إِشكالِيَّةُ السِلمِ والحَربِ بينَ إيران والغرب

تتابع “أسواق العرب” نشر مسلسل العلاقات بين الولايات المتحدة وإيران الذي يسعى إلى تتبّع مسارها، من جذورها الثقافية والدينية والتاريخية، حيث تروي الحلقة الرابعة مسار العلاقات المتشابكة بين إيران ومصر وتركيا منذ مطلع القرن العشرين، من زواج سياسي جمع الشاه محمد رضا بهلوي بالأميرة فوزية، إلى تحوّلات المصالح الإقليمية والدولية. كما تتتبع محطّات الصراع والتحالف التي شكّلت ملامح المنطقة بين التاج والعمامة، وبين الشرق والغرب.

الإمام الخميني وأكبر هاشمي رفسنجاني (مهندس عملية إيران غيت)، ورونالد ريغان: عندما تعاملت إيران مع “الشيطان الأكبر”

(4)

أَهوَنُ الشَرَّين … “الشيطانُ الأصغَر”

 

سليمان الفرزلي*

بهرته القاهرة. سحره العمران فيها. اندهش الأمير الشاب محمد رضا شاه عندما دخلَ إلى قصر عابدين، بصحبة والده الشاه رضا، ليطلب له يد الأميرة فوزية، ابنة الملك فؤاد من زوجته الثانية ناظلي صبري، وشقيقة الملك فاروق.

تجوَّلَ ولي العهد الإيراني في العاصمة المصريَّة، فسحره العمران الحديث الذي شيَّده الخديوي إسماعيل جدُّ خطيبته، التي أصبحت زوجته الأولى، الأميرة فوزية. انطبَعَ في ذهنه أنه عندما يعتلي العرش بعد أبيه سوف يُجاري النهضة المصريَّة الفتيَّة، الجاذبة للأنظار، والمُلهِمة للأفكار.

كانت مصر، عندما زارها الأمير الإيراني محمد رضا شاه في العام 1939 ليُصاهِرَ ملكها، “أُمّ الدنيا بحقٍّ وحقيق”.

لكنَّ زواجَ الأمير الشاب محمد رضا شاه، تمَّ لأسبابٍ سياسية، على أبواب الحرب العالمية الثانية، بينما مشروع هذه المُصاهَرة الإيرانية–المصرية، كان من بنات أفكار الزعيم التركي مصطفى كمال أتاتورك، مؤسّس الجمهورية التركية الحديثة، بعد تصفية الإمبراطورية العثمانية، ومعها الخلافة الإسلامية، قبل نهاية الربع الأول من القرن العشرين، في أعقاب الحرب العالمية الأولى.

كان ذلك جُزءًا من مشروعٍ سياسي إقليمي كبير بدأه أتاتورك، لكنه لم يعش ليُكمله. فقد فارق الحياة وهو في السابعة والخمسين من العمر.

*****

في العام 1937، أي قبل سنة من وفاته، أطلق أتاتورك دينامية إقليمية لم تأخذ مداها المُرتجى، ليس فقط بسبب غياب الزعيم التركي المفاجئ عن المسرح، لكن أيضًا لأنَّ إيران، شريكته في معاهدة “سعد أباد”، التي تمَّ توقيعها في طهران يوم 8 تموز (يوليو) من ذلك العام، وقعت فريسة الصراع الدولي وتضارب المصالح بين الدول الكبرى: الاتحاد السوفياتي، وبريطانيا، والولايات المتحدة، على أبواب الحرب العالمية الثانية.

معاهدة “سعد أباد”، ظاهرها أنها “معاهدة عدم اعتداء” بين تركيا الكمالية، وإيران البهلوية، والعراق الهاشمي، ومملكة أفغانستان، التي كان على رأسها الملك محمد ظاهر شاه، آخر ملك على تلك البلاد، (حكم من 1933 الى 1973، وتوفي في العاصمة الأفغانية كابل في العام 2007)، لكنَّ مَرامَ أتاتورك منها كان توسعة دائرتها، لتُشكّل مجتمعة قوة إقليمية قوية تضع حدًّا للتدخُّل الأجنبي في شؤون تلك المنطقة.

أقنع أتاتورك شاه إيران رضا بهلوي، أن يُزوِّجَ ابنه وولي عهده، الأمير مجمد رضا من الأميرة المصرية فوزية، بهدفِ ضمِّ مصر الى “معاهدة سعد أباد”.

تحقَّقَ الزواج، ولم يتحقّق الهدف السياسي الذي كان يرمي إليه الزعيم التركي. ليس فقط لأنَّ الزعيم التركي، مُخطِّط المشروع الإقليمي المذكور، فارق الحياة قبل استكمال تصوّره لأهداف “معاهدة سعد أباد”، إنما أيضًا لوجود مفارقات وتبايُنات عديدة، منها ما هو شكلي، ومنها ما هو جوهري. ومن أبرز تلك المفارقات أن يكون محرّك المشروع رئيس جمهورية علمانية تقدُّمية راديكالية، على رأس مجموعة من الملوك يقودون أنظمة إقطاعية، شبه دينية، أو تحتضن حوزات دينية قوية ومُتنفّذة، ومُتعارضة في مذهبياتها الإسلامية.

*****

إنَّ وضعية الشاه رضا بهلوي، سواء في داخل إيران، أو في الفضاء الإقليمي، الذي خطَّطَ له مع مصطفى كمال أتاتورك، كانت هي الأصعب بين مجموعة “سعد أباد”. إذ إنَّ إيران هي الدولة الشيعية الوحيدة في تلك المجموعة، وقد تشيَّعت في الأصل مطلع القرن السادس عشر (على يد الشاه إسماعيل الصفوي)، لتتميّز عن تركيا العثمانية، دولة الخلافة الإسلامية السنيَّة، وكانت مؤسساتها وحوزاتها الدينية هي الأقوى والأفعل من الآخرين بما لا يقاس. (سوف نتوسع في عرض هذا الموضوع في حلقة مقبلة بعنوان “فرادة الوطن الشيعي”).

لكن هذه الوضعية ثابتة وراسخة، منذ مئات السنين، وليست سببًا للاضطراب الداخلي. فقد واجه الشاه رضا مشكلتَين كبيرتين: واحدة أدت الى تراجعه، والثانية أدت الى عزله.

ما من شك في أنَّ التوجُّه التقدُّمي للزعيم التركي مصطفى كمال قد جذب اهتمام شاه إيران في ذلك الوقت، ليس فقط لأنه قبل مشورته بتزويج ولي عهده من أميرة مصرية، كما مرَّ، إنما في الدرجة الأولى بسبب إعجابه بالإصلاحات التي قام بها أتاتورك في بلاده، ومنها بشكل خاص، التوجُّه العلماني. وعندما حاول أن يسير في هذا التوجُّه الكمالي، اصطدم بمعارضةٍ شديدة من رجال الدين الشيعة، فاضطرَّ الى التراجع.

شعر رضا شاه، بأنَّ خروجَ تركيا من مفهوم “الخلافة الإسلامية السنيَّة”، ألغى السبب التاريخي المُوجِب للتشيُّع الذي فرضه الشاه إسماعيل فرضًا على الإيرانيين، فأقبل على “معاهدة سعد أباد”، كعنوان لثقته بتوجُّهات مصطفى كمال في جواره التركي. إذ إن أتاتورك لم ينظر الى إيران في ذلك الوقت على أنها “دولة شيعية”، بل لكونها دولة مجاورة، لها مع تركيا مصالح مشتركة، وأهداف استراتيجية متوافقة.

أما السبب الآخر الأهم الذي أدَّى الى عزله في العام 1941، خلال الحرب العالمية الثانية، يتعلّق بالمصالح الغربية النفطية، خصوصًا المصالح البريطانية والأميركية، لأنَّ الشاه رضا كان يميل إلى ألمانيا النازية، وهو أمرٌ ما كان الغرب ليتساهل فيه، لأنَّ تلك الميول في زمن الحرب العالمية لم تكن موضعية في بلد واحد، بل شملت بلدان عدة للغرب فيها مصالح حيوية، مثل العراق حيث وقع انقلابٌ عسكري في تلك السنة، قمعه الإنكليز وأسقطوه بالقوة، وكذلك في مصر التي كان فيها عدد من الضباط المصريين ينتظرون نتيجة المعارك في ليبيا، بين الجنرال البريطاني  برنارد لول مونتغُمري، والجنرال الألماني إرفين رومل، لينقلبوا على النفوذ البريطاني، ومن أولئك الضباط الفريق عزيز المصري، والبكباشي أنور السادات.

صحيح أنَّ تركيا الكمالية، في عهدة الرئيس عصمت إينونو، خليفة أتاتورك، اتخذت موقف المحايد بين المتحاربين، الحلفاء والمحور، لكنها تاريخيًا كانت حليفًا لألمانيا من أيام السلطان محمود الثاني، (في مطلع القرن التاسع عشر)، وفي أيام السلطان عبد الحميد الثاني دخلت في الحرب العالمية الأولى (1914–1918)، الى جانب ألمانيا، ودفعت الثمن الأكبر من جراء ذلك التحالف، فانهزمت وتفكّكت إمبراطوريتها العثمانية. وبالتالي يمكن القول بأنَّ المزاج الشعبي التركي في الحرب العالمية الثانية، كان إلى جانب ألمانيا النازية، على الرُغم من كون حكومته اتخذت موقف الحياد.

*****

لأسبابٍ سياسية مختلفة، نُسِجَ زواج ولي العهد الإيراني، محمد رضا شاه، من الأميرة فوزية شقيقة الملك المصري فاروق، بينها في المقام الأول، اعتباره زواجًا شيعيّاً سنيًا يخفف من الحساسيات التاريخية، ومن هذه الناحية كان حالة خاصَّة. من الجانب المصري، لم يكن الزواج متكافئ، لأنَّ شاه إيران (والد العريس) كان فلاَّحًا بسيطًا، وليس من سلالة ملكية، بل هو مجرَّد عسكري نفر، ترقَّى الى رتبة جنرال مع الوقت وقاد انقلابًا عسكريَّا في العام 1921، ونودي به ملكًا بعد أربع سنوات، بينما الأميرة فوزية من سلالة محمد علي الملكية منذ أكثر من قرن (1805).  لذلك قوبل عرض الزواج بفتور ملحوظ في البداية، في البلاط المصري، لولا مخطط نسجه في رأسه علي ماهر باشا، مستشار الملك فاروق المسموع الكلمة.

أرادَ علي ماهر أن تُصبحَ مصر القطب الأول في الشرق الأوسط من خلال المُصاهرة مع البيوت الملكية في إيران، والعراق، والأردن. فوزية لشاه إيران المقبل، وشقيقتاها لملك العراق المقبل فيصل الثاني، والثالثة لنجل الملك عبد الله في شرق الأردن. لكن هذا لم يحصل، وزواج فوزية من شاه إيران المقبل لم يدم. الشاه لم يكن يتكلم العربية أو التركية، وفوزية لم تكن تتكلم الفارسية، فكان التخاطب بينهما بلغة رابعة هي الفرنسية!

كانت ثمرة هذا الزواج الوحيدة ابنة اسمها شاهناز بهلوي.

تطلقت فوزية من الشاه محمد رضا بهلوي بعد عشر سنوات من الزواج (1949)، وقبل ثلاث أو أربع سنوات فقط من الزلزال السياسي الذي ضرب عرش الشاه في إيران، وعرش سلالة محمد علي في مصر، في وقت واحد تقريبًا من بداية خمسينيات القرن العشرين. سقط الشاه في طهران (1953)، بعد سنة فقط من سقوط فاروق في القاهرة (1952).

أما الشاه، فقد وجد من يُعيده الى “عرش الطاووس” في “قصر المرمر”، في انقلابٍ مُضاد نسجته المصالح النفطية الأنكلو–أميركية، ونفَّذته أجهزة الاستخبارات الأميركية والبريطانية. أما فاروق فقد فارق الحياة منفيَّاً، عزَّ عليه الصديق أو المعين. بل إن وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية، هي عادت ففرضت الشاه من جديد على الإيرانيين، لأنَّ رئيس حكومة الثورة الوطنية (محمد مصدق)، أمّمت شركات النفط الأجنبية، بينما قدَّمت لقائد الثورة المصرية التي أطاحت فاروق، الرئيس جمال عبد الناصر حقيبة محشوَّة بسبعة ملايين دولار، لم يأخذها لنفسه، كما توخَّت الوكالة، بل تبرَّع بها لبناء برج القاهرة!

هناكَ سببٌ آخر لنفور الأميركيين من الملك فاروق، لم يتطرّق إليه المؤرّخون لتلك الحقبة، في غمرة تركيزهم على خلاعته وفساد إدارته. ذلك أنَّ فاروق قام بمقابلة الرئيس الأميركي فرانكلن روزفلت مرتين: مرة في طريق الرئيس الأميركي الى مؤتمر يالطا مع الزعيم البريطاني ونستون تشرشل، والزعيم السوفياتي جوزف ستالين، ومرة في طريق العودة على ظهر البارجة الحربية “كوينسي”، في قناة السويس. ويبدو أنَّ الملك فاروق لم يترك انطباعًا حسنًا لدى روزفلت ومعاونيه. ففي خلال توقفه في قناة السويس، كان فاروق آخر ثلاثة استقبلهم روزفلت في بارجته، بعد الملك السعودي عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود، وبعد إمبراطور الحبشة هيلا سيلاسي.

*****

في مجيئه الثاني الى العرش، بعد إسقاط حكومة محمد مصدق الوطنية، أصبح الشاه أسيرَ الغرب بقيادة الولايات المتحدة، وإلى جانبه، أو فوقه دولة إسرائيل. لكن الوقت لم يطل حتى انقلب عليه هؤلاء وأولهم إسرائيل. واللافت أنَّ بداية تطلعات الشاه “الاستقلالية”، كانت باتجاه مصر من بداية حكم أنور السادات.

وكذلك الأمر بالنسبة إلى المصالح النفطية، حيث كان الشاه أول من انتهجَ سياسةً نفطية مستقلة، عدَّلت في الميزان النفطي بين الدولة المالكة لحقول النفط والشركات الأجنبية المشغّلة لها. وقد تزامن ذلك مع انتصار الجيش المصري على الاحتلال الإسرائيلي في سيناء، في حرب تشرين (أكتوبر) من العام 1973.

استبشر الشاه خيرًا بمجيء أنور السادات إلى الحكم في مصر، لأنه كان على طرفَي نقيض مع جمال عبد الناصر، خصوصًا بعد الوحدة مع سوريا، ودوره في إسقاط النظام الملكي في العراق المجاور له، ثم بسبب سياساته الاشتراكية الراديكالية، وفوق هذا وذاك، مناصرته لثورة ظفار اليسارية ضد سلطان عُمان سعيد بن تيمور، مما اضطرَّ الشاه الى التدخل بقواته لدحر تلك الثورة في منطقة محاذية لإيران عند مضيق هرمز الحيوي (الى جانب قوة بريطانية ومستشارين إسرائيليين).

من ذلك الوقت أخذت تتوسّعُ مداخلات الشاه محمد رضا بهلوي في الشؤون العربية، حيث أقدم في الوقت ذاته على مساندة التمرُّد الكردي في شمال العراق، بقيادة الملا مصطفى البارزاني، بالتعاون مع إسرائيل أيضًا. كما إنه أقامَ علاقات وثيقة مع النظام البعثي السوري بقيادة حافظ الأسد، وأمدَّه بقروضٍ مالية، وهو النهج ذاته الذي سارت عليه الجمهورية الإسلامية في نظام “ولاية الفقيه”، من بعده، مع نظام نجله بشار الأسد، لكن على نطاق أوسع، مما انتهى بسقوطه تاليًا.

لكن العلاقة المُميزة للشاه في العالم العربي كانت مع الرئيس أنور السادات في مصر. وهذا من الأسباب الجوهرية التي جعلت السادات يستقبله في حِماه، بعد نفيه من إيران في العام 1979، وحين وفاته هناك أقام له الرئيس المصري جنازة رسمية لائقة، وتم دفنه في مدافن جامع الرفاعي في القاهرة، وهو مسجد أثري أمرت ببنائه هوشيار خانم والدة الخديوي إسماعيل في العام 1869.

يقول الباحث الأميركي-الإيراني فالي (والي) نصر في كتابه الأخير الصادر هذه السنة (2025)، عن مطبعة جامعة برينستون الأميركية، بعنوان “الاستراتيجية الإيرانية الكبرى”، إنَّ الشاه أراد النجاح لهذا النمط الجديد من السياسات العربية المعتدلة، وإنَّ الرئيس المصري والشاه الإيراني كانت لهما النظرة الاستراتيجية ذاتها، فنشأت بينهما على الفور صداقة شخصية.

لم تقتصر تلك العلاقة بين قاهرة السادات وطهران الشاه على الصداقة الشخصية، بل كانت لها في حياتهما ترجمة سياسية ملحوظة. وبين 1971 و1973، كما يقول نصر في كتابه، كان الشاه المنافح الأول عن السادات في واشنطن، دافعًا الرئيس ريتشارد نيكسون ومستشاره هنري كيسنجر للاعتراف بأهمية الفرصة النادرة التي أتاحها السادات لقيام وضع إقليمي أكثر توازنًا. ولعلَّ الشيءَ العملي الأهم الذي فعله الشاه خلال حرب 1973، بين مصر وإسرائيل، أنه “فتح المجال الجوي الإيراني أمام الطائرات السوفياتية لنقل العتاد والإمدادات العسكرية الى الجيش المصري. وعندما انتهت الحرب حثَّ الشاه الولايات المتحدة للضغط على إسرائيل من أجل عقد اتفاق مع مصر”. كانت هذه أول خطوة لابتعاد الشاه عن إسرائيل، وابتعاد إسرائيل عن الشاه.

بل إن الشاه، في خطوة نادرة، هدَّد واشنطن علنًا، بأنه في حال عدم التوصل الى اتفاق بين مصر وإسرائيل، فإنَّ الحرب سوف تُستأنف، قائلًا للأميركيين، “هذه المرة سوف تكون حربنا، ولن يكونَ لأيٍّ منّا خيار آخر”، قاصدًا دخول إيران في الحرب ضد إسرائيل، ما يكفل لها مقعدًا على طاولة المفاوضات لتقرير مستقبل الشرق الأوسط!

*****

عندما أطلق الإمام روح الله الخميني، قائد الثورة الإسلامية في إيران، والمرشد الأعلى الأول للجمهورية الوليدة، لقب “الشيطان الأكبر” على الولايات المتحدة، اكتسبت إسرائيل تلقائيًا لقب “الشيطان الأصغر”. ولأنَّ هذا “الشيطان الأصغر”، هو الإبن المدلل لذاك “لشيطان الأكبر”، نشأ في أذهان كثيرين في المحيطين العربي والإسلامي انطباع بأنَّ الشيطان الصغير المُدلّل بات على المسرح العالمي، أو على الأقل في الشرق الأوسط هو الأكبر، مع أنه ليس من المنطق أن يكونَ الصغيرُ أكبر من الكبير.

لكن “المقاومة الإسلامية” في لبنان، وهي البنت المُدَلَّلة للثورة الإسلامية في إيران، حسمت هذه الجدلية بلسان قائدها السيد حسن نصر الله، بأنَّ أميركا هي التي تقودُ إسرائيل، وليس العكس، وبالتالي، فإنَّ إسرائيل مخلوقٌ هزيل، أَوهَى من بيت العنكبوت، حسب تعبيره، لولا الدعم الأميركي شبه المطلق الذي تستند إليه في حروبها التوسّعية. إذن، الكبير كبيرٌ والصغير صغيرٌ، ولا مجال للتأويل.

في ضوءِ ذلك، وبالرُغم من الشعارات الدعائية والتعبوية، خصوصًا في فترة الحرب العراقية–الإيرانية، وفي الوضع الجيوبوليتيكي الذي وجدت الثورة الإسلامية نفسها فيه، بين الاتحاد السوفياتي المتغلغل في جوارها الأفغاني، وبين الولايات المتحدة الداعمة في بداية الحرب لصدام حسين، رأت قيادة الخميني، من تحت الطاولة، أنَّ التعاطي السري مع الشيطان الأصغر هو “أهوَن الشرَّين”!

استحوذت صفقة السلاح، التي اشترت إيران بموجبها أسلحة وقطع غيار أميركية في العام 1985، على المسرح الإعلامي العالمي، بسببٍ من كونها شكَّلت فضيحة لإدارة الرئيس رونالد ريغان، في ما سُمِّي “فضيحة إيران–كونترا”، حيث قامت الاستخبارات الأميركية باستخدام الأموال المتحصِّلة من إيران، بموجب تلك الصفقة، لتمويل العمليات المضادة للشيوعين في نيكاراغوا.

لكن تبيّن لاحقًا أنَّ سكة السلاح من إسرائيل إلى إيران انفتحت قبل ذلك التاريخ بسنوات، وقُدِّرت قيمة السلاح الذي اشترته إيران من إسرائيل قبل العام 1985، بأكثر من 100 مليون دولار. وحسب المصادر الغربية، فإنَّ سفن الشحن الدانماركية التي استأجرتها الحكومة الإسرائيلية، وتلك التي استأجرها تجار السلاح، قد قامت قبل 1985 بنحو 600 رحلة محمّلة بالأسلحة الأميركية الصنع، وقطع الغيار للطائرات الأميركية التي اشترتها طهران في زمن الشاه، من الموانئ الإسرائيلية عبر الخليج الى ميناء بندر عباس الإيراني. وتدَّعي تلك المصادر أنَّ قطع الغيار تلك هي التي أبقت على سلاح الجو الإيراني شغَّالًا خلال الحرب مع العراق.

ظهرت أيضًا إشارات إسرائيلية مبكرة على ذلك التعاون مع إيران خلال الحرب، منها تصريح لوزير الدفاع الإسرائيلي المعروف آرييل شارون في العام 1982، (فترة احتلال الجيش الإسرائيلي للبنان حتى العاصمة بيروت)، قال فيه إنَّ إسرائيل سوف تُواصِلُ تزويد إيران بالسلاح بالرُغم من المعارضة الأميركية. هذا مثالٌ آخر على تحدّي “الشيطان الأصغر” لمربيه “الشيطان الأكبر”!

في التحليلات الإسرائيلية للخطابات المتشدّدة التي كان يلقيها الإمام الخميني ضدَّ إسرائيل، أنَّ تلك المواقف العالية النبرة، هي “من قبل الدعاية التعبوية العاطفية”، أكثر منها مواقف مبدئية في السياسة الخارجية. وظلَّ بعضُ الدوائر الإسرائيلية، خلال مرحلة الإمام الخميني، حتى وفاته في العام 1989، يعتبرُ إيران “حليفًا مُحتَمَلًا” حتى عندما اعتبر إسرائيل “غدّةً سرطانية” يجب اقتلاعها!

بل إنَّ وسائل إعلام أميركية، في العام 1989، (سنة وفاة الإمام الخميني، وبعد سنة من توقّف الحرب مع العراق)، كشفت أنَّ إسرائيل اشترت من إيران ما قيمته 36 مليون دولار من النفط، لقاء إطلاق سراح ثلاثة من الجنود الإسرائيليين كانوا محتجزين في لبنان.

*****

دوائر عديدة في الغرب، خصوصًا تلك التي كانت تسعِّر نار الحرب بين العراق والجمهورية الإسلامية في إيران، اعتبرت أنَّ التوجُّهَ العام للدولة الإيرانية، في الشأن الإقليمي، من المُستبعد أن يتغيَّرَ تغيُّرًا جذريًا عمّا كان عليه في أيام الشاه. أي إنَّ ما حدث هو استبدالٌ لتاج الشاه بعمامة الإمام… “إمام الأئمة” في مقام الشاهنشاه، “ملك الملوك”!

هناك أدلّةٌ ظرفية عديدة تدلُّ على تلاقي المصالح بين إيران، من جهة، والغرب وإسرائيل، من جهة ثانية، خصوصًا في الجوار الجغرافي المباشر لإيران. أول تلك التطوّرات إقدام إسرائيل في السابع من حزيران (يونيو) 1981، بعد أقل من سنة على اندلاع الحرب مع العراق، بتدمير المفاعل النووي العراقي. هذا التطوُّر كان لمصلحة إيران، لأنه شكل ضربة موجعة للنظام العراقي.

من تلك الأدلة الظرفية أيضًا، أنَّ الرئيس الإيراني محمد خاتمي، بعد تفجيرات نيويورك يوم 11 أيلول (سبتمبر) 2001، بعث ببرقية استنكار وتعزية للرئيس الأميركي جورج دبليو بوش، فاتحًا بذلك باب التعاون مع الولايات المتحدة في منطقة الاحتكاك المباشر، والمحتقن بين إيران وأفغانستان، الى درجة التهديد بحرب بينهما. ويمكن القول بأنَّ التوجُّه الأميركي، في بداية عهد الرئيس جورج دبليو بوش، والمحافظين الجدد الداعمين له في واشنطن (ومعظمهم من مؤيدي إسرائيل)، نحو احتلال أفغانستان وإسقاط حكم طالبان فيها، ثم احتلال العراق وإسقاط نظام صدام حسين أيضًا، كان فيه شبه تطابق تام مع المصالح الإيرانية في ذلك الوقت.

لقد كان تقدُّم حركة طالبان في أفغانستان قبل ذلك، دافعًا لإيران نحو تأييد ودعم “تحالف الشمال” بقيادة أحمد شاه مسعود، حصوصًا بعد إقدام مقاتلي طالبان على احتجاز وقتل مجموعة من الديبلوماسيين الإعلاميين الإيرانيين، قيل إن عددهم 11 شخصًا، مما حمل الحكومة الإيرانية على حشد قوات على الحدود الأفغانية. لكن سرعان ما قامت حركة طالبان باغتيال أحمد شاه مسعود في مدينة مزاري شريف الشمالية، بيد إرهابي تخفَّى بصفة صحافي، لأن التخلص منه أنهى “تحالف الشمال” وأتاح لطالبان السيطرة على كامل أفغانستان.

من الواضح أنَّ الجمهورية الإسلامية في إيران كانت لها مصلحة في للتعاطي مع الولايات المتحدة بشأن تقرير مستقبل أفغانستان، وبالفعل أعطيت مقعدًا إلى جانب الولايات المتحدة في مؤتمر بون في العام 2001 لتقرير مستقبل أفغانستان. مرة جديدة تُثبتُ مقولة إنه ليست للدول صداقات أو عداوات دائمة، إنما لها مصالح دائمة تُملي الصداقات والعداوات!

(الحلقة المقبلة: “التوسُّعيَّة الإيرانية: نمطٌ ثابتٌ ونهجٌ مُتَغَيِّر”)

  • سليمان الفرزلي هو كاتبٌ وصحافي لبناني ترأّس تحرير صحف عدة في بيروت، منها “الأحرار”، و”الكفاح”، و”بيروت”، و”عالم النفط”، و”الصياد”، وعمل في عدد من الصحف الصادرة في لندن وباريس، منها “الدستور”، و”الحوادث” قبل أن يصدر مطبوعته الخاصة “الميزان” في تسعينيات القرن الماضي. وله أيضًا مؤلّفات أبرزها كتاب سيرته “علامات الدرب” الصادر مطلع العام 2013 عن “اللبنانيون المتحدون للصحافة والنشر” في لندن، و”حروب الناصرية والبعث” الصادر مطلع العام 2016 عن دار “أنطوان هاشيت (نوفل)” في بيروت. وهذه المطبوعات يمكن الاطلاع عليها كاملة على موقعه الإلكتروني: www.sferzli.com

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى