إشكالية السلم والحرب بين إيران والغرب

في منتصف القرن العشرين، تداخلت مسارات لبنان وإيران في لحظةٍ سياسيّة فارقة، جمعت بين البريق الإمبراطوري والرهانات الإقليمية المُتشابكة. زيارة الشاه محمد رضا بهلوي وزوجته الإمبراطورة ثريا إلى بيروت في العام 1957 لم تَكُن مجرّدَ حدثٍ بروتوكولي، بل عكست طموحاتٍ توسُّعية إيرانية مُمتدّة في التاريخ، ومشاريع نفوذ لم تتوقف عند حدود الزمن أو الجغرافيا. هذه الحلقة الخامسة من “إشكالية السلم والحرب بين إيران والغرب” تُضيءُ على ذلك الامتداد، بين النمط ِالثابت والنهجِ المُتغيِّر، من الشاهنشاهية إلى الجمهورية الإسلامية.

الإمام السيد عبد الحسين شرف الدين: رفضَ عرض الشاه، مُفضِّلًا استقلال الشيعة في لبنان عن أيِّ دولةٍ غير الدولة اللبنانية،

(5)

التَوَسُّعِيَّة الإيرانية: نَمَطٌ ثابتٌ ونَهجٌ مُتَغَيِّرٌ

 

سليمان الفرزلي*

أدهشت إمبراطورة إيران الراحلة ثُرَيّا المجتمع اللبناني خلال الزيارة الرسمية التي قامت بها مع زوجها الشاه إلى بيروت، واستمرَّت أسبوعًا، من 16 الى 23 كانون الأول (ديسمبر) 1957.

كان ذلك في السنة الأخيرة من ولاية الرئيس كميل شمعون المضطربة.

الشاهبانو ثريا إصفندياري–بختياري، الزوجة الثانية لشاه إيران محمد رضا بهلوي، (تزوَّجها بعد سنتين على طلاقه من الأميرة فوزية)، كانت في زمانها من النجمات العالميات، لجمالها الفتَّان، وثقافتها العالية، وأناقتها المُمَيَّزة، فأصبحت موضعَ اهتمامِ وسائل الإعلام العالمية، والمُنتديات الاجتماعية حول العالم.

أقامَ لهما الرئيس كميل شمعون، وزوجته زلفا ثابت، حفل استقبال كبير في القصر الجمهوري، في “محلَّة القنطاري”، تخلّله عشاءٌ رسمي، وحفلٌ موسيقي راقص، بما يليق بمقامٍ إمبراطوري. وخلال تلك الزيارة، منحت الجامعة اللبنانية، الحديثة العهد آنذاك، درجة دكتوراه فخريَّة للشاه الزائر.

لم تَكُن تلك زيارة الشاه الأولى للبنان في عهد كميل شمعون. فقد حطَّ في بيروت ليومٍ واحد في 6 كانون الأول (ديسمبر) 1951، حيث التقى الرئيس اللبناني، وهو في طريقه إلى الولايات المتحدة. التقاه في بداية عهده الزاهرة، والتقاه في نهايته المُلتبسة. في تلك الفترة أبدى شاه إيران اهتمامًا خاصًا بلبنان، يكادُ يُضاهي اهتمام الجمهورية الإسلامية خلال العقود الأخيرة. ومن مظاهر ذلك الاهتمام اشتراك قوات إيرانية في حفظ السلام على خطوط الهدنة بين لبنان وإسرائيل.

*****

ربما كان في ذهن الشاه مشروعٌ أوسع، يقومُ على استمالةِ شيعة لبنان، كجسمٍ موحَّد، على غرار “البيئة الحاضنة” في هذه الأيام، فأوفدَ بعثةً رسمية الى مدينة صور، قبل مدة من زيارته الثانية إلى لبنان، لطرح مشروعه على كبير علماء الشيعة في ذلك الوقت، الإمام السيد عبد الحسين شرف الدين، الذي كان في حينه مريضًا، طريح الفراش، وقبل وفاته بأسابيع قليلة.

قال الموفد الإيراني للسيد شرف الدين، إنَّ الشاه هو الحاكم الشيعي الوحيد في العالم الإسلامي، ويهمُّه أن يحظى بدعم الشيعة في لبنان، وفي غير لبنان، وهو مستعدٌّ أن يُموِّلَ إنشاء المدارس والكليات والمستشفيات والنوادي الثقافية، وكل ما يلزم لرفع المستوى المعيشي والثقافي للطائفة، وعرضَ عليه مبلغًا نقديًا كبيرًا لتيسير الأمور ريثما تكتملُ دراسات المشروع. كان مبعوثُ الشاه محمد رضا بهلوي يتكلم في العام 1957، وكأنه ينطقُ بمنطق الشاه إسماعيل في العام 1501!

لكن السيد شرف الدين، وهو في أيامه الأخيرة، رفضَ العرض، مُفضِّلًا استقلال الشيعة في لبنان عن أيِّ دولةٍ غير الدولة اللبنانية، مع أنَّ كثيرين من الشيعة كانوا يشعرون بالغبن والحرمان في هذه الدولة.

في السنوات الأولى من قيام دولة لبنان الكبير، تولّى زمام الأمور فيها ثلاثة رؤساء من غير الموارنة، (شارل دبَّاس، وبيترو طراد، وأيوب ثابت)، ولمّا انتُخِبَ أول رئيس ماروني، هو حبيب باشا السعد، في أواسط ثلاثينيات القرن الماضي، بعثَ إليه السيد عبد الحسين شرف الدين برسالة تهنئة مُمَيَّزة، قال له فيها: “إننا نمنحك ثقتنا، وهي ثقةٌ لا تُمنح إلّاَ لمثلك”، أي إلى الرئيس الماروني تحديدًا. وفي بداية العهد الاستقلالي، برئاسة الشيخ بشارة الخوري، بعث إليه السيد شرف الدين برسالةٍ مُماثلة.

هو موقفٌ شجاعٌ ينسجم مع جوهر مشروع “لبنان الكبير”، حيث فضَّل البطريرك الماروني الياس الحويك، شيعة لبنان على مسيحيي وادي النصارى والساحل السوري، لأنه لم يَكُن يسعى إلى “وطنٍ مسيحي”، بل إلى كيانٍ عصريٍّ تعدُّديٍّ مُتوازنٍ، بين مكوّنات متمايزة ومتكاملة في الوقت ذاته، لتثبيتِ مبدَإِ “التعدُّد المتنوّع، في إطار التعايش السلمي”، ضمن نظامٍ يقوم على نوعٍ من التوجّه الديموقراطي، يكفل الحريات العامة والخاصة.

كان هذا أيضًا الخيار الشيعي في ذلك الوقت، وهو خيارٌ لبناني لا لبس فيه، وبالشراكة مع الموارنة تحديدًا، كما جاء بوضوح في رسالة السيد شرف الدين إلى الرئيس حبيب باشا السعد، وفي عزِّ الانتداب الفرنسي، الذي قاومه السيد شرف الدين، وحكم عليه الفرنسيون بالإعدام ففرَّ إلى مصر ومنها إلى فلسطين ليكون بالقرب من الحدود اللبنانية قبالة جبل عامل. كان بإمكانه أن يلجأ إلى إيران، أو العراق، لكنه لم يفعل.

بالمقارنة بين المحاولة الفاشلة التي جرَّب فيها الشاه محمد رضا بهلوي استمالة شيعة لبنان، وبين النجاح الباهر، الذي حقَّقته الجمهورية الإسلامية بعده، في جعل شيعة لبنان كتلة متراصَّة، مرتبطة بها، سياسيًا، وعسكريًا، وعقائديًا، يتضح ما هو المقصود بعبارة “النمط الثابت، والنهج المتغيِّر”، لأنه أيضًا ينسحبُ على التاريخ القديم، والمتوسط، مثلما هو واضحٌ في التاريخ الحديث.

*****

إنَّ التوجُّهَ التوسُّعي للدولة الإيرانية نمطٌ قائمٌ وثابتٌ منذ قيام الدولة الإخمينية على يد الملك قورش وابنه قمبيز الثاني في أواسط القرن الخامس قبل الميلاد (550 ق. م). وقد اتَّجَهَ ذلك التوسُّع إلى الغرب، نحو البحر الأبيض المتوسط، عبر سوريا، التي كانت دائمًا نقطة الارتكاز في التوسُّعية الفارسية قبل الإسلام، باتجاه مصر وليبيا، في الغرب الجنوبي، وباتجاه اليونان والبلقان في الغرب الشمالي. ولذلك، لا يُمكِنُ القول بأنَّ إيران بلدٌ شرقيٌّ تمامًا، لتمازجها وتلاقحها مع حضاراتٍ عريقة، ومنها على وجه الخصوص الحضارة الهيلينية الإغريقية في بداية تفتُّح نهضتها العلمية القائمة على التدوين. في تلك المرحلة أصدر هيرودوتوس أول كتاب في التاريخ. وفي تلك المرحلة، المعروفة باسم “مرحلة ما قبل سقراط”، تَفتَّحَ الإغريق على العلوم الطبيعية، النظرية والتطبيقية، قبل ولوجهم في “مرحلة الفلسفة” التي ما زالت ساريةً إلى اليوم. ومن أوائل روَّاد مرحلة العلوم والفلك والرياضيَّات، التي انطلقت، بالتزامن تقريبًا مع توسُّع الدولة الإخمينية غربًا، المُعلم “طاليس”، الذي حسب مسبقًا تاريخ كسوف الشمس، وصنع آلةً لعصر الزيتون، وتلميذه “أناكسيماندر”، الذي كان أول من قال بأنَّ كوكب الأرض جسمٌ سابحٌ في الفضاء، وتلميذ تلميذه “بيثاغوراس”، عالم الرياضيات والموسيقى، مؤسس علم الهندسة الذي طوَّره من بعده إقليدس المشهور.

كانت بلاد الإغريق في ذلك الوقت مدنًا متفرّقة، بمعنى أنَّ كلَّ مدينة كانت دولة مستقلة، بما درجت تسميته في كتب التاريخ “الدولة المدينة”. وقد تميَّزت أثينا، بنظامها الديموقراطي، حيث لكلِّ مواطن رأي يستطيع أن يُجاهرَ به في المجالس والساحات. لكن الدولة الفارسية الإخمينية المحتلة، أقامت على حُكمِ كلِّ مدينة حاكمًا طاغية يحكُمُ باسمها، الى أن جاءَ يومٌ توحَّد فيه هؤلاء الحكّام، تحت ضغط مواطنيهم، فدحروا الحكم الفارسي بقيادة داريوس الأول.

ذلك التمرُّد أرسى نمطًا تغيَّرَ نهجه مع تغيُّرِ الظروف الإقليمية والدولية. واللافت أنَّ ذلك النمط تبلورَ من خلال دينامية الاحتلال والمقاومة، حيث انهزمت الدولة الفارسية عندما اتحد خصومها ضدها. وهذا النمط تكرّرَ في ما بعد، في اليونان، أواخر القرن الرابع قبل الميلاد، وحدث في صدر الإسلام في الجزيرة العربية، منتصف القرن السابع الميلادي، عندما توحَّدت القبائل العربية تحت راية الإسلام، وانتصرت على الفرس في معركة “القادسية”، وكما حدث في مطلع القرن الثالث عشر، عندما توحّدت القبائل المغولية تحت راية جنكيز خان، ثم اجتاحت الحشود المغولية بلاد فارس، وصولًا إلى بغداد ودمشق، بقيادة حفيده هولاكو خان، فأسقطت الدولة العباسية، وقتلت المستعصم بالله، آخر الخلفاء العباسيين.

لكن الصراع الإغريقي–الفارسي في الغرب اليوناني، له مراحل وتوجُّهات مختلفة، كتبت حتميَّة انتصار الغرب، كما جاء في أطروحة المؤرخ العسكري الأميركي، فيكتور دايفيز هانسون، الأستاذ في جامعة ستانفورد (ولاية كاليفورنيا) في كتابه “لماذا ربح الغرب”، (الصادر عن “فايبر آند فايبر”، مطلع العام 2017). وقد أعاد اليونانيون الكرّة في العصور الحديثة بانتصارهم على الدولة العثمانية في مطلع القرن التاسع عشر، ونيل استقلالهم عنها، بمساعدة القوى الغربية في أوروبا.

*****

اعتبر هانسون “معركة سلاميس” البحرية، في العام 480 قبل الميلاد، معركة حاسمة من حيث تأكيد حتمية انتصار الغرب، فوصفها بأنها “معركة سلاميس المقدَّسة”، حيث تمكّنت زوارق يونانية صغيرة، لكنها سريعة الحركة والمناورة، بإنزالِ هزيمة كاسحة بالأسطول الفارسي الضخم، ومعه أساطيل فينيقيا ومصر، لكون سواحل البحر الأبيض المتوسط في سوريا ومصر واقعة تحت سيادة الدولة الفارسية الإخمينية في ذلك الوقت. وقد عزا ذلك الانتصار المهيب، وغير المتكافئ، إلى كون البحَّارة اليونانيين من الرجال الأحرار، الذين يختارون قادتهم بإرادتهم الحرَّة، ويناقشون خططهم لاتخاذ القرارات المناسبة، بينما بحَّارة الأساطيل الفارسية وحلفائها، فاقدون إرادتهم الحرَّة، ينفذون خططًا لا دخل لهم فيها، والجنود الذين يقومون بالتجذيف لتحريك السفن الثقيلة، البطيئة الحركة والمناورة، هم من العبيد المُقيَّدين بالسلاسل، خشية هروبهم!

في العصور الحديثة، وفي اليونان أيضًا، عندما قام الأسطول المصري، بقيادة إبراهيم باشا، باحتلال الموانئ اليونانية، نيابةً عن السلطنة العثمانية، لقمع ثورة الاستقلال اليوناني عن الدولة العثمانية، في مطلع عشرينيات القرن التاسع عشر، تحالفت أساطيل غربية ودمَّرت الأسطول المصري في “معركة نافارينو”، التي كانت آخر معركة بحرية في العالم تُخاض بسفن شراعية تقليدية، لأن “الثورة الصناعية” في الغرب اكتشفت البخار، وبنت السفن البخارية القوية والسريعة، فصارت السيادة في أعالي البحار للبخار… وأصحاب البخار.

هناك نقطةٌ أخرى، تتعلّق بالتفاوت في النظرة إلى الدين بين الغرب والشرق، تطرَّقَ إليها الفيلسوف البريطاني برتراند راسل، في كتابٍ له صدر في مطلع ثلاثينيات القرن العشرين، بعنوان “السلطة”، قال فيه إنه في الصراع بين الدين والدولة، كان النصر حليف الدولة في الغرب، بينما في الشرق كان الدين دائمًا ينتصر على الدولة!

إنَّ الأحلام الإمبراطورية التوسُّعية لم تُغادر مخيَّلة الدولة الإيرانية، بأيِّ حلَّةٍ لبست. ففي شهر تشرين الأول (أكتوبر) 1971، أقام شاه إيران محمد رضا بهلوي، احتفالاتٍ باذخة في مدينة بيرسيبوليس القديمة، عاصمة أول إمبراطورية فارسية في العصور الغابرة (الإمبراطورية الإخمينية)، إحياءً لذكرى مرور 2500 سنة على قيام تلك الإمبراطورية، دعا إليها معظم قادة دول العالم على نحوٍ مبهر ومفاجئ، وبكلفة عظيمة في وقتٍ من الضائقة الاقتصادية، قبيل الإجراءات النفطية التي اتخذها الشاه بعد سنتين من ذلك الاحتفال الأسطوري حيال شركات النفط الأجنبية، مما عزَّز مالية دولته. لكن الأموال الفائضة المتأتية من الموارد النفطية الجديدة أنفقها الشاه على التسلح، ربما ضمن مخططه لإحياء الإمبراطورية الفارسية، التي احتفل بها مسبقًا!

*****

ربما كان الشاه محمد رضا بهلوي “ساذجًا”، إذا اعتقد بأنَّ الغرب يمكن أن يسمحَ له بتجاوز مخططه القائم على دولة إسرائيل، التوسُّعية هي الأخرى. لكنه كان متنبِّهًا للأمر، كما يُستَدَلُّ من مقابلته المشهورة مع الصحافي الأميركي مايك والاس في قصره بطهران يوم 24 تشرين الأول (أكتوبر) 1976. فقد قال الشاه لمحدثه الأميركي في ذلك البرنامج الذائع الصيت، وعنوانه “60 دقيقة”، لأنه يستمر لساعة كاملة: إنَّ اللوبي اليهودي في أميركا لديه قوة سياسية واقتصادية هائلة، يتحكّم بها في الانتخابات الرئاسية، وانتخابات الكونغرس، ويؤثِّر بالتالي في صنع القرارات السياسية.

سأله والاس: كيف ذلك؟

فقال: “إنهم يملكون قوة هائلة في الصحافة ووسائل الإعلام، وفي المصارف وبيوت المال، وسوف أكتفي بذلك…

سأله ما إذا كان يقصد جريدة “نيويورك تايمز”، لأن عائلة سالزبورغر اليهودية تملكها، فأجابه: ضع مقالات تلك الجريدة في الكومبيوتر وانظر ما هي النتيجة…

ثم سأله: وماذا عن جريدة “واشنطن بوست”، فأجاب الشاه: الشيء ذاته.

قال أيضًا إنه لا مشكلة له مع دولة إسرائيل إذا أعادت الأراضي الفلسطينية والعربية المحتلة. “وجه السذاجة” هنا، يظهر إذا كان الشاه قصد بذلك أنه يقبل بإسرائيل كمحميَّة إيرانية تحت جناحه!

بعد شهرين من تلك المقابلة، قام الرئيس السوري حافظ الأسد، مع زوجته، بزيارة رسمية إلى طهران، حيث لقي استقبالًا حافلًا من الشاه، الذي عقد معه اتفاقيات اقتصادية عدة، منها إمداد سوريا بقروض مالية بمبلغ 150 مليون دولار.

مشى الشاه على خطى أسلافه القدامى في الدولة الإيرانية، وكما فعلت من بعده الجمهورية الإسلامية، من حيث التمسُّك بسوريا، لأنها تمثل نقطة مركزية في التوسُّع الإيراني، لكنه لم يعش ليتابع ما في مخيلته الإمبراطورية، فأكملته من بعده الجمهورية الإسلامية على نحوٍ أنجح وأوسع، شمل شيعة لبنان أيضًا، حيث تعذَّر ذلك على الشاه أيام كميل شمعون. بل إنَّ الدورَ الإيراني، في سوريا ولبنان، خلال عهد الرئيس بشار الأسد، أظهر للإيرانيين وللعالم، مركزية سوريا من حيث كونها مسرحًا ممتازًا لخطة “الدفاع الهجومي” عن الجمهورية الإسلامية. والواقع أنه لولا سوريا، والوجود السوري في لبنان طيلة ثلاثة عقود، لما أتيح للمقاومة الإسلامية في لبنان، بقيادة “حزب الله”، أن تنمو وتتوسّع، لتصبح لاعبًا إقليميًا على مسرح أكبر من لبنان بكثير.

خلال زيارة الرئيس الإيراني محمود أحمدي نجاد الى سوريا، في شهر أيلول (سبتمبر) 2010، انعقد في دمشق اجتماعٌ ثلاثي، ضم الرئيس أحمدي نجاد، والرئيس بشار الأسد، والأمين العام الراحل ل”حزب الله”، السيد حسن نصر الله، الذي بدا في ذلك المشهد، وكأنه رئيس لبنان، في اجتماعٍ رئاسي على مستوى القمة، إلى جانب دولتين من أكبر وأقوى دول المنطقة في ذلك الوقت. ولذلك فإن انكسار إيران في سوريا، كان نكسة استراتيجية من الصعب تعويضها، والقوى الغربية التي خطَّطت لإسقاط نظام بشار الأسد، كانت تعرف ذلك حق المعرفة، بناءً على التجارب القديمة كلها.

إنَّ إبعادَ إيران عن سوريا، وإبعاد سوريا عن إيران، أحبط استراتيجية “الدفاع الهجومي”، بردِّ الأخطار المحتملة، التي تواجه الجمهوريَّة الإسلامية، من خارج الحدود الإيرانية، مما سيضطر الدولة الإيرانية القائمة، أيًّا كانت هويَّة الحكم فيها، إلى “الدفاع السلبي”، في داخلها، بكل ما يحمله ذلك من أخطار واحتمالات، تتراوح بين سقوط النظام، والحرب الأهلية، أو التقسيم العرقي، أو الانكفاء والتراجع، تحت وطأة الحصار والتضييق.

*****

هكذا حدث، في معركة أربيل (أو “جوجميلا”) التي دحر فيها الاسكندر المقدوني جيوش الدولة الإخمينية بقيادة الملك داريوس الثالث في العام 331 قبل الميلاد، وأزال تلك الدولة من الوجود وعمرها 250 سنة، فانفتح أمامه الطريق الى الهند في الشرق، وإلى سوريا ومصر في الغرب. ويعتبر المؤرخون، القدامى والجدد، أن تلك المعركة الحاسمة غيَّرت تغييرًا جذريًا في أوضاع القارة الآسيوية، والعالم القديم بأكمله، لا سيما من الناحية الثقافية بنشر الحضارة الهيلينية على أوسع نطاق. وقد تجذرت تلك الحضارة بشكل خاص في سوريا ومصر الى مئات السنين، وصولًا إلى الوقت الحاضر.

شخَّصَ اللاهوتي والمؤرخ الأسكتلندي جورج آدم سميث، النمط الثابت لمركزية سوريا، في صراع الأمم، في كتابه الكلاسيكي “الجغرافيا التاريخية للأراضي المقدَّسة” (الصادر في لندن ونيويورك، أواخر القرن التاسع عشر)، بقوله: “إنَّ سوريا هي الأرض الوحيدة في العالم التي كرَّر التاريخ فيها نفسه”.

وقال أيضًا: “إنَّ سوريا ليست الطريق المؤدّي الى مكانٍ آخر. هي ذاتها هدف ومرمى جميع الطرقات. هي الولاية المباركة الأكثر مركزيَّةً في العالم، وهو ما جلب لها ويلات التنافس المتكرر عليها بين الشرق والغرب”.

مع أنَّ حملة الإسكندر المقدوني كانت مُوَجَّهة في الدرجة الأولى ضد الدولة الفارسية، وعلى الرُغم من الاحتلال اليوناني لتلك الدولة، فإنَّ الثقافة الهيلينية الإغريقية لم تتجذر في بلاد فارس كما تجذّرت في سوريا ومصر، وخصوصاً في سوريا، حيث وصف جورج آدم سميث هذه الحالة بقوله: “لقد تهلنت سوريا أكثر من هيلاس نفسها”!

كانت الثقافة الهيلينية في ذلك الوقت شديدة الجذب والاستيعاب إلى درجة أنها كادت تُذيبُ اليهود فيها، لو لم تُعاجل المؤسسة الدينية اليهودية إلى تدارك الأمر، الذي كاد يمحو الهوية التاريخية لليهود، بأن أقامت مدارس دينية لغسل أدمغة الأجيال اليهودية الجديدة، وإعادة شدها إلى جذورها التاريخية. وقد أشار إلى ذلك برنامج تلفزيوني في السبعينيات من القرن الماضي قدَّمه وزير الخارجية الإسرائيلي الأسبق آبا إيبان.

وربما كان ذلك من الأسباب التي حملت ملك سوريا اليوناني أنطيوخوس الرابع (أبيفانس) على تجريد حملة عسكرية قادها بنفسه في العام 168 قبل الميلاد، ضد اليهود، وأصدر أمرًا بمنع ممارسة شعائر الديانة اليهودية تحت طائلة الإعدام!

*****

تكرَّر احتلال الفرس لسوريا أيضًا في زمن الدولة الكسروية الساسانية في أوائل القرن السابع الميلادي، عندما قام كسرى الثاني (أبرويز) باحتلالها، وانتزاعها من الدولة البيزنطية، مستغلًّا اضطرابات سياسية في القسطنطينية. ثم عاد البيزنطيون بقيادة الإمبراطور هرقل فهزموا جيوش كسرى في “معركة نينوى” (في شمال العراق)، يوم 16 كانون الأول (ديسمبر) من العام 627 للميلاد)، وكان نصرًا حاسمًا، سقطت بعده الدولة الساسانية، لتقع تاليًا بيد الفاتحين العرب المسلمين في عهد الخلفاء الراشدين.

إنه حادثٌ تاريخيٌّ مشهود وَرَدَ ذكره، كما بدأ وكما انتهى، في آية من القرآن هي: “غُلبت الروم في أدنى الأرض، وهم بعد غَلَبهم سيغلبون في بضع سنين، لله الأمرُ من قبلُ ومن بعدُ، ويومئذٍ يفرح المؤمنون” (سورة الروم 2 – 4). والمقصود بعبارة “أدنى الأرض” هو سوريا، ما يؤشِّر إلى أنَّ مزاج الكيان الإسلامي الوليد في الجزيرة العربية لم يَكُن متعاطفًا مع الفرس. بل هناك تفاسير قالت: إنَّ الجزيرة العربية زيَّنت لانتصار الروم على الفرس!

خسرت الدولة الساسانية سوريا، فسقطت، وزالت من الوجود، وهي حالة أشبه ما تكون بخسارة الجمهورية الإسلامية لسوريا أخيرًا، وهي خسارة استراتيجية من شبه المستحيل تعويضها في الظروف الدولية الراهنة.

(الحلقة المقبلة: “وديعة كسرى”!)

  • سليمان الفرزلي هو كاتبٌ وصحافي لبناني ترأّس تحرير صحف عدة في بيروت، منها “الأحرار”، و”الكفاح”، و”بيروت”، و”عالم النفط”، و”الصياد”، وعمل في عدد من الصحف الصادرة في لندن وباريس، منها “الدستور”، و”الحوادث” قبل أن يصدر مطبوعته الخاصة “الميزان” في تسعينيات القرن الماضي. وله أيضًا مؤلّفات أبرزها كتاب سيرته “علامات الدرب” الصادر مطلع العام 2013 عن “اللبنانيون المتحدون للصحافة والنشر” في لندن، و”حروب الناصرية والبعث” الصادر مطلع العام 2016 عن دار “أنطوان هاشيت (نوفل)” في بيروت. وهذه المطبوعات يمكن الاطلاع عليها كاملة على موقعه الإلكتروني: www.sferzli.com

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى