الوضع في لبنان وسوريا بعيونٍ إسرائيلية*: بين خطوطِ النار وحدودِ الديبلوماسية

يشهد لبنان وسوريا مرحلةً دقيقةً تتأرجّحُ بين الحرب والسلام، وسط توازُنٍ هشّ بين الضغوط الإسرائيلية وتعقيدات الواقع الداخلي. يعرض هذا التقرير الذي أصدره مركز ألما للبحوث والتعليم الإسرائيلي (الذي يديره ضباطٌ إسرائيليون سابقون) قراءةً معمّقة للمشهد الإقليمي الراهن، مركّزًا على معادلات القوة في لبنان وسوريا وحدود الديبلوماسية في ظلّ صراعات الهويّة والأمن التي تعيد رسم وجه المنطقة.

الرئيس أحمد الشرع: ماضيه الجهادي يقلق إسرائيل.

ترجمة الدكتور سعود المولى*

على الرُغم من النشاط الديبلوماسي الدولي المُكثَّف الهادف إلى استقرار الوضع على الحدود الإسرائيلية اللبنانية والسورية، فإنَّ المُتطلِّبات الأساسية من جانب إسرائيل لانسحابٍ آمنٍ ومُستَدام لجيش الدفاع الإسرائيلي من المواقع الأمامية في جنوب لبنان وجنوب سوريا غير مُتَوَفِّرة في الوقت الراهن، ومن المشكوك فيه أن تتوفَّرَ في المستقبل القريب.

في لبنان، إنَّ الهوية الأساسية ل”حزب الله” كحركةٍ شيعية دينية إيديولوجية مسلّحة تجعلُ نزعَ سلاحه طوعيًا -وهو مطلبٌ إسرائيلي وشرطٌ للانسحاب من جنوب لبنان- مستحيلًا. كما إنَّ الجيش اللبناني لا يملك القدرة على نزع سلاح “حزب الله” بشكلٍ جذري ومَنهَجي وحقيقي، حتى لو كانت لديه والحكومة اللبنانية الجديدة النيّة للقيام بذلك. حتى الآن، تمَّ تنفيذُ إزالة القدرات العسكرية ل”حزب الله” بشكلٍ رئيس من خلال جهدٍ حربي إسرائيلي ناجح في العام 2024، على شكل مناورة، واغتيالات لكبار القادة، وعملية جهاز النداء (البيجر)، وهجمات جوية مكثفة. بعد اتفاق وقف إطلاق النار، في 27 تشرين الثاني (نوفمبر) 2024، لا تزال إسرائيل العامل المهم الوحيد الذي يمنع “حزب الله” من إعادة بناء قوته، من خلال الهجمات الجوية اليومية، ووفقًا للتقارير، الغارات البرية الدورية. ترسانة “حزب الله” من الأسلحة هي مصدر قوّته وقيمته الرئيسة لرعاته في إيران؛ إنَّ التخلّي عما تبقّى من قدرات القوة النارية، أو نية إعادة البناء، سيكون بمثابة “زوالٍ” ل”حزب الله”.

في سوريا، يُحرّكُ النظام السُنّي الجديد بقيادة أحمد الشرع الهدفَ الرئيس المُتمثّل في إعادة إرساء سيادة الدولة المركزية على جميع أنحاء البلاد. يتعارَضُ هذا الهدف بشكلٍ مباشر مع المطالب الأمنية العليا لإسرائيل بإنشاء منطقة عازلة مُوَسَّعة ومنزوعة السلاح في جنوب سوريا، والتي تشمل الأراضي الواقعة جنوب دمشق.

أصبح هذا المطلب مُطلقًا في ضوء حقيقة أنَّ الجيش الوطني الجديد للشرع يتألف في جُزءٍ كبيرٍ منه من ميليشيات، ومن بينهم عناصر جهادية “سابقون”، نفّذوا في آذار (مارس) وتموز (يوليو) 2025 مجزرة بحق الأقلية العلوية في شمال غرب سوريا والأقلية الدرزية في السويداء جنوبها. إنَّ وجودَ جيش الدفاع الإسرائيلي في خمسة مواقع مُتقدِّمة في جنوب لبنان، وفي تسعة مواقع على الجانب السوري من خط فصل القوات لعام 1974، ليس ورقة مساومة مؤقتة، بل هو موقفٌ أمني ضروري وطويل الأمد، اتُخِذَ في مواجهة واقعٍ ديبلوماسي غير قابل للحل، حيث لا يعتزم “حزب الله” ونظام الشرع تلبية الشروط الإسرائيلية للانسحاب من الجبهتين الشماليتين. وأيُّ عملية ديبلوماسية تُحاولُ تجاهُلَ هذا الصراع الجوهري محكومٌ عليها بالفشل. ويكتسبُ هذا الاستنتاج وزنًا إضافيًا في ضوء العقيدة الأمنية الإسرائيلية الجديدة، التي تؤكد على هدف إزالة قدرات العدو كأولوية قصوى، وتستبعد نهج الاحتواء أو ضبط النفس أو شراء الهدوء من خلال تجاهل بناء قوة العناصر الجهادية على حدود إسرائيل، كدرسٍ مباشر من الهجوم الذي شنّته “حماس” في السابع من تشرين الأول (أكتوبر).

قدرات حزب الله المتبقية وفق تقديرات تموز/يوليو 2025

 

وفقًا لتقديرات جيش الدفاع الإسرائيلي لشهر تموز (يوليو) 2025، تضررت حوالي 60 إلى 70 في المئة من القدرات العملياتية لـ”حزب الله”، وانخفضت قدرة “حزب الله” على إطلاق القذائف إلى وابل صغير، ويواجهون صعوبة في مزامنة الوابل. وبالمثل، دمر جيش الدفاع الإسرائيلي ما بين 70٪ و80٪ من مواقع إطلاق “حزب الله” قصيرة المدى. ومع ذلك، يجب أن نتذكر أنَّ “حزب الله” لا يزال قادرًا حاليًا على إطلاق عشرات الصواريخ والقذائف يوميًا على إسرائيل. إنَّ الوجودَ المستمر لجيش الدفاع الإسرائيلي في خمسة مواقع حدودية يخلق توترًا سياسيًا، حيث يطالب لبنان بإخراج جيش الدفاع الإسرائيلي، لكن هذا الوجود هو نتيجة تكتيكية مباشرة لفشلٍ منهجي وطويل الأمد في تنفيذ القرار 1701. تعمل هذه المواقع كخطِّ دفاعٍ أمامي، وشريط أمني ضيّق. وهي توفر مزايا استخباراتية وعملياتية حاسمة في بيئة “أثبتت” فيها القوات الدولية (اليونيفيل) والقوات المحلية (الجيش اللبناني) عجزها عن منع “حزب الله” من إعادة بناء بنيته التحتية العسكرية حتى الخط الأزرق.

إنتشار جيش الدفاع الإسرائيلي في لبنان وسوريا وفق تقييم تموز/يوليو 2025

 

ردُّ “حزب الله” على مطالب نزع سلاحه ثابت وعلني ومطلق. ترفض قيادة الحزب مطلب نزع السلاح كأساسٍ للتفاوض، وتُفسّره على أنه مطلبُ استسلام غير مشروط. كان نعيم قاسم، الأمين العام الحالي ل”حزب الله”، واضحًا لا لبس فيه. فقد أقسم أنَّ حزبه لن يُلقي سلاحه ردًّا على التهديدات الإسرائيلية أو المقترحات الأميركية، وصرّحَ بأنَّ “هذا التهديد لن يدفعنا إلى قبول الاستسلام”. ووصف المسألة بأنها دفاعٌ عن النفس ضد “العدوان” الإسرائيلي، مُدَّعيًا أنَّ “الدفاع لا يحتاج إلى إذن”، وأنَّ أيَّ نقاشٍ حول نزع السلاح لا يمكن أن يبدأ إلّا بعد توقف إسرائيل عن أعمالها وانسحابها من جميع النقاط الخلافية. هذه التصريحات ليست مجرّدَ كلام، بل تعكس المنطق الأساسي لوجود “حزب الله”. ترتكز هويته بالكامل على دوره كقوة عسكرية إيرانية أمامية في مواجهة إسرائيل. هذه القدرة العسكرية هي الضمانة النهائية لاستمرار الدعم الإيراني وهيمنته السياسية داخل لبنان، وخصوصًا بين القاعدة الشيعية. إنَّ ترسانة الأسلحة التي يمتلكها “حزب الله”، والتي تزوّده بها وتموّلها إيران، والخدمات الاجتماعية الكاملة للقاعدة الشيعية، سمحت له حتى الآن بالعمل كدولة داخل الدولة، واستعراض القوة من الداخل، والعمل كقاعدة أمامية حاسمة لـ”محور المقاومة” للنظام الإيراني ضد إسرائيل، وضد المصالح الغربية في المنطقة.

نزعُ سلاح “حزب الله” يُعدّ بمثابةِ انتحارٍ سياسي وإيديولوجي. فهو سيُجرّده من مصدر نفوذه الرئيس، ويُحوّله إلى مجرّد حزبٍ سياسي آخر في النظام اللبناني المُمزّق، ويُلغي هدفه في نظر راعيه الإيراني. إنَّ الجهود الديبلوماسية (حتى كتابة هذه السطور، والتي يقودها المبعوث الأميركي توم برّاك)، والتي تُشير التقارير إلى أنها تُقدّم تمويلات كبيرة لإعادة الإعمار وانسحابًا إسرائيليًا مضمونًا مقابل جدول زمني واضح لنزع السلاح، تُسيء فهم هذا الواقع تمامًا. إنها تُقدّم حلًّا نفعيًا لمشكلةٍ إيديولوجية دينية. إنَّ سلاح “حزب الله” ليس ورقة مساومة يُمكن مقايضتها بمنافع اقتصادية؛ بل هو جوهر قوته وهدفه. “حزب الله” بدون سلاحه لا قيمة له وفقًا لتصوُّره الخاص. البندقية على العلم ليست زينة. هذا بيانٌ واضح. يُحاول “حزب الله” حاليًا كسبَ الوقت، ويسعى باستمرار إلى بناء قوة أكثر طموحًا للمستقبل. لا يزال هذا التحليل صحيحًا حتى بعد أن أنهت الحكومة اللبنانية اجتماعًا متوترًا استمر أربع ساعات في 5 آب (أغسطس)، والذي ركّزَ على الاقتراح الأميركي لنزع سلاح “حزب الله”. في قرارٍ تاريخي، أعلن رئيس الوزراء نوّاف سلام أنَّ الحكومة كلّفت الجيش اللبناني رسميًا بإعداد “خطة عملياتية، تُقدم بنهاية الشهر الجاري، لتنفيذ جدولٍ زمني ينتهي بنهاية العام الجاري، بحيث يكون السلاح حصريًا بيد الدولة”. من جانبه، هدد “حزب الله” بمواجهة مباشرة وحرب أهلية إذا نفذت الحكومة اللبنانية هذا القرار، وهي مواجهة ليست مستعدة لإدارتها. يرتكز الإطار الكامل للقرار 1701، وبالتالي، الدفع الديبلوماسي الأميركي الحالي، على افتراضِ أنَّ دولة لبنان، من خلال الجيش اللبناني وبدعم من اليونيفيل، يمكن أن تكون ضامنًا موثوقًا للأمن في الجنوب. وقد ثبت خطأ هذا الافتراض لما يقرب من عقدين من الزمن، وحتى اليوم أيضًا. آلية الدولة اللبنانية ليست وسيطًا محايدًا؛ إنه نظام رهينة لقوة “حزب الله” العسكرية والسياسية. حتى مع ضعف “حزب الله”، لا توجد رغبة لدى الدولة اللبنانية في مواجهة مباشرة أو حرب أهلية، على الرُغم من التصريحات الأخيرة التي تشيرُ بالفعل إلى تغييرٍ مرغوب فيه في الموقف، ولكن بشكل رئيسي على المستوى الخطابي وليس على المستوى العملي. مع ذلك، لا ينبغي استبعاد سيناريو الحرب الأهلية، خصوصًا إذا شعر “حزب الله” حقًا بأنه في موقفٍ حرج. مؤخرًا، استغل “حزب الله” مثل هذا السيناريو لمصلحته كجُزءٍ من تهديداته ردًا على قضية نزع السلاح.

الجيشُ اللبناني، رُغمَ تلقيه مساعدات أميركية، محدود القدرات سياسيًا وعملانيًا، وضعيفًا مؤسّساتيًا، وربما لا يزال أدنى من “حزب الله” عسكريًا. مع أنَّ الجيش اللبناني يدّعي سيطرته على معظم مواقع “حزب الله” في جنوب البلاد، إلّا أنه بعيدٌ كلّ البُعد من التعامل مع جميع أسلحة “حزب الله”، ولا توجد أدلّةٌ كافية على تفكيكه للبنى التحتية الإرهابية أو تحديد موقع أسلحة التنظيم وتدميرها. بل على العكس، من المرجّح جدًا أن يكونَ جُزءٌ من “الأسلحة المضبوطة” بقايا أسلحة تُركت في المنطقة بعد تعرّضها للهجوم، وقنابل غير منفجّرة وما شابهها، وهي غير صالحة للاستخدام أصلًا. وبالمثل، نظرًا لوجود العديد من الضباط والجنود الشيعة في الجيش اللبناني الذين يساعدون “حزب الله” بطريقة أو بأخرى، فمن المرجح جدًا أن تُعاد بعض “الأسلحة المضبوطة” إلى “حزب الله”. بالإضافة إلى ذلك، وكما كان الوضع قبل الحرب، لا يزال الجيش اللبناني محدود الحركة حتى اليوم، ولا يستطيع الوصول إلى جميع مناطق جنوب لبنان ودخولها، وخصوصًاً المناطق التي يُعرّفها “حزب الله” حاليًا كمناطق عسكرية. ووفقًا لمنشورات جيش الدفاع الإسرائيلي الصادرة في تموز (يوليو) 2025، فمنذ اتفاق وقف إطلاق النار في 27 تشرين الأول (نوفمبر) 2024، أُحيل 1263 انتهاكًا من “حزب الله” إلى آلية إنفاذ الاتفاق – 71% منها في جنوب لبنان. تعامل الجيش اللبناني مع 453 انتهاكًا، بينما نفذت إسرائيل البقية، ولم تُنفذ سوى أقلية منها. تجدر الإشارة إلى أنَّ هذه انتهاكات معروفة. ويمكن الافتراض أنَّ هناك انتهاكاتٍ أخرى كثيرة غير معروفة، لأنَّ “حزب الله” يعمل في نهاية المطاف كجُزءٍ من عملية إعادة الإعمار، في الغالب تحت الرادار وبسرية لإفساح المجال لـ”إعادة الإعمار بهدوء”. ينبغي تشجيع الخطوات التي اتخذها لبنان حتى الآن، مع إدراك حقيقة أنها لا تقترب من الحد المطلوب لمنع “حزب الله” من إعادة بناء نفسه.

دورُ قوات اليونيفيل أكثر محدودية. فمهمتها هي المراقبة والإبلاغ، لا التنفيذ. لا يمكنها نزع سلاح “حزب الله” بالقوة، وحرية حركة جنودها، منذ اتفاق وقف إطلاق النار، مُقيَّدة بشكلٍ روتيني بما يسمى “المدنيين”، بعضهم أرسله “حزب الله” بالفعل، وبعضهم عناصر من “حزب الله” يسيطرون على المنطقة. لا يمكن لليونيفيل إلّا أن تعمَل كوسيط، وتوثيق الانتهاكات، ودعم الجيش اللبناني حيثما أمكن، لكنها لم تفعل ذلك حتى خلال سنوات عملها في لبنان. في الواقع، عملت اليونيفيل كدرعٍ بشري ل”حزب الله”، الذي استغلَّ البنى التحتية لليونيفيل وبنى العديد من البنى التحتية العسكرية بالقرب منها لتكون بمثابة منصّة لمهاجمة إسرائيل. لا تملك اليونيفيل القدرة على منع “حزب الله” من إعادة تسليح أو نشر قواته. وقد تجلى ذلك بوضوح في أوائل العام 2025 عندما قام “حزب الله”، بعد وقف إطلاق النار، بتنظيم السكان الشيعة وتشجيعهم على العودة إلى قرى الجنوب. لم تكن هذه حركة عفوية، بل عملية مدروسة لإعادة ترسيخ وجود “حزب الله”، واستخدام السكان كدروع بشرية، وافتعال حوادث لتعزيز روايته القائلة بأنَّ وجوده المسلح ضروري “للدفاع” عن مواطني لبنان. إنَّ قوة اليونيفيل العسكرية حاليًا قوة زائدة عن الحاجة، عديمة الفائدة، بل وضارة، ويجب تفكيكها وإلغاؤها فورًا.

العملية الديبلوماسية، إذًا، في جوهرها ادعاءٌ زائف. إنها تمضي كما لو أنَّ اتفاقًا مستدامًا ممكن، تُعتبر فيه ترسانة “حزب الله” من الأسلحة موردًا قابلًا للتداول، يمكن استبداله بحوافز سياسية أو اقتصادية. هذا يتجاهل حقيقةً جوهريةً، وهي أنَّ هذه الترسانة هي مصدر قوة “حزب الله” غير القابلة للتفاوض. ووفقًا لكلمات الأمين العام السابق لحزب الله، حسن نصر الله، “سيأخذون أرواحنا قبل أن يأخذوا سلاحنا، ليس لأننا نحب السلاح، بل لأنَّ السلاح رمزٌ للشرف والفخر…” “المقاومة” هي جوهر المنظمة. فهل سينزع “حزب الله” سلاحه حقًا “ويتخلّى” عن الكلاشينكوف الذي يظهر على علمه؟ هل سيتخلّى عن “المقاومة”؟ تدور المفاوضات حول فرضيةٍ زائفة، مفادها أنَّ إسرائيل تعرض مقايضة المواقع التكتيكية بالأمن الاستراتيجي، بينما في الواقع، تطلب من “حزب الله” مقايضة وجوده بمنافع تعتقد أنها تستطيع تحقيقها بأيِّ طريقةٍ كانت من خلال الإكراه. إنَّ الطريق المسدود ليس فشلًا في المهارة الديبلوماسية، بل هو انعكاسٌ لصراعٍ لا يمكن تجاوزه بين المصالح والهويات الجوهرية. إلى أين سيقودنا هذا الصراع في المصالح والهويات؟ من الصعب الجزم بذلك. من الممكن أن تؤدي العملية التي يمرُّ بها لبنان حاليًا، والتي تؤثر بشكل كبير في “حزب الله”، إلى حالةٍ معاكسة من التصعيد الداخلي، وربما في نهاية هذا التصعيد، إلى سلوك حزب الله كـ”حيوان جريح”. وقد يؤدي هذا، في أسوَإِ الأحوال بالنسبة إلى لبنان، إلى حربٍ أهلية.

المتاهة السورية – صراع السيادة والأمن

لم يُفضِ سقوط نظام الأسد في كانون الأول (ديسمبر) 2024، وصعود أحمد الشرع (المعروف سابقًا باسمه الجهادي أبو محمد الجولاني) إلى السلطة، إلى عهدٍ من السلام المُحتمل، بل خلق تحدّيًا أمنيًا جديدًا لإسرائيل. من جهة، ثمة حاجةٌ وجوديةٌ للنظام السوري الجديد لإعادة إرساء سيادة الدولة المركزية على أمةٍ مُقسّمة، وذلك من خلال تعزيز الاستقرار والحوكمة الرشيدة وترسيخ النظام العام. من جهةٍ أخرى، ثمة مطلبٌ أمنيٌّ إسرائيليٌّ مُلحٌّ بإنشاء منطقة عازلة عميقة ومنزوعة السلاح في جنوب سوريا، خالية من أيِّ وجودٍ عسكريٍّ إسلاميٍّ – جهاديٍّ – وهو تصنيفٌ يشمل، من وجهة نظر إسرائيل، الجيشَ الوطنيَّ السوريَّ الجديدَ بشكلٍ مطلق، والذي يتكوّن جُزءٌ كبيرٌ منه من ميليشياتٍ ذات طابعٍ جهاديٍّ صريح. من جهةٍ أخرى، ثمة مطلبٌ أمنيٌّ إسرائيليٌّ مُلحٌّ بإنشاء منطقةٍ عازلةٍ عميقةٍ ومنزوعة السلاح في جنوب سوريا، خاليةٍ من أيِّ … بالإضافة إلى ذلك، ومن وجهة نظر كلا الجانبين، هناك تهديدٌ قائم للاستقرار والأمن من إيران و”حزب الله” و”حماس” و”الجهاد الإسلامي الفلسطيني” و”داعش” وجماعات مسلحة أخرى تعمل في سوريا بشكل عام وفي جنوب سوريا بشكل خاص. في 5 آب (أغسطس)، أعلن المتحدث باسم جيش الدفاع الإسرائيلي أنَّ طائرة تابعة لسلاح الجو، بتوجيه من القيادة الشمالية، هاجمت منطقة البقاع في لبنان وقضت على حسام قاسم غريب، وهو إرهابي من منظمة “حزب الله” الإرهابية، كان يعمل من الأراضي اللبنانية لتوجيهِ فرقٍ إرهابية في سوريا، كانت تخطط لإطلاق صواريخ على مرتفعات الجولان. هذا مثالٌ واحد من بين العديد من محاولات العناصر الإرهابية -سواء من المحور الشيعي أو من المحور السُنّي المتطرّف- لمواصلة ترسيخ موطئ قدم في جنوب سوريا. كان ردُّ إسرائيل على انهيار نظام الأسد سريعًا وحاسمًا، واسترشد بعقيدة هجومية دفاعية مُصَمَّمة لإدارة فراغ السلطة الذي نشأ. مع تقدم قوات المعارضة نحو دمشق، قرر مجلس الوزراء الأمني ​​المصغّر السيطرة على الجُزء السوري من المنطقة منزوعة السلاح المُنشأة بموجب اتفاقية فصل القوات لعام 1974. أعلن رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو بطلان اتفاقية العام 1974، مُعلنًا أنَّ إسرائيل “لن تسمحَ لأيِّ قوة معادية بالتمركز على حدودنا”. وتزامن ذلك مع موجة غارات جوية مكثفة يومي 8و9 كانون الأول (ديسمبر) 2024، والتي دمرت بشكل منهجي جُزءًا كبيرًا من الترسانة العسكرية المُتبقّية للجيش السوري، بما في ذلك الطائرات المتطورة وأنظمة الدفاع الجوي والأسلحة الثقيلة. كان الهدف المعلن هو منع وقوع هذه القدرات في أيدي النظام الجديد أو جهات مجهولة. ومنذ ذلك الحين، وضعت إسرائيل خطوطًا حمراء واضحة لا هوادة فيها لجنوب سوريا.

المطلب الرئيس هو نزع السلاح من كامل المنطقة الواقعة جنوب دمشق، والذي يشمل حظر نشر أي وحدات للجيش السوري، وحظر وجود أسلحة متطورة أو “مُغيِّرة لقواعد اللعبة” قد تُهدِّد مرتفعات الجولان، والصواريخ والمدفعية والمركبات المدرعة وقوات المشاة الكبيرة. ويُعدّ الانتشار الحالي لجيش الدفاع الإسرائيلي في تسعة مواقع أمامية رئيسة على الجانب السوري من الحدود آليةً ماديةً لتطبيق هذه الخطوط الحمراء. هذا الانتشار مُصممٌّ للسيطرة المباشرة على البيئة الأمنية، بدلًا من الاعتماد على ضماناتٍ من حكومة جديدة، والتي لا يُمكن الوثوق بها من وجهة النظر الإسرائيلية حتى كتابة هذه السطور. على الجانب الآخر من الحدود، يُروّج الزعيم السوري الجديد، أحمد الشرع، لخطة سياسية موضوعها الرئيس هو نقيض التشرذم: إعادة بناء الوطن والسيادة المركزية. مشروعه السياسي بأكمله هو الانتقال من قائد ميليشيا إلى رئيس دولة، وهذا التحوّلُ مشروطٌ بقدرته على إثبات أنه قائدٌ لأمة متماسكة وموحَّدة وذات سيادة. في خطاب النصر الذي ألقاه في كانون الثاني (يناير) 2025، قدّم الشرع أهدافه الرئيسة: “إعادة بناء مؤسّسات الدولة، وخصوصًا الجيش والأمن والشرطة”، و”استعادة مكانة سوريا الإقليمية والدولية” على أساس مبدأَي “السيادة” و”الكرامة”. وكان من أوائل خطواته الرئيسة الأمر بتفكيك جميع الفصائل العسكرية المتمرّدة المستقلة ودمجها في جيش سوري جديد موحَّد تحت قيادة مركزية. وتعمل حكومته بنشاط على تعزيز اتفاقيات التوحيد مع مختلف الجماعات في جميع أنحاء البلاد، مثل قوات سوريا الديموقراطية الكردية (قسد)، في محاولة لإعادة جميع الأراضي السورية إلى سيطرة دمشق. يرى الشرع أنَّ قبولَ منطقة أمنية بحكم الأمر الواقع تحت السيطرة الإسرائيلية في الجنوب، والتي لا يُسمح لجيشه الوطني بالعمل فيها، سيكون ضربةً لا يمكن التسامح معها لهذا المشروع برمته. سيُقوّض شرعيته علنًا، ويُظهره ليس كمُعيدٍ للسيادة السورية، بل كقائدٍ ضعيف عاجز عن السيطرة على أراضيه. لذلك، فإنَّ مطالبة إسرائيل بجنوبٍ منزوع السلاح ليست مجرد قضية أمنية لدمشق؛ بل هي تحدٍّ وجودي مباشر للمبادئ الأساسية للدولة السورية الجديدة. وكانت الاشتباكات العنيفة في محافظة السويداء الدرزية في تموز (يوليو) 2025 بمثابة دليل قاطع على هذا الصراع المستعصي. وقد سعى نظام الشرع، الذي سعى إلى قمع القتال بين الميليشيات الدرزية والسُنّية البدوية المحلية وبسط سلطته، إلى نشر قوتين رئيسيتين للعمل: قوات الجيش وقوى الأمن الداخلي.

اعتبرت إسرائيل على الفور نشر القوات انتهاكًا لخطوطها الحمراء، وبدأت تُنشر على نطاق واسع تقارير عن جرائم حرب خطيرة ارتُكبت خلال القتال. استغاثت الطائفة الدرزية الإسرائيلية طلبًا للمساعدة. ردّت إسرائيل بهجمات جوية مكثفة ضد القوات السورية، وكذلك ضد هيئة الأركان العامة السورية في دمشق، وضد “هدف عسكري” في القصر الرئاسي بالعاصمة السورية. كان هذا إجراءً ضروريًا لحماية الأقلية الدرزية من مذبحة أكبر مدفوعة بتصوُّرات جهادية ضد أقلية مسلمة غير سنّية. وضع هذا الولايات المتحدة في موقفٍ حرج. دعا وزير الخارجية الأميركي ماركو روبيو نظام دمشق إلى استخدام قواته الأمنية لمنع الجهاديين من دخول المنطقة، بينما في الوقت نفسه، أفادت التقارير بأن المسؤولين الأميركيين “فوجئوا تمامًا” بالهجمات الإسرائيلية وحثّوا على إجراء محادثات مباشرة بدلًا من القصف. كما نفذت إسرائيل، وفقًا للتقارير، عملية لنقل مساعدات إنسانية وطبية إلى الطائفة الدرزية. تكشف حادثة السويداء عن التناقض الجوهري. كان نشر قوات الشرع عملًا من قِبَل نظام جديد يسعى إلى فرض سيادته ضمن حدوده المعترف بها دوليًا، بينما نفّذ جُزءٌ من قواته ذلك بطريقةٍ دموية (في هذه المرحلة، ليس من الواضح ما إذا كان ذلك مبادرةً مستقلةً أم توجيهًا واضحًا من النظام). كان الرد العسكري الإسرائيلي عملًا من قِبَل دولةٍ تفرض منطقةً خاليةً من الجيش السوري وقوات الأمن السورية بعيدًا من حدودها. إنّ الدعوة الأميركية لدمشق للإشراف على المنطقة غير منطقية، في حين أنَّ سياسة إسرائيل هي قصف القوات نفسها التي يُفترض أن تُنفّذ “الإشراف”.

إنَّ قرارَ إسرائيل بالسماح لقوات النظام المحدودة بدخول السويداء لفترةٍ محدودة لا يُغير المعادلة. العائق الرئيس أمام اتفاق سلام بين سوريا وإسرائيل هو طبيعة الجيش السوري الجديد. فهذه القوة ليست جيشًا محترفًا ومحايدًا؛ بل هي نتاج مباشر للحرب الأهلية في سوريا، وقد نشأت من مزيج من “هيئة تحرير الشام” وفصائل متمردة أخرى متحالفة معها. “هيئة تحرير الشام”، التي قادها الشرع، هي الخليفة المباشر ل”جبهة النصرة”، التي كانت لسنوات الفرع السوري الرسمي لتنظيم “القاعدة”. في حين بذل الشرع جهودًا كبيرة لإعادة صياغة نفسه وحركته -بالانفصال علنًا عن “القاعدة”، والتنصل من الجهاد العالمي، ومحاربة “داعش”، والوعد بحماية الأقليات- إلّا أنَّ الكثيرين في إسرائيل ينظرون إلى هذا التحوُّل بتشكُّكٍ عميق. من وجهة نظر إسرائيل، واستنادًا إلى القدرات وتحليلِ أسوَإِ السيناريوهات، من المرجح أن يكون اعتدال الشرع تكتيكيًا، وليس إيديولوجيًا. يتألف جيشه من آلاف المقاتلين المتمرّسين في الفكر السلفي الجهادي والقتال على مدى عقد من الزمن. إن إلباسهم زيًا جديدًا ومنحهم لقب “الجيش الوطني” لا يمحي أصولهم أو تدريبهم أو عداءهم الإيديولوجي العميق لإسرائيل.

كبار ضباط الجيش السوري ذوي الخلفية الجهادية

هذا يخلق مفارقة لا مخرجَ ديبلوماسيًا منها. إنَّ الإجراءات التي يتعيّن على الشرع اتخاذها لإضفاء الشرعية على حكمه وبناء دولة سورية مستقرة وذات سيادة -أي نشر جيشه- هي بالضبط الإجراءات التي تعتبرها إسرائيل تهديدًا مباشرًا وغير مقبول لأمنها القومي. إنَّ الطريق المسدود المتوازي على جبهتي لبنان وسوريا، على الرُغم من الاختلافات العرضية في الطابع والتفاصيل، يرسم صورة موحَّدة وواقعية للمشهد الأمني ​​الشمالي لإسرائيل. إنَّ التحليل الشامل للمطالب الأساسية لجميع الأطراف، وقيود الديبلوماسية الدولية، والطبيعة المتصلّبة للصراعات الأساسية، يقود إلى استنتاجٍ واضح: لا ينبغي اعتبار الانسحاب الإسرائيلي نتيجة للمفاوضات نتيجة معقولة في المستقبل القريب. إنَّ الوضعَ الراهن الحالي للدفاع الأمامي وإدارة التهديدات، على الرُغم من التوتر والمليء بالمخاطر، يمثّل الواقع الاستراتيجي الأكثر استقرارًا في المستقبل المنظور. في كلتا الحالتين، سيكون الانسحابُ تنازلًا عن أراضٍ حيوية استراتيجيًا -نقاط مراقبة على أرضٍ مُسيطر عليها ومناطق عازلة- لهذه الأطراف، بناءً على وعودٍ بحسن السلوك مستقبلًا. ترى الحسابات الأمنية الإسرائيلية في هذه الخطوة مقامرةً غير مقبولة. يُقيّم خطر عدم الانسحاب (الحفاظ على المواقع الأمامية وإدارة الاحتكاك) باستمرار على أنه أقل من خطر الانسحاب وخلق فراغٍ سيملأه عدوٌّ متزايد القوة فورًا وبشكلٍ حتمي. المنطق واضح: من الأفضل التعامل مع التهديد عن بُعد بدلًا من السماح له بالتمركز مباشرةً على الحدود.

الجبهة مطلب إسرائيل الأساسي موقف الخصم / الواقع على الأرض العائق الرئيسي أمام الحل
لبنان التطبيق الكامل للقرار 1701: نزع سلاح حزب الله بالكامل وانسحابه المُتحقق شمال نهر الليطاني. يرفض حزب الله صراحةً نزع سلاحه، ويعتبر ترسانته حيوية لهويته وقوته. دولة لبنان عاجزة بحكم الواقع عن فرض ذلك. أيديولوجي وبنيوي:

هوية حزب الله كـ”مقاومة” مسلحة غير قابلة للتفاوض. هيكل النظام السياسي اللبناني يحمي قوة حزب الله.

سوريا منطقة عازلة جنوبية منزوعة السلاح: لا وجود للجيش السوري أو أي قوات معادية أخرى جنوب دمشق. لا أسلحة متطورة الهدف الرئيسي لنظام الشرع هو استعادة السيادة المركزية على كامل سوريا، والحوكمة والاستقرار. وهذا يتطلب نشر جيشه في جميع أنحاء البلاد. السيادة والهوية: صراع جوهري بين عقيدة إسرائيل الأمنية وحاجة النظام السوري إلى بسط سيطرة الدولة. وتعتبر إسرائيل الجيش السوري الجديد بمثابة مشكلة أساسية لأن جزءًا كبيرًا منه يتكون من ميليشيات جهادية.

حدود الديبلوماسية الأميركية: لا تزال الولايات المتحدة لاعبًا محوريًا في المنطقة، وهي تسعى جاهدةً إلى تخفيف التوترات والتوسُّط في الاتفاقيات. مع ذلك، هناك تبايُنٌ جوهري بين الأهداف الاستراتيجية الأميركية والإسرائيلية. الهدفُ الرئيس للولايات المتحدة هو الاستقرار الإقليمي. وهذا يُترجَم إلى سياسةٍ تهدفُ إلى منع انهيارٍ متجدّد للدولة السورية، وتعزيز حكومة فاعلة (حتى لو كانت ضعيفة ومحدودة) في لبنان، وتجنب حرب إقليمية واسعة النطاق. قد يتعارَضُ هذا السعي إلى تحقيق الاستقرار، في بعض الأحيان، مع حاجة إسرائيل إلى درء التهديدات. على سبيل المثال، رفعت إدارة ترامب العقوبات عن سوريا لمنح نظام الشرع فرصةً لتحقيق الاستقرار في البلاد. من وجهة نظر واشنطن، قد يكون استقرار سوريا في ظل نظام الشرع، حتى لو كان جيشه يعمل في الجنوب، أفضل من فوضى تجدد الحرب الأهلية. بالنسبة إلى إسرائيل، كان من الأفضل ربط رفع العقوبات بأفعال من سوريا، وليس بالكلام فقط. وبالمثل، في لبنان، تتبنّى الولايات المتحدة نهجًا حازمًا يطالب بتفكيك ترسانة أسلحة “حزب الله”، وهو موقفٌ أميركي مُرَحٌّب به وواضح في حد ذاته، ولكنه لا يتناسب مع الواقع اللبناني. إنَّ ثمن انسحاب الجيش الإسرائيلي من مواقعه الأمامية في لبنان وسوريا هو نظام ضمانات أمنية موثوقة وقابلة للتحقق ومستدامة من شأنه أن يُحيّد التهديدات الصادرة من تلك المناطق. ويُثبت تحليل الأطراف المعنية أنَّ هذا الثمن غير قابل للتحقيق حتى اليوم. لا “حزب الله” ولا نظام الشرع على استعداد لتقديم مثل هذه الضمانات، ولبنان كدولة غير قادر على تقديمها. لذلك، يجب على الجيش الإسرائيلي ألّا ينسحب. إنَّ الوضعَ الحالي -الذي يتميّز بصراع منخفض الشدة ولكنه مستمر، وديبلوماسية دولية نشطة تُخفي فجوة لا يمكن ردمها، وموقف إسرائيلي دفاعي أمامي – لا ينبغي أن يكون مرحلة مؤقتة قبل التوصل إلى تسوية. يجب أن يكون هذا هو الواقع الاستراتيجي الجديد والراسخ على الجبهة الشمالية.

  • الدكتور سعود المولى هو باحث وكاتب ومترجم وأستاذ جامعي متقاعد، وهو زميل أول زائر في مجلس الشرق الأوسط للشؤون الدولية في قطر.
  • تقرير صادر عن مركز ألما للبحوث والتعليم في تل أبيب الذي يديره ضباطٌ إسرائيليون سابقون.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى