زَوغَةُ الساهرين وقَوسُ العازف الحزين

هنري زغيب*

كثيرين كانوا إِلى طاولاتهم. ضحكاتُهم أَطْوَلُ منهم، وأَصواتهم أَعلى من سقف المطعم. وهو يعزِف على منصَّته، خَدُّه على كمانه، وأَصابعُهُ تَكتُبُ الموسيقى بقوس الكمان.

النُدُلُ يتجوَّلون بين الطاولات، وهو يعزِف. يحملون الصحون والأَطباق. يمرُّون حدَّه ولا يلتفتون إِليه، وهو يعزِف.

الكؤُوس تُرفَع، ومعها طنطنةُ زُجاجها وأَصواتُ رافعيها، وتمنياتُهم تتطاير من طاولة إِلى أُخرى، وهو يعزِف.

الجميع يَعزُفُون عنه، وهو يَعْزِفُ لهم. غادرَ المنصَّة. راح يتنقَّل بين الطاولات، مُوزِّعًا على الجالسين بسَماتٍ حافيةً لا تُؤَثِّر على زهْو أَنغامٍ يؤَدِّيها كَمانُه. ويعزِفُ لهم، يَعزِفُ. سوى أَنهم، حتى وهو بينهم، غارقُون في صَخْبهم واحتسائهم ومَضْغهم، وهو يَعزِف.

رُحتُ أُتابعه يتَجوَّل بين الطاولات، ويعودُ إِلى منصَّته، لعلَّه باعتلائها يلفِتُ بعضَ انتباهٍ، أَو يتسوَّلُ تلويحةَ تصفيق.

لم يَتغيَّر المشهد: هم لاهُون وهو يعزِف. قرأْتُ عن بُعدٍ ومْضةً عميقةً في عينيه لا تُخفيها بَسمَتُه الحافية. بِمَ يفكِّر في هذه اللحظات المالحة؟ هل بأُسْرته؟ هل بأَطفالٍ له ينتظرونه يَعود ببعض نقودٍ يحمل بها إِليهم هديةً مُفْرحة؟ هل لديه مشكلةٌ خاصة: صحية؟ عاطفية؟ اجتماعية؟ هل يُثْقِلُ تفكيرَه دَيْنٌ يشغَل بالَه كيف يَفيه، وها يرتضي العزْف في المطاعم، لقاءَ مبلغ متواضع، حتى ولو لم يَنتَبِهْ إِليه أَحدٌ من الساهرين الـمُتخمين التهامًا وارتشافًا؟

ذات وصلةٍ، عَلا صوت. “أَعِدْها، أَعِدْها”. خرجَتْ بسْمتُه من حَفاها وحياديَّـتها. انفرجت عن فرحٍ وميضٍ أَتْبَعَهُ بإِعادة عزفه مقطوعةً شعبيةً، معروفةً غالبًا ما يطلبها الساهرون، لا لقيمتها الفنية بل لإِيقاعها الراقص كي “يَهْلُمُّوا” على أَنغامها إِلى الحلبة. أَعاد العزفَ تلبيةً، سوى أَنهم لم يتحرَّكوا: رجالُهم مشغولون بالحكي، ونساؤُهم مُنْشغلاتٌ بأَحاديثَ هي نسخةٌ عن ثرثرةِ صُبْحيَّاتهِنَّ المتناسلة.

بلى: حتى طالبو الأُغنية لم يهتمُّوا لإِعادة عزفها. ظلُّوا مستَنْقَعين في زَوغتهم الصاخبة، وظلَّ هو يعزِف.

هذه الظاهرة عاينتُها مرارًا في المطاعم: مرةً مع عازف بيانو، مرةً مع عازف ترومبيت، مرةً مع عازف غيتار، ومراتٍ مع عازفِ  عودٍ يعتمر الطربوش وينتعل مشَّاية كي يكتمل الديكور. وغالبًا ما كنتُ أَلمح على وجه العازف بسمة حافيةً وغصَّةً خرساء.

كل ذلك في حالات العزف. لكن الأَمر يختلف حين الجوُّ غناءٌ، من هذا الدارج اليوم، حتى لتتماهى قرقعةُ الصُحُون والملاعق بأَغاني الأَلحان السخيفة والكلمات التافهة، وينُطُّ الساهرون يرقصون مُتَعتَعين، وينفرجُ المغنِّي بتوزيع تحياته وصوته الذي يدَّعي الغناء.

أَعود إلى ذاك العازف.

جاء وقتٌ في السهرة، لا أَدري إِن كانت به وَصْلتُه انتهت، أَم انه يئسَ من عزفه، بوقًا في صحراء. رأَيتُه يَسحبُ قوسَ الكمان، ويَركُنُه في صندوقته، ويَخرج غيرَ ملتفتٍ إِلى الجموع المتَعْتَعَة. غاب إِلى الخارج داخلًا في جَوِّه الرهيف، مبتعدًا عن زَوغة ساهرين لم يأْبهوا لعازفٍ حزين حاول تغذيةَ ذائقتهم، فظَلُّوا راكدين في زوغتهم، مهتمِّين بما في صحونهم وأَكْؤُسهم، غيرَ مُدركين مشاعرَ عازفٍ حاولَ إِنعاشَ سهرتهم بإِيقاعاتٍ ملوَّنة، يَستلُّها نغَماتٍ مُزْهرةً تتأَنقُّ بين مَدِّ القوس وأَوتار الكمان.

  • هنري زغيب هو شاعر، أديب وكاتب صحافي لبناني، مدير مركز التراث في الجامعة اللبنانية الأميركية، مدير “صالون فيلوُكَاليَّا الأدبي”، ورئيس “اللجنة الوطنية اللبنانية لنشر الإبداع اللبناني”. يُمكن التواصل معه عبر بريده الإلكتروني: email@henrizoghaib.com أو متابعته على موقعه الإلكتروني: henrizoghaib.com أو عبر منصة إكس على:  @HenriZoghaib

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى