجمِعُ عليه المؤرّخون، ساعد على انتشار الديانة المسيحية في الدولة الساسانية، مما أثارَ حفيظة وحنق رجال الدين الزرادشتية، ممثلي الديانة الرسمية للدولة. تؤكّدُ هذا المنحى أيضًا الباحثة الأميركية المولودة في فرنسا (من أصل أرمني)، نينا غاروسيان، التي تقول إنَّ كسرى تَغيَّرَ، وعاد الى عادته السابقة، بعد مقتل راعيه الإمبراطور موريس، من حيث التناوب بين رعاية المسيحيين واضطهادهم!
لم ينتقم كسرى من المسيحية بالمطلق، أو حاول اجتثاثها، بل أخذ يشجع ويناصر المذهب النسطوري المنشق عن الأرثوذكسية البيزنطية، مع أن زوجته الثانية كانت أيضًا مسيحية، وهي أميرة بيزنطية، اسمها ماريا، (أو مريم)، شاع أنها ابنة الإمبراطور موريس، تزوّجها بعد عودته إلى عرش أبيه وجدّه، على يد الإمبراطور البيزنطي، وابنها اعتلى عرش والده، بعدما انقلب عليه وقتله، مما أدخل بلاد فارس في حربٍ أهلية، تفكّكت فيها الدولة، واستقلَّ الإقطاعيون بمناطقهم، قبل سنوات قليلة من الفتح العربي الإسلامي.
هذه القراءة لما جرى للمسيحيين في الإمبراطورية الساسانية، بعد مقتل الإمبراطور موريس، وقيام كسرى باحتلال سوريا ومصر، تُعطي تفسيرًا افتراضيًا، لقيام كسرى في العام 613م بقتل “ملك الحيرة” اللخمي، النعمان ابن المنذر، قبل سنة من دخوله إلى مدينة القدس في فلسطين، مع أنَّ “ملوك الحيرة” كانوا دائمًا حلفاءً للدولة الفارسية في صراعها التاريخي مع الدولة الرومانية، ثم البيزنطية، شأن الغساسنة في سوريا حلفاء الدولة الرومانية، ثم البيزنطية من بعدها. فقد كان كلٌّ منهما ذراعًا للدولة الراعية له، يقاتل بالنيابة عنها، خصوصًا بعد “معاهدة السلام الأبدي”، حيث انتقل الصراع بين الفرس والروم من الحرب المباشرة بينهما، إلى الحرب بالوساطة، وتحديدًا في الجزيرة العربية، حيث لم تتورّط الدولة المركزية، لا في بلاد الروم ولا في بلاد الفرس، بدخول جيوشها إلى جزيرة العرب، منذ فشل التجربة الوحيدة التي جرت في عهد أغسطس قيصر في السنة الرابعة قبل الميلاد، عندما حاول القائد الروماني غاليوس إيليوس الوصول إلى اليمن برًّا من سوريا.
الأدلة التاريخية في معظمها تؤكد أنَّ قتلَ كسرى لملك الحيرة شجَّع على انتشار المسيحية النسطورية بين العرب اللخميين في منطقة الحدود الغربية للإمبراطورية الساسانية. وهي منطقة قامت القوات الفارسية بتولي السيطرة عليها مباشرةً بعد مقتل النعمان. فليس أمرًا جديدًا، أو مستغربًا، أن تقومَ دولةٌ ما بالتخلّص من أذرعها الخارجية إذا اقتضت مصلحتها ذلك، خصوصًا إذا كان الأمرُ أقلَّ كلفة من الاستمرار في رعايتها والإنفاق عليها.!
طبعًا هناك دائمًا حكايات تُعطي الحوادث المفصليّة في التاريخ تفسيرات خيالية لا علاقة لها بالسياسة أو الحرب. ومن الحكايات التي نُسجت حول مقتل النعمان، أنَّ كسرى قتله لأنه رفض تزويجه ابنته، واسمها “الحرقة”، وهذا على الأغلب من نسج الخيال!
لكن المؤكّد، بما لا يقبل الشك، بأنَّ تلك الحادثة أضعفت الجبهة الغربية للدولة الساسانية، مما سهَّل دخول الفتح العربي الإسلامي من تلك الثغرة، تمامًا كما وصف المؤرخ البريطاني المشهور في القرن الثامن عشر، إدوارد غيبون، في كتابه الكلاسيكي “تاريخ انحلال وسقوط الإمبراطورية الرومانية”، من حيث رأى أنَّ إهمال الإمبراطور يوستينيانوس الكبير لدفاعات سوريا إلى الغرب من الفرات، بعد توقيعه “معاهدة السلام الأبدي” (عام 532م)، مع كسرى الأول (أنو شروان)، كان من الأسباب التي سهلت الفتح العربي الإسلامي لبلاد فارس من تلك الثغرة أيضًا.
*****
أكّد إدوارد غيبون في المجلد الخامس من كتابه المذكور: “إنَّ تحالف اليهود والمسيحيين النساطرة والمسيحيين اليعاقبة، وما أعطاه كسرى للمنشقّين من منافع جُزئية، أثار كراهية وقلق رجال الدين الكاثوليك (الأرثوذكس). وكان الفاتح الفارسي واعيًا لكراهيتهم وقلقهم، فراح يتعامل مع رعاياه الجدد بيد من حديد. وكلما كان يشعر باهتزاز الاستقرار في البلاد التي سيطر عليها، أرهق سكانها بالضرائب، وبأعمال المصادرة والسطو على ثرواتهم، وكان ينهب معابدهم أو يدمرها، وينقل المنهوبات من ذهب، وفضة، ومرمر ثمين، وفنون وفنانين، الى بلاده الموروثة”.
لذلك، فإنه ليس بالأمر السهل فصل صورة كسرى نفسه، وارتكاباته الشخصية، عن تلك التي قام بها ضباط جيشه ومعاونوه، أو حتى استبانة محاسنه الشخصية، وسط الوهج العام لمجده وعظمته!
على أنَّ مسألة المسيحيين النساطرة في العراق وجنوب بلاد فارس كان لها دورٌ أكبر بكثير من حجمها الفعلي في مستقبل الشرق الأوسط، خلال القرون التالية بعد الدولة الساسانية، التي كان لكسرى الثاني شأنٌ في تشكيلها. ويذهب بعض المؤرّخين إلى تفسير ما أقدم عليه من نقلٍ لعود الصليب الأصلي من كنيسة القيامة في القدس، فور احتلاله لها في العام 614م، إلى منطقة خوزستان في إيران، بأنه من قبيل تعزيز شرعية المذهب النسطوري المنشق عن الأرثوذكسية، بأن وضع في حوزتهم أغلى رمز في المسيحية!
إنَّ تدخُّلَ الحكام في بلاد فارس، وفي بيزنطية، خلال تلك المرحلة، بالشؤون المذهبية المسيحية، أمرٌ لا تجيب عنه بشكل مُقنع تمامًا الأسباب الشائعة. فقد قيل إنَّ كسرى منع التبشير الديني في إمبراطوريته، لكنه سمح للمسيحيين النساطرة أن يسافروا ويفتحوا كنائس لهم في الصين والهند، وساعدهم في ذلك المسعى. كذلك، الرواية الجارية عن الإمبراطور هرقل، بعد الهزيمة التي ألحقها بالدولة الساسانية الفارسية في سوريا عام 628 للميلاد، بأنه حلَّ ضيفًا على الرهبان الموارنة في دير لهم بين حماه وحمص، فأقنعوه بمذهبهم “المونوفيزي” (الطبيعة الواحدة)، فأراد أن يجعل المذهب الماروني، “الأرثوذكسية الجديدة” في الدولة البيزنطية، فاصطدم بمعارضة شديدة من أساقفة القسطنطينية.
ما يعطي هذه الرواية مصداقية تاريخية، تركيز إدوارد غيبون عليها في كتابه عن انحلال وسقوط الإمبراطورية الرومانية، حيث وضع المذهب الماروني بين الأسباب التي أدَّت إلى سقوط الدولة الرومانية. لكن أساقفة القسطنطينية الأرثوذكس، كان لهم سببٌ ديني – أخلاقي في معارضتهم لهرقل، لكونه تزوج من مارتينا ابنة شقيقته (وأنجب منها تسعة أولاد)، خلافًا للأصول والأعراف الاجتماعية، ولتعاليم الكنيسة. وربما كان أنه حاول اعتناق “أرثوذكسية جديدة”، بسبب تلك المعارضة من قبل أساقفة القسطنطينية!
*****
من الصعب معرفة التطوّرات القاسية التي مرَّت بها المنطقة السورية، من جرّاء الغزو المغولي الذي أودى بالدولة العباسية وبآخر خلفائها، من غير قراءة سليمة، غير منحازة، لدور المسيحيين النساطرة في إطلاق تلك التطوّرات، من خلال المفارقات التي رافقت الدور النسطوري، سواء في بلاد فارس، أو في الكنائس التي ساعدهم كسرى الثاني على نشرها في الصين والهند.
في العام 428م اختار الإمبراطور البيزنطي ثيودوسيوس الثاني، الراهب الأنطاكي نسطوريوس بطريركًا على كرسي القسطنطينية، لمزايا فيه تؤهّله للمنصب، منها تقشّفه في العيش، وأهم من ذلك فصاحته في الخطاب الديني والمواعظ المُثيرة للجدل. ففي خطاب تنصيبه بحضور الإمبراطور ثيودوسيوس، قال نسطوريوس يخاطبه:
“أيها القيصر، أعطني الأرض خاليةً من الهراطقة، وأنا أعطيك ملكوت السماء عوضًا عنها. اجتثَّ معي الهراطقة، ومعك اجتث لك الفرس”!
المفارقة هنا، أنَّ النسطورية لم تعش وتزدهر إلّاَ في بلاد الفرس والعراق، وفي أقاصي آسيا، لتعود مع الغزو المغولي إلى بلاد الشام.
الصراعُ الذي خاضه نسطوريوس مع بطريرك الإسكندرية الأرثوذكسي كيريل بحجّةٍ لاهوتية، كان في الواقع بمثابة حرب أهلية داخل الجسم المسيحي. في النهاية كانت الغلبة للإسكندرية، بنوعٍ من التواطؤ بين البطريرك الاسكندري كيريل وبابا روما سلستيوس، مما حمل المجمع المسكوني في روما عام 430م على إدانة نسطوريوس وقطع الشراكة معه. وفي السنة التالية انعقد مجمع أفسوس حيث أعاد نسطوريوس تأكيد اعتراضه على تسمية مريم العذراء “والدة الإله” (ثيوتوكوس)، مُحتَجًّا بأنَّ المسيح هو قال عن نفسه إنه “ابن الانسان”، فلماذا لا تُسمَّى والدته “والدة الإنسان” (هوموتوكوس)، وهي أيضًا والدة المسيح، فلماذا لا تُسمَّى بهذا الاسم (والدة المسيح، “كريستوتوكوس”)!
الدعوى الدينية، في هذه المعمعة الكنسية، هي مجرد ذريعة، أما الدافع الحقيقي، حسب القديس الآباتي إيزيدور، الذي بقي مترفّعًا عن ذلك الصراع وما رافقه من جدليات، فهو الطموح السلطوي الدنيوي للأساقفة!
أما على المسرح السياسي في الشرق الكبير، فإنَّ الكنائس النسطورية التي تأسّست في الصين والهند من أيام كسرى الثاني، تجذَّرت هناك، وكان لأتباعها شأنٌ ملحوظٌ في تلك البلاد البعيدة. تلك الكنائس في الهند، وتسمى إلى اليوم “الكنائس السورية”، انتكست في القرن السادس عشر، على أيدي المستعمرين البرتغاليين الذين وفدوا إلى الهند والصين، ومعهم “محاكم التفتيش الكاثوليكية”، التي قمعت تلك الكنائس لكنها لم تستطع اجتثاثها، فبقيت إلى يومنا هذا.
لكن نساطرة الصين، الذين انتشروا بين المغول وتزاوجوا معهم، فقد ألَّبوا المغول وحرّضوهم على غزو الدولة العباسية، خصوصًا بعد هجرتهم الكبيرة من العراق وبلاد فارس إلى بلاد الصين في مطلع القرن التاسع الميلادي، احتجاجًا على المعاهدة التي عقدها الخليفة العباسي هارون الرشيد مع شارلمان مؤسس “الإمبراطورية الرومانية المقدسة”، في محاولةٍ لإعادة استنهاض الإمبراطورية الرومانية القديمة في الغرب. وكانت حجة النساطرة، أنهم والوا العرب المسلمين وناصروهم ضد الغرب، فإذا بخليفة المسلمين يعقد معاهدة مع الغرب، وكأنه يبتغي إقصاءهم، فهاجر منهم كثيرون احتجاجًا، وراحوا يعملون من مهجرهم لتقويض الخلافة العباسية.
عندما تقدَّمت جحافل المغول باتجاه الدولة العباسية في بلاد فارس وبلاد العرب، عام 1258م، كان في قيادتها بعض المسيحيين النساطرة، وحلفائهم في أرمينيا، وفي جورجيا، وفي أنطاكية الصليبية. فالقائد المغولي العام.، الذي احتل دمشق، “كتبغه منتاش”، كان نسطوري الأب والأم. ولم يكن كتبغه وحده الذي دخل إلى الشام، فقد رافقه إلى هناك ملك أرمينيا، هيثم الأول (الذي كان قبل ذلك قد قام بزيارة الى الخان المغولي الأكبر طُلوي ابن جنكيز خان، والد هولاكو خان، في عاصمته “قراقوروم”)، ومعه أيضًا فرقة من الجيش الجورجي، لكن ملك جورجيا لم يحضر بنفسه، إضافة إلى ملك أنطاكيا الصليبي بوهيموند السادس ومعه فرقة من جيشه. حتى ليمكن القول بأنَّ تقويضَ الدولة العباسية على أيدي الجحافل المغولية، هو مشروعٌ نسطوري بامتياز انتقامًا من هارون الرشيد ومعاهدته مع شارلمان!
بين المراجع الشرقية القليلة عن المرحلة المغولية في بلاد فارس وبلاد العرب، يُعتبر كتاب رشيد الدين فضل الله الهمداني، وعنوانه “الجامع في التاريخ”، هو المرجع الأدق. وكان كاتبه الهمداني (1247- 1318م) طبيبًا ومؤرّخًا وسياسيًّا، والأهم من ذلك أنه عاصر الغزو المغولي لبلاد فارس والأقاليم الواقعة تحت سيادة الخلافة العباسية، من بداياته، وهو فتى عمره لا يتجاوز الحادية عشرة. ولذلك تعتبر مرجعيته في الموضوع على أنها إفادة شاهد عيان.
كانت تلك أول مرَّة من 700 سنة، كما قال إدوارد غيبون في كتابه عن انحلال وسقوط الدولة الرومانية، وصل إلى حكم دمشق أربعة أمراء مسيحيين!
*****
ما هو مربكٌ في دخول كسرى إلى القدس، وما رافقها من مجازر ضد المسيحيين، الرواية القائلة بأنَّ الملك الساساني عقد اجتماعًا مع أساقفة المدينة المقدسة، قبل أن يقتلع عود الصليب من كنيسة القيامة، وقبل أن تسيل نقطة دم واحدة. إذ ليس مؤكّدًا أنَّ ذلك قد حصل، وفي حال حصوله، لا أحد يعرف على وجه الدقة ماذا قال كسرى للأساقفة، وماذا قالوا له، لكن ما جرى في المدينة من مجازر بعد استباحتها، يُنبىء بأنَّ الأساقفة لم يتجاوبوا مع مطالبه، أيًّا كانت تلك المطالب، في حال كان خبرُ الاجتماع بين كسرى والأساقفة صحيحًا. لكن الثابت أنَّ القديس زكريا، بطريرك القدس في حينه (تحتفل الكنائس الشرقية والغربية بذكراه يوم 21 شباط/فبراير من كل سنة)، أُسِرَ مع عدد من الأساقفة والرهبان والراهبات، والآلاف من المسيحيين، واقتيدوا إلى بلاد فارس.
والثابت أيضًا أنَّ اليهود في العهود الرومانية، كانوا ممنوعين من دخول المدينة المقدسة منذ التمرّد اليهودي على الدولة الرومانية عام 138 للميلاد، في عهد الإمبراطور هادريان. ذلك التمرُّد، الذي قاده شيمون بن كوخبا، أربك القوات الرومانية في فلسطين، بقيادة الجنرال روفوس، وأنزل بها خسائر غير مسبوقة، مما اضطر الإمبراطور هادريان تكليف حاكم بريطانيا في ذلك الوقت، الجنرال يوليوس سكستوس ساويرس، بأن يقود الحملة ضد التمرّد اليهودي، فقمع ذلك التمرُّد بشدة وقسوة، وأنزل الدمار بالمدن والقرى اليهودية، بحيث يُقدر عدد الضحايا من المتمردين اليهود نحو 700 ألف شخص، وصلب قادة التمرد على الطرقات، ومن بينهم شيمون بن كوخبا نفسه. ومنذ ذلك الوقت، حتى الاحتلال الفارسي، أي مدة 476 سنة، لم تطأ أرض القدس قدم أي يهودي.
لكن مع قدوم الجيوش الفارسية بقيادة الجنرال شهر براز، بعد احتلال “قيصرية البحر”، العاصمة الإدارية لفلسطين الممتازة (باليستينا بريما)، شكّلَ اثنان من اليهود، هما نحميا بن هوشيل، وبنيامين الطبري، عصابات مسلحة معاونة للجيش الفارسي، قدَّر بعض المؤرخين عديدها بين 20 و30 ألفًا، سُميَ “الجيش اليهودي–الفارسي”، بهدف تحدّي قرار الدولة الرومانية بمنعهم من دخول القدس. هؤلاء على الأرجح هم الذين ارتكبوا المجازر الواسعة ضد المسيحيين، وهو الرأي الذي رجَّحه الباحث الفلسطيني عصام محمد سخنيني، في كتابه المذكور آنفًا بعنوان “مقاتل المسيحيين”.
مصداقية حجة سخنيني، يعززها شمول كتابه للمجازر ضد المسيحيين في جنوب الجزيرة العربية، على يد ذي نؤاس، الملك اليهودي الحميري في اليمن. لأنَّ وصفًا لتلك المجزرة ورد ذكره في القرآن الكريم (سورة البروج، عن “الأخدود وصاحب الأخدود”)، حيث حُفر في الأرض أخدود كبير أشعل في جوفه جمرٌ حارقٌ طُمر فيه المسيحيون الذين رفضوا الارتداد عن دينهم. واللافت أنَّ بعض الحفريات الحديثة في مدينة نجران السعودية وجوارها، وكانت في ذلك الوقت المطرانية الأولى في الجزيرة العربية، أظهرت وجود أثار لحرائق واسعة تحت الأرض، لم تُستكمل دراستها بعد!
*****
إنَّ الروايات الأدق تاريخيًا، لمجازر القدس في العام 614م، هي تلك التي وردت في مدوّنات معاصريها، أو في زمن قريب من حدوثها، وأبرزها الكتب والسير التي تناولت بطريرك الإسكندرية “القديس يوحنا المحسن”، الذي أطلق عليه لقب “المحسن”، لكثرة أعماله الخيرية التي قام بها لإيواء وتدبير شؤون عشرات الألوف من المسيحيين اللاجئين من فلسطين وسوريا في فترة الاحتلال الفارسي ومجازر القدس التي رافقته. وكذلك مدوّنات الراهب في دير مار سابا بالقرب من منطقة بيت لحم في فلسطين، واسمه أنطيوخوس ستراتيجوس، وتتضمّن أدق التفاصيل عما حلَّ بالقدس وفلسطين في تلك الفترة.
في الثامن من تشرين الأول (أكتوبر) 610م، بعد ثلاثة أيام فقط من تتويج هرقل إمبراطورًا في القسطنطينية، احتل كسرى الثاني العاصمة السورية أنطاكية. وبعد أسبوع احتل مدينة حماه على نهر العاصي، وهي مدينة عريقة ابتناها في العام 300 قبل الميلاد، القائد المقدوني سيلوكوس نيكاتور، الذي صار ملكاً على سوريا بعد وفاة الإسكندر الكبير، وتقسيم إمبراطوريته على قادة جيشه الكبار. وقد ازدهرت زمن الحكم اليوناني بحيث بلغ عدد سكانها في أوجها آنذاك نحو 500 ألف نسمة. لكن حماه توصلت الى اتفاق مع الملك الفارسي، لضمان سلامة المدينة وسكانها.
أما حمص فقد سقطت في أيدي الجيش الفارسي في العام 611 م، ثم سقطت دمشق في العام 613م. وفي السنة التالية 614م، سقطت فلسطين كلها، الواجهة البحرية أولًا ثم مدينة القدس حيث جرت المجزرة المهولة بحق المسيحيين، وتم خلالها تدمير عدد كبير من الأديرة والكنائس والمعالم التاريخية للمدينة.
من الثابت أنَّ أهالي مدن عديدة في سوريا هربوا إلى الخارج، معظمهم قصدوا مصر، حيث فتح البطريرك الأرثوذكسي القديس يوحنا ذراعيه للاجئين السوريين والفلسطينيين، فأقام لهم الملاجئ، والمدارس، والمشافي. ولكثرة توافد اللاجئين، كادت تحدث مجاعة في مصر، لو لم يتدارك البطريرك الأمر، ويستورد حمولة عدة سفن لرحلات متكررة، من القمح والحبوب، لإطعام رعاياه القدامى والجدد.
والشيء الأهم الذي ضغط عليه، بعد وفود اللاجئين الفلسطينيين، وما حملوه معهم من أخبارٍ سيئة حول احتجاز راهبات الأديار المسيحية بالمئات، بحيث اضطرّ أن يدفع كميات كبيرة من الذهب، كفديةٍ لإطلاق ألف راهبة، سُمح لهم تاليًا باللجوء إلى مصر.
تفاقمت المشكلة بعد سنوات قليلة، عندما عزم الجيش الفارسي على احتلال مصر، مما اضطرَّ معظم اللاجئين السوريين والفلسطينيين هناك، إلى الفرار مرة ثانية من وجه الجيش الفارسي. هذه الهجرة الثانية، توزّعت بين قبرص، وصقلية، وقرطاجة، وروما. وإلى قبرص لجأ أيضًا في العام 619م، بعد سقوط الإسكندرية، البطريرك يوحنا (القديس المحسن)، لأنَّ قبرص موطنه الأصلي ومسقط رأسه، لكنه فارق الحياة بعد أشهر قليلة من الهروب الكبير من مصر.
جاء في مدوَّنة يعقوب الرهوي: “هرب الأساقفة من المناطق الشرقية (سوريا وفلسطين)، ومعهم هرب الرهبان، وعدد كبير من السكان تبعوهم لخوفهم من الزحف الفارسي”. ويبدو أيضًا أنَّ لاجئين كثيرين وفدوا إلى مصر من مسيحيي العراق، حسب مدوّنة كاهن يدعى توما، كتبها في العام 640م، أي بعد 25 سنة من وقوع مجازر القدس.
*****
ترك اللاجئون السوريون والفلسطينيون إلى روما أثرًا كبيرًا في تاريخ المسيحية خلال تلك المرحلة، حيث أسّسوا أديارًا للرهبان السوريين، ويبدو أنَّ الرهبان الفلسطينيين لم يقطعوا الصلة مع بلدهم الأم، لأنهم تمكّنوا في ذلك الوقت من تهريب رأس الشهيد القديس أناستاسيوس الفارسي إلى روما، كما نقلوا أيضًا مخطوطًا بيد مودستوس، بطريرك القدس. ومن الذين لَجَؤوا إلى روما في ذلك الوقت أسقف فلسطيني اسمه ثيودور، (كان له ابن يحمل أيض اسم والده). وقد أصبح ثيودور الإبن بين العامين 642 و649، أول بابا شرقي على رأس الكنيسة الكاثوليكية، وهو الذي سعى إلى عقد المجمع المسكوني في العام 649م، لإدانة مذهب القائلين بالطبيعة الواحدة للمسيح!
(الحلقة المقبلة: “معاهدة السلام الأبدي”)
- سليمان الفرزلي هو كاتبٌ وصحافي لبناني ترأّس تحرير صحف عدة في بيروت، منها “الأحرار”، و”الكفاح”، و”بيروت”، و”عالم النفط”، و”الصياد”، وعمل في عدد من الصحف الصادرة في لندن وباريس، منها “الدستور”، و”الحوادث” قبل أن يصدر مطبوعته الخاصة “الميزان” في تسعينيات القرن الماضي. وله أيضًا مؤلّفات أبرزها كتاب سيرته “علامات الدرب” الصادر مطلع العام 2013 عن “اللبنانيون المتحدون للصحافة والنشر” في لندن، و”حروب الناصرية والبعث” الصادر مطلع العام 2016 عن دار “أنطوان هاشيت (نوفل)” في بيروت. وهذه المطبوعات يمكن الاطلاع عليها كاملة على موقعه الإلكتروني: www.sferzli.com
يجب عليك تسجيل الدخول لكتابة تعليق.