كيف يُمكِنُ للبنان أن يُناوِرَ في زمنِ الأقطابِ المُتَعدِّدة؟

رُغمَ ضباب المشهد الإقليمي وتعدد اللاعبين الدوليين، يقف لبنان اليوم أمام لحظة دقيقة قد تمنحه، للمرة الأولى منذ عقود، مساحة محدودة لكن ثمينة لممارسة ديبلوماسية مستقلة تحفظ مصالحه الوطنية وسط العواصف المتقاطعة.

المبعوثان الأميركيان مورغان أورتاغوس وتوم برّاك: لا يمتلكان خبرةً كافية ولا ذاكرة مؤسّسية تُمكّنهما من فهم تعقيدات الوضع اللبناني”.

مايكل يونغ*

يعبّر المسؤولون اللبنانيون، في العلن وفي الخفاء، عن استيائهم من الفريق الأميركي الذي يتولّى حاليًا إدارة الملف اللبناني. أحد الوزراء البارزين قال لي مؤخرًا بلهجةٍ واضحة: “هؤلاء لا يمتلكون خبرةً كافية ولا ذاكرة مؤسّسية تُمكّنهم من فهم تعقيدات الوضع اللبناني.”

منذ أن فرضت إدارة الرئيس جو بايدن وقفَ إطلاق النار في المواجهة التي اندلعت العام الماضي بين إسرائيل و”حزب الله”، بقي المشهد على جمودِه، إذ توقّفت عجلة الديبلوماسية وكأنها دخلت في سباتٍ طويل.

وفي الآونة الأخيرة، عبّر وزير الثقافة اللبناني، غسان سلامة، عن ملاحظاته خلال مقابلة تلفزيونية، علّق فيها على التصريحات المتعددة، والمتناقضة في كثير من الأحيان، التي أدلى بها المبعوث الأميركي المؤقت إلى لبنان، توم بَراك. وبحُكمِ تجربته السابقة كمبعوثٍ للأمم المتحدة، قال سلامة إنه تعلّم من تلك التجربة درسَين أساسيَين: أن يتحدّثَ المرء أقل، وأن يتعمّقَ أكثر في معرفة تاريخ البلد الذي يتعامل معه.

كان كلام سلامة بمثابةِ توبيخٍ قاسٍ، لكنه في الوقت نفسه عكسَ شعورًا واسعًا بالارتباك الذي يسود الأوساط اللبنانية حيال المواقف الأميركية غير الواضحة. فالمبعوث بَراك، على سبيل المثال، قال مؤخّرًا في مقابلة مع صحيفة “ذا ناشيونال” الإماراتية إن “اللبنانيين… لا يفعلون شيئًا سوى الحديث عن نزع سلاح “حزب الله”” من دون اتخاذ أيِّ خطوات عملية. غير أنَّ هذا التصريح جاء بعد أسابيع قليلة فقط من تصريحٍ آخرٍ له بالاتجاه المعاكس تمامًا، حين أشاد باللبنانيين وبقرار مجلس الوزراء القاضي بنزع سلاح جميع الجهات غير الحكومية، بما في ذلك “حزب الله”.

في ذلك الوقت، أعلن توم بَراك قائلًا: “لقد أدّت الحكومة اللبنانية دورها، واتخذت الخطوة الأولى. والآن ما نحتاج إليه هو أن تبادر إسرائيل بالمثل، وتلتزم بتلك المصافحة المتكافئة.” وأوضح بَراك أنه يعتقد بإمكانه الحصول على بعض التنازلات من الجانب الإسرائيلي، مثل انسحاب إسرائيل من مناطق لبنانية لا تزال تحتلها، وتقليص هجماتها داخل الأراضي اللبنانية، وهي خطوات يمكن للبنان أن يستخدمها كأوراق ضغط لإقناع “حزب الله” بالتخلي عن سلاحه. غير أنَّ هذه التوقّعات سرعان ما تلاشت عندما عاد بَراك إلى بيروت وأقرّ بأن إسرائيل رفضت تقديم أي تنازل.

بعبارة أخرى، لم يحظَ بَراك بدعم البيت الأبيض ولا وزارة الخارجية الأميركية في جهوده، وهو ما قوّض مصداقيته أمام اللبنانيين. وإلى جانب ذلك، أبلغ بَراك المسؤولين في بيروت أنَّ الولايات المتحدة تعتزمُ تقديم دعم سنوي بقيمة مليار دولار للجيش اللبناني، مع اعترافه في الوقت نفسه بأنَّ هذا الجيش يفتقر إلى القدرات الكافية لمواجهة “حزب الله”. لكن عندما عاد من واشنطن، لم يطرح هذا التعهّد مجددًا، ما أثار مزيدًا من الشكوك حول جديته.

وعلى الرُغم من علاقته الشخصية القريبة بالرئيس الأميركي دونالد ترامب، لم يتمكّن بَراك من تنفيذ وعوده أو تحقيق أيٍّ من التزامات بلاده المعلَنة. بل إنه زاد الطين بلّة عندما أدلى بتصريحٍ مُثيرٍ للجدل خلال مقابلة مع صحيفة “ذا ناشيونال” الإماراتية، قال فيه: “نحن لا نُسلّح الجيش اللبناني لمحاربة إسرائيل… نحن نُسلّحه لمحاربة حزب الله”. وهو تصريحٌ صادم، إذ نادرًا ما يعترف مبعوثو الولايات المتحدة علنًا بأنَّ سياساتهم قد تُشجع على اندلاع نزاعات داخلية أو حروب أهلية.

وزادت الحيرة في الأوساط اللبنانية بسبب الغموض حول الجهة التي تتحدث رسميًا باسم إدارة ترامب بشأن الملف اللبناني. ففي البداية، كانت المبعوثة الأميركية إلى لبنان هي مورغان أورتاغوس، لكنها سرعان ما أفسحت المجال أمام بَرّاك لتولّي المهمة. ومع ذلك، عندما أدلى بَراك بتصريحاتٍ جريئة ولكن مُثيرة للجدل خلال وجوده في بيروت —من بينها قوله إنه لا يمكن تجاهل إيران، وأنه ينبغي منح “حزب الله” شيئًا في المقابل كي يسلّم سلاحه— فوجئ كثيرون بعودة أورتاغوس إلى المشهد، إذ بدأت تُرافق بَراك في زياراته إلى لبنان، وهي المعروفة بمواقفها المؤيدة بشدة لإسرائيل.

في الرحلة الأخيرة التي قام بها توم بَراك إلى لبنان، لم تكن المبعوثة الأميركية السابقة مورغان أورتاغوس ترافقه فحسب، بل كان برفقته أيضًا السيناتور ليندسي غراهام، أحد أبرز الشخصيات في مجلس الشيوخ الأميركي وأكثرها دعمًا لإسرائيل. وبعد مغادرته لبنان، توجّه غراهام إلى إسرائيل، حيث أدلى بتصريحات حادّة قال فيها: “إذا لم نتمكّن من التوصُّل إلى حلٍّ سلمي لنزع سلاح “حزب الله”، فعلينا التفكير في الخطة البديلة، وهي نزع سلاح “حزب الله” بالقوة العسكرية.”

أثارت هذه التصريحات قلقًا واسعًا في الأوساط اللبنانية، إذ بدا واضحًا أنَّ الخطاب الأميركي يفتقر إلى الاتساق والواقعية. ومع مرور الوقت، بدأ الشعور يتنامى داخل بعض الدوائر الحكومية اللبنانية —حتى تلك التي تُعدُّ عادةً الأقرب إلى واشنطن— بأنَّ الفريق الأميركي ببساطة لا يمتلك ما يقدّمه للبنان في هذه المرحلة، لا من حيث الأفكار ولا من حيث المبادرات.

ومع ذلك، يُدرك المسؤولون اللبنانيون أنَّ تجاهل إدارة الرئيس دونالد ترامب لم يكن خيارًا مطروحًا آنذاك. فبغضّ النظر عن مدى ارتباك الموقف الأميركي، تبقى واشنطن طرفًا فاعلًا لا يمكن تجاوزه في أيِّ معادلة تتعلق بلبنان، سواء على الصعيد الأمني أو السياسي أو الاقتصادي. غير أنَّ هذا الإدراك لا يمنع من التفكير بواقعية في فتح مسارات ديبلوماسية جديدة، أكثر تنوّعًا وابتكارًا، تُتيحُ للحكومة اللبنانية هامشًا أوسع للمناورة، سواء تجاه واشنطن أو تجاه إسرائيل.

قد يتضمّن هذا التوجه، على سبيل المثال، الاستعداد لفتح قنوات اتصال غير معلنة مع إيران، صاحبة الكلمة الفصل في ما يتعلّق بسلاح “حزب الله”. قد لا تفضي هذه الاتصالات إلى نتائج ملموسة، لكنّ مجرد فهم طريقة التفكير الإيرانية حيال هذا الملف يمثّل خطوة ضرورية، تتجاوز حدود التصريحات الإعلامية المعتادة. فإيران لن تتخلّى عن “حزب الله” أو عن سلاحه من دون مقابل سياسي أو استراتيجي، ومن الحكمة أن تسعى بيروت إلى تكوين صورة أوضح عمّا يمكن أن يكونَ مطروحًا على الطاولة، إن وُجدت فرص حقيقية للتفاوض أو المقايضة.

كما سيكون من المفيد للبنان أن يستكشفَ إمكانية تعاون دول أخرى في هذا الملف المعقّد. فروسيا، على سبيل المثال، تمتلك علاقات وثيقة مع إيران وتتمتّع بنفوذٍ سياسي في المنطقة، ولا ضرر في دراسة ما إذا كان بالإمكان الاستفادة من هذا النفوذ في تقريب وجهات النظر. كذلك، لعبت الصين مؤخرًا دورًا مهمًا في رعاية المصالحة بين إيران والمملكة العربية السعودية، ما يجعل من المنطقي اختبار مدى استعدادها للمساعدة على تقريب المواقف أو فتح قنوات تهدئة جديدة.

لكنَّ نجاحَ أيٍّ من هذه المساعي مرهونٌ بأن تُدار بعيدًا من الأضواء، تحت الرادار، ومنفصلة تمامًا عن صخب السياسة اللبنانية الداخلية وصراعاتها المُزمنة. فالحسابات الانتخابية والمصالح المتضاربة للأحزاب اللبنانية —لا سيما في عامٍ يسبق الاستحقاقات الانتخابية— يمكن أن تُقوّض أيَّ جهدٍ ديبلوماسي ناشئ، وتحوّلُ المبادرات الهادئة إلى مادةٍ للجدل السياسي أو المزايدات الداخلية.

لذلك، إذا أرادت بيروت أن تتحرّك بفعالية، فعليها أن تُبقي هذه الاتصالات في دائرة ضيّقة وسرّية، وأن تُركّز على تحقيق توازن دقيق بين الانفتاح الديبلوماسي والحذر السياسي. فالمطلوب اليوم ليس فقط انتظار ما ستُقرّره واشنطن، بل السعي بذكاء إلى خلق بدائل وفتح آفاق جديدة، تحفظ للبنان قدرته على المبادرة بدل أن يبقى رهينة للقرارات الخارجية.

على اللبنانيين أن يتعاملوا بقدرٍ عالٍ من الحذر في إدارة علاقاتهم مع الولايات المتحدة في هذه المرحلة الحسّاسة. فالتجربة تُظهر أنَّ لدى الأميركيين غالبًا دوافع قوية لإفشالِ أيِّ محادثات أو تفاهمات لا تصبّ في مصلحتهم المباشرة أو في مصلحة حلفائهم الإقليميين. ومع ذلك، يظلّ القرار في جوهره قرارًا لبنانيًا سياديًا، غايته الأساسية نزع سلاح “حزب الله” بطريقةٍ تضمَنُ تعزيز المصلحة الوطنية اللبنانية، والحفاظ على قنوات التواصل مع جميع الأطراف، مع التأكيد الدائم على أنَّ سيادة لبنان وقراراته لا يمكن أن تُفرَضَ من الخارج، لا من الولايات المتحدة ولا من إيران ولا من إسرائيل.

وفي حال اختار لبنان المضي في هذا النهج، فالأجدر به أن يُبقي واشنطن على اطلاعٍ جُزئي ومدروس بما يجري — بالقدر الذي يُتيحُ استمرار الحوار من دون أن يُقيِّدَ قدرة الدولة اللبنانية على التحرُّك وفقًا لأولوياتها. هذا التوازن صعبُ التحقيق بطبيعة الحال، فالمشهد الداخلي اللبناني مُنقسمٌ بشدة، والموقف الأميركي يتّسم بالصلابة، فيما تُظهِرُ إسرائيل استعدادًا دائمًا لإجهاضِ أيِّ مسعى من شأنه تقييد حريتها في فرض واقعٍ ميداني أو سياسي يخدم مصالحها.

ومع كل هذه التحدّيات، قد تكون هذه اللحظة الفريدة فرصةً للبنان كي يختبرَ شكلًا جديدًا من الديبلوماسية السيادية، يقوم على تنويع قنوات التواصل، وعدم الارتهان لطرفٍ واحد. ربما لن يرضى كثير من القوى الخارجية عن هذا التوجه، لكن الواقع الإقليمي المتعدد الأقطاب بات يتيح مساحة أكبر للتفكير خارج القوالب التقليدية، وللبحث عن حلول تتجاوز المحاور الصلبة التي كبّلت حركة بيروت لعقود طويلة.

فإذا كانت النيّة الأميركية تهدفُ في جوهرها إلى ربط لبنان أكثر بإسرائيل وجعل قراراته منسجمة مع مصالحها الأمنية، فإنَّ الاصطفاف الكامل مع واشنطن يستحقُّ إعادة تقييم جادة. فلبنان الذي يدافع عن سيادته لا يمكن أن يبني سياسته الخارجية على التبعية، بل على الانفتاح المدروس والموازنة الدقيقة بين التحالفات، بحيث تظلّ الهوية الوطنية اللبنانية البوصلة الوحيدة التي تحدد الاتجاه في عالمٍ تتغيّرُ خرائطه كل يوم.

  • مايكل يونغ هو مُحرّرٌ كبير في مركز مالكولم كير كارنيغي للشرق الأوسط في بيروت، حيثُ يرأس تحرير مدوّنة “ديوان” التابعة للمركز. وهو كاتب رأي في الشؤون اللبنانية في صحيفة ذا ناشيونال، ومؤلف كتاب “أشباح ساحة الشهداء: رواية شاهد عيان عن كفاح لبنان في الحياة” (دار سايمون وشوستر، 2010)، الذي اختارته صحيفة وول ستريت جورنال كواحد من الكتب العشرة البارزة لعام 2010. يُمكن متابعته عبر منصة (X) على: @BeirutCalling
  • كُتِبَ هذا المقال بالإنكليزية وترجمه إلى العربية قسم الدراسات والأبحاث في “أسواق العرب”.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى