إِشكالِيَّةُ السِلمِ والحَربِ بَينَ إيران والغرب
هذه هي الحلقة السادسة من سلسلة “إشكالية الحرب والسلم بين إيران والغرب”، التي تواصلُ تتبُّعَ مسار الفكرة الإيرانية في امتدادها التاريخي وصراعاتها المتشابكة. ففي كل مرحلة، تتجدّد الأسئلة ذاتها حول الهوية والسلطة والدين، لتنعكس على علاقة إيران بالغرب في صورٍ من السلم حينًا والمواجهة حينًا آخر.

(6)
“وَديعَةُ كسرى”!
سليمان الفرزلي*
“إيران فكرة”…
بهذه العبارة عَنوَنَ المؤرِّخُ والباحثُ الإيطالي جيراردو نولي، الذي فارق الحياة في العام 2012، كتابه: “فكرةُ إيران وأصلُها”. كان نولي مُتخصِّصًّا بالتاريخ الإيراني والثقافة الفارسية.
“الفكرة”، كتعبيرٍ مُجرَّد، لها شرطان: الأوّل: أن تكونَ لها هَوِيّة ثقافية داخلية، مُميّزة لشعبها، والثاني: أن تكونَ لها رسالة إنسانية للعالم الخارجي.
لكنَّ هذه “الفكرة” مُربكة للباحثين، لأنَّ اسم “إيران” لم يُعتَمَد رسميًا إلّاَ في العام 1935، ولأنَّ الاسمَ الشائع من قبل، وهو “بلاد فارس”، تعبيرٌ أطلقه الأغرابُ عليها، أو فلنقل أطلقه المؤرّخون القدامى، من خارجها. وهو الاسم الذي كانَ مُعتَمَدًا من العرب قبل الإسلام، وظلَّ ساريًا إلى قرونٍ عديدة، ومن اليونانيين، الذين كانوا أكثر الشعوب احتكاكًا بالفرس، سلبًا وإيجابًا، قبل الإسلام بأكثر من ألف سنة.
ما زادَ من التشوُّش في فَهمِ تلك “الفكرة” اعتماد الجمهورية الإسلامية الراهنة هَويَّة سياسية إضافية إلى الهويّة التاريخية التي قامت عليها إيران خلال تاريخها الطويل (الهوية الجمهورية). واللافت في الأمر، أنَّ الجمهورية الإسلامية في دستورها الجديد، أو الوحيد، (لأن الحركة الدستورية التي كانت أول حركة من نوعها في الشرق الأوسط عام 1906، أُحبِطَت ولم يرَ دستورها النور)، اعترفت بالديانة الزرادشتية القديمة، إلى جانب الإسلام، والمسيحية، واليهودية أيضًا. وبالتالي، يمكن القول بأنَّ الجمهورية الإسلامية لا تُمثّلُ افتراقًا كاملًا، أو نهائيًا، عن “الفكرة” التي استنبطها نولي في أبحاثه.
أما الإسم “إيران”، المُشتَق من الهَوِيّة التاريخية الذاتية للإيرانيين، فهو يعني، كما أُريدَ له أن يعني في العصر الحديث، “بلاد الآريين”، لا بلاد الفرس. وبهذا المعنى للفكرة، أثَّرت القوى الحاكمة، من الدولة الساسانية، الى القجارية، فالصفوية، فالخُمينية، في مضمون تلك “الفكرة”، وتأثَّرت بها أيضًا. لأنَّ كلَّ واحدةٍ من هذه الدول، التي تعاقبت على حُكمِ إيران منذ مئات السنين، أدخلت على “فكرة إيران” شيئًا من التقاليد والهَويّات الدينية، خلال المرحلة الإسلامية العربية وخلال المراحل السابقة للإسلام، للإبقاء على المفهوم التاريخي للإيرانيين لأنفسهم ولنظرة العالم الخارجي إليهم بأنهم ليسوا دولة عادية مثل باقي الدول المجاورة، بل هم “كيانٌ عالمي مُتميِّز”، مستحقٌّ لهم، ومحرومون منه. بعبارةٍ أخرى: “الحلمُ الإمبراطوري الإخميني ما زالَ ينبضُ في عروقِ الإيرانيين”.
صحيحٌ أنَّ الحُكمَ القجاري انفتحَ على العالم الخارجي في ذروةِ المدِّ الإمبريالي الأوروبي، حيث قام ناصر الدين الشاه في أواخر القرن التاسع عشر بجولةٍ خارجية على العواصم المؤثّرة في ذلك الوقت، وكذلك فعل مظفر الدين شاه في بداية القرن العشرين، شملت عاصمة الإمبراطورية الروسية آنذاك سانت بطرسبورغ، والعاصمة العثمانية إسطنبول، والعاصمة البروسية (الألمانيَّة) برلين، والعاصمة النمساوية فيينا، والعاصمة الفرنسية باريس، والعاصمة البلجيكية بروكسل، في تماهٍ مُرتجى مع الغرب الأوروبي، إلّاَ أنَّ “الفكرة”، بدأت تتشكّل من بداية الدولة الساسانية على يد مؤسسها الملك أردشير الأول، وابنه الملك شاه بور، منذ الربع الأول للقرن الثالث الميلادي، حيث اعتمدا الديانة الزرادشتية، دينًا رسميًا للدولة. وقد تشكّلَ الحلم الساساني على إحياء، أو استرداد، ما بلغته الدولة الإخمينية، شرقًا وغربًا، شمالًا وجنوبًا.
أصل “الفكرة”، إذن، بدأ بتحديد هوية إيران الزرادشتية، وبآفاقها الخارجية المُتمثّلة بمحاولة استعادة امتدادها التاريخي في زمن الدولة الإخمينية. لكنها تبلورت من جديد خلال العصور الحديثة، عندما “تشيَّعت” إيران على يد الشاه إسماعيل مطلع القرن السادس عشر بقرارٍ سياسي مُلزِم بغية التميُّز عن باقي المسلمين، خصوصًا عن السلطنة العثمانية التي اتخذت لنفسها صفة “الخلافة الإسلامية”. ما يعني أنَّ “الفكرة” لا تعود “فكرة” واضحة من غير تميُّزٍ عن نظائرها إذا بقيت تحت جناح “فكرة الآخرين”، ولو كانوا يعتنقون الدين ذاته. فالتشيُّع الإيراني، بهذا المعنى، حافظ على “الفكرة” من خلال التميُّز الديني.
*****
لكن ماذا عن إيران الإسلامية منذ القرن السابع الميلادي حتى قرار التشيُّع بعد ثمانية قرون في إطارِ تلك “الفكرة”؟
الفتحُ الإسلامي حَكَمَ بلاد فارس كقوة قاهرة من الخارج، تمامًا كحُكم الإسكندر المقدوني في القرن الثالث قبل الميلاد، مع فارق ملحوظ، هو أنَّ الإسكندر لم يُحاوِل فَرضَ الثقافة الهيلينية على الفرس، بل طرح نفسه على أنه امتدادٌ للدولة الإخمينية التي قهرها، وتمازج معها. ولهذا لم تتهلّن إيران مثل سوريا ومصر، حيث كانت النظرة إلى الإسكندر هناك على أنه “مُحرِّرٌ” لهما من الحكم الفارسي.
فالحُكمُ في إيران، زمن الدولة العربية الإسلامية، كان للعرب. وبالتالي كان في منظورِ “الفكرة” حُكمًا أجنبيًا، يُدارُ من المركز العربي الخارجي: من دمشق أيام الدولة الأموية، ومن بغداد أيام الدولة العباسية، حتى الغزو المغولي في أواسط القرن الثالث عشر الميلادي. واللافت، أنَّ إيران تحت الحكم العربي الإسلامي الطويل لم تتعرَّب ثقافيًا، بل كانت هناك مقاومة فارسية للتعريب. ويعتبرُ بعضُ المؤرّخين أنَّ أبا القاسم الفردوسي وضع كتاب “الشاهنامه”، (أي كتاب “سِيَّر الملوك”) بالفارسية، مُتعمّدًا إعلان التمسّك باللغة الأم، كهويةٍ مُميّزة، خصوصًا أنها تركزُ على أساطير الفرس قبل الإسلام. فقد كتبها الفردوسي شعرًا، وهي تُعدُّ في الأدب العالمي أطول ملحمة شعرية من أيِّ نظيرٍ لها في العالم. بل يمكن القول بأنه أراد أن يتفوَّقَ فيها على كتاب الإمام الطبري بالعربية بعنوان “تاريخ الرُسُل والملوك” الذي صدر قبل “الشاهنامه” بسنواتٍ قليلة. وهذا أيضًا بخلاف ما حدث في سوريا ومصر، حيثُ اكتسحت اللغة العربية ما قبلها، وأزالته من الوجود… وما رسَّخ هذا الانطباع، أنَّ كتاب الطبري لم يُترجم إلى الفارسية إلّاَ بعد خمسين سنة من نشره، أي مع بداية القرن العاشر الميلادي (حوالي 390 هجريَّة).
قَبِلَ الإيرانيون الإسلام كأمرٍ واقع، لكنهم لم يستعربوا ثقافيًا. تمامًا كما حدث في زمن الفتح الإسكندري. فطوال تاريخهم، لم يتخلَّ الإيرانيون عن هويتهم الثقافية المُمَيَّزة، مع أنهم تفاعلوا مع الثقافات التي سيطروا على بلدانها في العهود الإمبراطورية، ومع الثقافات الوافدة إليهم مع الفاتحين من خارجها. (وهذا من أوجه تميُّز “الفكرة”).
لكن “الفكرة”، أي فكرة، مهما كانت نبيلة، أو حتى مُقَدَّسة، كما يُستدلُّ من التجارب التي عاصرناها نحن في القرن العشرين، يداخلها الفساد في حال استخدامها سلاحًا في صراع المصالح، وخصوصًا في الصراعات على السلطة. شاهدنا ذلك بما حلَّ بفكرة “البعث العربي”، أو “القومية السورية”، أو “القومية العربية”، وكذلك بأفكارٍ سامية مثل “الاشتراكية، و”الشيوعية”، و”الديموقراطية”، التي فشلت وسقطت كلها جرَّاء الفساد البشري الذي داخلها بفعل الصراعات على السلطة أو على النفوذ والسيطرة. وقد شاهد العالم في السنتين الماضيتين، صورة فاضحة عن الهمجية الإسرائيلية، مخالفةً تمامًا حتى لجوهر “الفكرة” اللابسة شعار “المظلومية اليهودية” على يد الأوروبيين، ونادى بها كلّ الذين أطلقوها وتبنُّوها من يهود وغير يهود.
هذا الفساد، النسبي منه والمُطلَق، عندما يستولي على أيِّ فكرة، مهما كانت نبيلة وراقية، بما في ذلك الأفكار الدينية، شخَّصَه اللورد أكتون البريطاني، وهو مؤرّخٌ كاثوليكي وسياسي ليبرالي، في رسالة له الى أسقف بروتستانتي أنغليكاني في العام 1887، وذهب مثلًا بعبارته المشهورة القائلة: “السلطة مَفسِدة، والسلطةُ المُطلقة مَفسِدة مُطلقة”!
وما زال هذا المنحى ساريًا منذ أقدم الأزمنة إلى اليوم، وسوف يبقى كذلك، على الأرجح، ما دام البشر يتصارعون على المصالح، وعلى النفوذ والسلطة، على حساب المبادئ الإنسانية.
*****
دَرَجت العادة بين الدولة الساسانية والدولة البيزنطية، خصوصًا بعد “معاهدة السلام الأبدي”، التي عُقدت بين الإمبراطور البيزنطي يوستنيانوس الأول الكبير وبين الملك الفارسي كسرى الأول (أنو شروان)، في العام 532 للميلاد (سوف نستعرضها في حلقة مقبلة بعنوان “معاهدة السلام الأبدي”)، أن يتبادل الحاكمان البيزنطي والفارسي، كبادرة حسن نية، إقامة ولي عهد كل منهما في عاصمة الآخر، قريبًا من العرش. ولي العهد البيزنطي في البلاط الفارسي، وولي العهد الفارسي في البلاط البيزنطي.
حدثَ في العام 591 أن تولّى العرش الفارسي الملك كسرى الثاني (أبرويز)، حفيد الملك كسرى الأول (أنو شروان)، المذكور أعلاه، خلفًا لوالده الملك هرمز الرابع. لكن قائد جيش أبيه، ويُدعى بهرام، انقلب عليه ساحبًا ولاءه له بعد أربع سنوات من اعتلائه العرش، ففرَّ الملك كسرى إلى العراق حيث أمدَّه الإمبراطور البيزنطي موريس بقوة عسكرية أعادته الى عرشه (معظم أفرادها من أرمينيا). تمامًا كما حدث للشاه محمد رضا بهلوي، عندما فرَّ إلى الخارج في العام 1953 بعد وصول الدكتور محمد مصدق إلى رئاسة الحكومة وأمَّمَ شركات النفط الأجنبية، فأعاده كيرميت روزفلت، مسؤول وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية، إلى عرشه بانقلابٍ مُضاد أطاحَ حكومة مصدق!
من الطبيعي في هذه الحالة، أن يشعرَ الملك الفارسي بالامتنان للإمبراطور موريس، كما شعر بذلك الشاه محمد رضا بهلوي تجاه الولايات المتحدة والغرب، بعد مجيئه الثاني على يدهم وبمساندتهم. وكما صارت واشنطن وصيَّة على حكم الشاه محمد رضا، كذلك صارت القسطنطينية وصيَّة على عرش كسرى، أو حامية له.
لم يَدُم هذا الوضعُ طويلًا، لأنَّ الإمبراطور موريس أُزيلَ من المشهد بصورةٍ مفاجئة في انقلابٍ عسكري قام به ضابط، قائد مئة، اسمه “فوقاش” (عديد الكتيبة التي كان يقودها ضابط بهذه الرتبة في الجيش الروماني القديم، لم يصل قط الى مئة جندي، وأكبر عدد وصل إليه في تاريخ الجيوش الرومانية هو 86 جنديًا فقط). ومنذ إعلانه إمبراطورًا بتزكية من سلفه تيبيريوس الثاني (تيبيريوس الأول هو خليفة القيصر أغسطس، وكلاهما له علاقة بالتاريخ المسيحي. فقد وُلد المسيح في عهد أغسطس، وصُلب في عهد تيبيريوس الأول)، خاض موريس حروبًا متواصلة على جميع الجبهات وفي كلِّ الاتجاهات، مما استنزف مالية الدولة، فاضطرَّ إلى اتخاذ إجراءاتٍ اقتصادية صارمة، مما أحدث تملمُلًا واستياءً في الأوساط الشعبية، وخصوصاً في صفوف الجيش، مما حفز الانقلاب العسكري عليه وإطاحته.
*****
فور وقوع الانقلاب في القسطنطينية، حرّكَ كسرى الثاني (أبرويز) جيوشه واحتلَّ سوريا، وصولًا الى القدس في فلسطين، مُعلنًا أنه يحفظها “وديعة” في عنقه، ريثما تعود الشرعية الى القسطنطينية. وبالتالي فإنه لن يعيدها لأيٍّ كان غير راعيه السابق الإمبراطور موريس.
كان الضابط فوقاش غير ملمٍّ بشؤون السلطة والحكم، وضعيف الثقافة، فلم يكن واثقًا من نفسه، ولا واثقًا بمن حوله، فقتل الإمبراطور موريس وأعلن نفسه إمبراطورًا، وتملّكه الخوف والهلع، فصار يتوهَّم أنه يرى الأعداء في كلِّ مكان يتربّصون به، فراح يمارس القتل على الشبهة، مما سرَّع في نهايته، بعد حكم من الإرهاب والخوف استمر ثماني سنوات (602 -610م).
بلغت أخبار الاضطرابات في القسطنطينية بعد فترة مسامع قائد الجيوش البيزنطية في شمال أفريقيا، المقيم في قرطاجة، فأوفد ابنه الذي يحمل نفس الاسم (“هيراكليوس” أو “هرقل”)، مع قوة بحرية ليستطلع ما يجري في العاصمة. ولما وصل هرقل الأصغر إلى القسطنطينية، يوم الخامس من تشرين الأول (أكتوبر) من العام 610، تحركت المدينة كلها لاستقباله، فأعدم فوقاش فورًا، وأعلن نفسه إمبراطورًا.
لكن كسرى لم يعترف بشرعية هرقل، فقرّرَ أن يحتفظَ بسوريا، ودخل الى مدينة القدس في فلسطين حيث صادر عود الصليب الأصلي من كنيسة القيامة ونقله الى خوزستان في جنوب إيران. ورافق دخوله إلى القدس حدوث مجازر ضد المسيحيين سالت فيها دماءٌ كثيرة. ويختلف المؤرخون حول الجهة التي قامت بتلك المجازر. هناك من يقول إنَّ الجيش الفارسي المحتل هو الذي فعل ذلك، وهناك آخرون يتّهمون يهود المدينة، الذين استقووا بالجيش الفارسي، هم الذين قاموا بها (راجع كتاب الباحث الفلسطيني عصام محمد سخنيني، بعنوان “مقاتل المسيحيين”، الصادر في بيروت عن “المؤسسة العربية للدراسات والنشر” بتاريخ 6 تشرين الثاني/نوفمبر 2018، حول المجازر بحق المسيحيين في نجران، جنوب الجزيرة العربية، على يد الحاكم اليهودي الحميري ذي نؤاس في اليمن عام 523م، ومجازر القدس المشار إليها عام 614م تحت نظر الملك الفارسي كسرى الثاني).
هناكَ قرائن عديدة تدلُّ على أنَّ كسرى الثاني (أبرويز)، اتخذ من مقتل الإمبراطور البيزنطي موريس ذريعة للتوسُّع بهدف استعادة حدود الإمبراطورية الإخمينية، فحقَّقَ ذلك مؤقتًا بسيطرته على كامل سوريا (بما فيها فلسطين)، ومصر وحتى ليبيا.
في ذلك الزمان، كان من معايير شرعية أي حاكم جديد أن يسكَّ نقودًا ذهبية للتداول في الأسواق تحمل صورته، وأي كلام يريد أن يُميز به نفسه، بعد سنتين من اعتلائه العرش. وبالفعل سكَّ كسرى الثاني مجموعة من العملات باسمه وتحمل صوره، بعد سيطرته على سوريا، لكنه أبقى على العملات البيزنطية المتداولة سابقًا، ربما لأنَّ السوريين لم يُقبلوا على عملته الجديدة خشية أن تفقد قيمتها في حال عودة سوريا إلى البيزنطيين.
توجد في المتاحف، وبعض صور لنقود كسرى في المراجع التاريخية، قطع عليها صورته نُقشت إلى جانبها عبارة “ملك الملوك”، لا يوجد لها نظير في العملات السابقة. وهناك قطع أخرى عليها اسمه وصورته وعبارة “المُتقدِّم في المجد”.
*****
لا يستقيمُ فَهمُ المرحلة المُمتَدّة من حُكم كسرى الأول (أنو شروان)، إلى الفتح العربي الإسلامي، بعد حكم حفيده كسرى الثاني (أبرويز)، ما لم تُفهم إشكالية السلم والحرب بين الدولة الساسانية في بلاد فارس وبين الإمبراطورية الرومانية، ومن بعدها الإمبراطورية البيزنطية. ويمكن النظر إلى تلك الإشكالية بمنظارِ ما يجري اليوم بين إيران الإسلامية وبين الغرب، من مشادَّة سياسية ومناوشات عسكرية، لأنها في ديناميتها وأسبابها، تُشكّلُ امتدادًا تاريخيًا متواصلًا، لعله الأطول والأعمق في التاريخ العالمي.
ليس من المُجدي بناء الفهم التاريخي لصراع الأمم الحيَّة، مثل إيران والغرب، على الفرضيَّات، لكنه لا بدَّ في المراحل المفصلية من افتراض ما كان يمكن أن يحدث على غير ما حدث فعلًا. قطعًا، لو لم ينقلب الضابط البيزنطي فوقاش في مطلع القرن السابع الميلادي على الإمبراطور موريس ويقتله، لكان تحقَّق، ولأول مرة، سلامٌ حقيقي بين الروم والفرس على يد كسرى الثاني (أبرويز) والإمبراطور موريس، تأسيسًا على “معاهدة السلام الأبدي”، بين كسرى الأول (أنو شروان)، والإمبراطور البيزنطي يوستينيانوس الأول الكبير، في الثلث الأول من القرن السادس.
إذ ليس من عبثٍ سُمِّيَ “السلام الأبدي”، لأنَّ الفريقين تضرَّرا من الصراع الدائم، وكلاهما كان بحاجة إلى إصلاحات قانونية جذرية لإعادة ترميم النظام الداخلي من أجل إعادة بناء حالة الازدهار من خلال الاستقرار، بعد التدهور المريع في كلتا الإمبراطوريتين، والضيق الاقتصادي الخانق، بفعل إنفاق الموارد المالية على حروب متواصلة بينهما، يستحقُّ السلام بعدها أن يكون أبديًا. كلٌّ منهما شعر بوطأة الكلفة الباهظة للحرب، سواء كانت مباشرة رأسًا لرأس، أو بالواسطة من طريق “الأذرع” الموالية لكلٍّ منهما، وهي حالة مستمرة إلى اليوم.
في التاريخ الفارسي القديم، يُذكر كسرى الثاني (أبرويز) على أنه “ملكٌ مسرفٌ، مبذّرٌ، ينفق عن سعة على المظاهر والفخفخة، وهو المسؤول الأول عن سقوط الإمبراطورية الساسانية”!
*****
كما في الوقت الحاضر أيضًا، لا يمكن إغفال العامل الديني في الصراع الفارسي–البيزنطي، حيث لعبت الحساسيات بين الزرادشتيين والمسيحيين واليهود، دورًا في تأجيج الصراعات السياسية والعسكرية، خصوصًا في مرحلة كسرى الثاني (أبرويز)، كما سنرى في الحلقة المقبلة بعنوان “مقاتل المسيحيين”، مع أنه لم يكن مُنحازًا أو مسبّبًا لتلك الحساسيات الدينية، بل بسبب تعصُّب رجال الدين، ومصالح طبقة النبلاء الإقطاعيين، والمحاربين، وهي الطبقات المرتبطة دومًا مع رجال الدين!
لكن هذا التحالف لا يمكن فهمه بالمنظور الطبقي، بل في إطار فكرة “إبرانشهر”، التي عبَّرت عن نفسها، في الحقبة الساسانيَّة، على أنها مساحةٌ محدَّدة من الأرض تحكمها “الأرستقراطية العسكريَّة”، ومفاهيمها الفكرية حدَّدها، وجدّدها، رجال الدين. وكان هذا التحالف عاملًا وجوديًّا مهمًا لبقاء الدولة في بداية الحكم الساساني. وقد أصبح ذلك من المسلّمات الفكرية المُثلى في الديانة الزرادشية، حيث كانت النظرة إلى الدين والدولة على أنهما ركيزتان لا تنفصلان عن بعضهما البعض، وأيٌّ منهما لا تستطيع البقاء من دون الأخرى. وقد تقبَّل المسيحيون واليهود هذه الفكرة، وأجاز الزرادشتيُّون التزاوج معهم.
فوق ذلك، كان كسرى الثاني، كمحاربٍ وقائدٍ ميداني، مجدّدًا في الفنون الحربية، وفي ابتكار الأسلحة، تعويضًا عن الضعف الذي أصاب الطبقة العسكرية الفارسية التقليدية، بسبب الاعتماد المتزايد، في المراحل الأخيرة من الدولة الساسانية، على قوات مرتزقة من القبائل الرُحَّل. واللافت أنه خلال حُكم كسرى الثاني، قتل الفرس عاملهم ملك الحيرة العربي على اللخميين، النعمان بن المنذر، في العام 613 للميلاد، لأسباب غير معروفة على وجه الدقة حتى الآن، واختلف فيها الرواة.
من التجديدات العسكرية التي أدخلها كسرى في المعارك، استعمال الفيلة، بما يشبه سلاح الدبابات في الوقت الحاضر. استعمل الفيلة ضد البيزنطيين، واستعملها ضد القوات العربية الإسلامية الفاتحة، حسب المصادر العربية. ومن التغييرات الإدارية التي أدخلها على الجيش، ما سمَّاه العرب “ديوان المقاتلة”، حيث خصَّص معاشًا ثابتًا لقوات سلاح الخيالة. ومن بين هؤلاء الجنود، اختار قوات النخبة الذين سمَّوهم “الخالدون”، وقائدهم هو آمر الحرس الملكي، وذلك بكلفة عظيمة، تضاهي في زمانها كلفة صدام حسين على “الحرس الجمهوري” في العراق، كجيش رديف لحماية السلطة، وكلفة “الحرس الثوري” وملحقاته في الجمهورية الإسلامية خلال العقود الأخيرة.
حتى في تنظيم ترتيب المشاة والرماة، وأسلحة كل منهم، استحدث كسرى تحرّكات عسكرية وأسلحة مبتكرة. ففي “كتاب الخطط العسكرية” للإمبراطور البيزنطي موريس (يدعى باليونانية “ستراتيجيكون”)، معلومات تفصيلية حول الاستراتيجيات الحربية، وحول أدق الفروقات في الأسلحة وأوجه استخدامها بين الجنود الفرس وجنود الروم.
جاء أيضًا في المراجع الصينية القديمة، (“كو–كو–ياو”)، أنَّ الفرس كانت لديهم مصانع للفولاذ، يورّدون منها إلى الصين لصنع السيوف، لكونها قويةً ومتينةً. لكن المصادر الرومانية، تفيد بأنَّ الفولاذ الفارسي يأتي في الدرجة الثانية بعد الفولاذ الهندي، وهذا ما تؤيده المصادر العربية أيضًا. فقد ورد في الشعر العربي مرارًا تعبير “سيوف الهند”، لإظهار أوليتها كسلاحٍ قاطع، بحيث باتت كلمة “مهنَّد” (أي السيف الهندي) الاسم المتداول بمعنى “السيف” عند العرب.
(الحلقة المقبلة: “مقاتل المسيحيين”).
- سليمان الفرزلي هو كاتبٌ وصحافي لبناني ترأّس تحرير صحف عدة في بيروت، منها “الأحرار”، و”الكفاح”، و”بيروت”، و”عالم النفط”، و”الصياد”، وعمل في عدد من الصحف الصادرة في لندن وباريس، منها “الدستور”، و”الحوادث” قبل أن يصدر مطبوعته الخاصة “الميزان” في تسعينيات القرن الماضي. وله أيضًا مؤلّفات أبرزها كتاب سيرته “علامات الدرب” الصادر مطلع العام 2013 عن “اللبنانيون المتحدون للصحافة والنشر” في لندن، و”حروب الناصرية والبعث” الصادر مطلع العام 2016 عن دار “أنطوان هاشيت (نوفل)” في بيروت. وهذه المطبوعات يمكن الاطلاع عليها كاملة على موقعه الإلكتروني: www.sferzli.com
يجب عليك تسجيل الدخول لكتابة تعليق.