فَخُّ البيروقراطية في الكويت
كابي طبراني*
تُواجِهُ الحكومات في مختلف أنحاء العالم ضغوطًا مُتزايدة لتقديمِ المزيدِ بموارد أقلّ، والاستجابةِ بشكلٍ أسرع لاحتياجاتِ المواطنين، وإعادةِ بناءِ الثقة في المؤسّسات العامة. والكويت ليست استثناءً. فمنذ أكثر من عقد، أطلقت هذه الإمارة الخليجية استراتيجياتٍ جريئة وطموحة في إطار “رؤية الكويت 2035″، واعدةً بالتحديث، والتحوُّل الرقمي، وتعزيز مؤسّسات سيادة القانون. كما جرى إعادةُ هيكلة وزارات، وإطلاقُ منصّاتٍ للحكومة الإلكترونية، والإعلانُ عن أهدافٍ كبرى.
ومع ذلك، لا يزالُ الجهازُ الإداري للدولة يعاني من ضعفٍ شديد وقصورٍ كبير في الكفاءة. فإجراءاتُ اتخاذِ القرار بطيئةٌ ومُعقّدة وبالتالي مُرهِقة، وتعملُ الوزارات والدوائر الحكومية في جُزُرٍ معزولة، وأجندات الإصلاح تتكرّر، غالبًا بضجّةٍ إعلامية، ولكن بدونِ تحقيقِ نتائج ملموسة. أما القطاع الخاص، الذي كانَ من المُفتَرَضِ أن يُحفّزهُ الإصلاح، فقد أصابه السَأمُ والإحباط. فالمستثمرون الأجانب مُتردّدون، بينما يتطلّعُ العديدُ من روّاد الأعمال المحلّيين بشكلٍ متزايد إلى الخارج بحثًا عن فُرَص. هذا التناقُض —عصرُ الإصلاح بلا إصلاح— يُمثّلُ التحدّي الأكبر أمام الحَوكَمة في إمارة آل الصباح. فالكويت لا تفتقرُ إلى الطموح أو الموارد، بل إلى نظامٍ يضمَنُ أن تتحوَّلَ الخططُ إلى واقع.
ولا يُمكِنُ الإنكارُ بأنَّ بعضَ التقدُّمِ قد تحقّق. فقد ساعدت منصّة الحكومة الإلكترونية “الساحل” على تبسيطِ الوصول إلى العديدِ من الخدمات، كما إنَّ الأتمتة تشهدُ توسّعًا في وزاراتٍ عدّة. كانت الإصلاحاتُ الأخيرة في مجالِ التراخيص لافتة وواعدة بشكلٍ خاص: ففي الربع الأول من العام 2025، أصدرت الكويت 9,881 ترخيصًا تجاريًا جديدًا، بزيادة 9.4% عن العام الفائت. والأكثر إثارة أنَّ تراخيص العمل الحر والمشروعات الصغيرة ارتفعت بأكثر من 200% بعدما سمحت القوانين الجديدة لـ175 نشاطًا بالعمل بدون الحاجة إلى مكاتب فعلية — عبر إجراءاتٍ رقمية (الإنترنت) بالكامل. هذه الأرقام ليست ثانوية؛ فهي تُظهِرُ أنه عند إزالةِ العقبات والحواجز والاعتماد على الأدوات الرقمية، يرتفعُ مستوى مشاركة المواطنين بسرعة. إصلاحاتٌ مُشابِهة في وزارة التجارة والصناعة، مثل السماح لمكتبٍ واحدٍ بحَملِ تراخيص عدة مع وجودِ ضوابط وضمانات، تؤكّدُ أنَّ المرونةَ التنظيمية يُمكِنُ أن تتعايَشَ مع المُساءَلة.
لكن هذه النجاحات الجُزئية تُسلّط الضوءَ أيضًا على المشكلة الأوسع: الإصلاحُ هو الاستثناء لا القاعدة. فالعديدُ من الإجراءات الحكومية الأخرى -مثل الموافقات على المشتريات، ومنح العقود، وحتى التصاريح الروتينية- لا تزالُ تمتدُّ لأشهر و ربما لسنوات. وتُواصلُ الوزارات جَمعَ كمياتٍ هائلة من البيانات، لكنها نادرًا ما تستخدمها لتقييم الأداء. إنَّ ثقافة الواسطة والنفور أو الخوف من المخاطرة تُعاقِب المبادرة، تاركةً موظفي الخدمة المدنية ذوي التوجُّه الإصلاحي معزولين، والإصلاحات عُرضةً للجمود.
يُساعدُ تاريخُ الكويت على تفسيرِ وتَوضيحِ سبب تَعثُّرِ النوايا الحسنة في كثيرٍ من الأحيان. ففي السنوات التي تلت الاستقلال، كانت الكويت رائدةً في تخطيط الدولة، حيث أنشأت إحدى أقدم هيئات التخطيط في المنطقة. ولكن مع نموِّ عائدات النفط، تحوَّلَ التركيزُ من الأداءِ إلى المحسوبية. كانت الخططُ طويلة الأجل تُصاغُ بانتظام، لكن تنفيذها كان يتعثّرُ مرارًا وتكرارًا. وقد أدّى تَداخُل الاختصاصات، والتفويضات المُجزَّأة، والإرادة السياسية غير المُتَّسِقة، إلى خلقِ حلقةٍ مفرغة من الرؤى بلا تنفيذ. ولا يزالُ هذا النمط قائمًا حتى اليوم. فقد تُطلَقُ المبادرات بحماس، لكنها تفقُدُ زخمها لغياب المراقبة الفورية. وتتراكم التأخيرات، وتختلطُ المسؤوليات وتتشوَّش بين الوزارات، ويُترَكُ المواطنون مُحبَطين. فالمشكلةُ ليست سياسية فحسب، بل هي عملية وتشغيلية أيضًا. وغالبًا ما تفتقرُ خططُ الإصلاح إلى أُطُرٍ واضحة لقياسِ مدى التقدُّم، وتَتَبُّعِ أوجهِ الترابُط بين الهيئات والوكالات الرسمية، أو تحديد المعوّقات. وبدون هذه “المُستشعرات”، غالبًا ما تتعثّرُ الإصلاحات قبل أن تُحقّقَ نتائجَ ملموسة.
وهنا يأتي دورُ التحليلات الحكومية. وفقًا لتعريف منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية والبنك الدولي، فإنَّ التحليلات الحكومية هي الاستخدامُ المُنَظَّم والمُمَنهَج للبيانات الإدارية والاستقصائية وبيانات الأداء، لتوجيه ودَعم عملية صنع القرار. فهي ليست مجرّدَ جَمعِ بيانات، بل تربُطُ المعلومات مباشرةً بالمُساءلة وتوزيع الموارد، وتنفيذ الإصلاحات. لو تبنّت الكويت هذا النهج، لأمكنها اكتشافَ أوجه القصور مُبكرًا، وإعادة هندسة الإجراءات لخفض الهدر، ومتابعة التنفيذ لحظة بلحظة، والاستفادة من ملاحظات الموظفين وآراء المواطنين من خلال استطلاعات الرأي، وإعادة تصميمِ الحوافز بحيث تكافئ الابتكار بدلًا من الجمود.
هذا النموذج أثبت نجاحه في أماكن أخرى. تقومُ سنغافورة بدمج ملاحظات وآراء المواطنين في لوحات معلومات الوكالات الرسمية، مما يُقلّلُ التكرار ويمنع تراكم التراخيص. إستونيا أنشأت بُنية تحتية خاصة تُدعى ” X-Road” التي تسمحُ بتبادُلٍ آمنٍ وفوري للبيانات بين أكثر من 900 مؤسّسة ووكالة، ما قلّصَ أوقات المعاملات بنسبة 80%. أما المملكة المتحدة فتنشرُ لوحاتَ معلومات (dashboards) حول كفاءة الخدمات وقياس الأداء في الوقت الفعلي، مما يُعزّزُ الشفافية والثقة العامة. وبالنسبة إلى الكويت، الدرسُ واضح: التحليلاتُ ليست خيارًا، بل ضرورة. إنها الجسرُ بين إعلان الإصلاح وتنفيذه.
ولكي تُصبِحَ هذه المنهجيةُ جُزءًا من الحَوكمة في الكويت، هناكَ أجندةٌ عملية يُمكِنُ تبنّيها. أوّلًا، إنشاءُ وحدةٍ مركزية للتحليلات تحت مظلة المجلس الأعلى للتخطيط والتنمية أو مكتب رئيس الوزراء، تكونُ لها صلاحية العمل عبر الوزارات وتحديد معايير مَرجَعيِّة ومتابعة التنفيذ والإنجاز. ثانيًا، إجراءُ مسوحٍ واستطلاعاتٍ دورية للموظفين والمواطنين لرَصدِ أوجه القصور والاختناقات داخل الوزارات وقياس أثر الإصلاحات على الحياة اليومية. ثالثًا، إطلاقُ “مختبراتٍ مُصغَّرة للتحليلات” في وزاراتٍ ووكالات رئيسة مثل التجارة والصحّة والجهاز المركزي للمناقصات العامة لتَتَبُّعِ تحسيناتِ الإجراءات آنيًا. رابعًا، تطويرُ لوحات متابعة عامة مُرتبطة برؤية 2035، تجعلُ تقدُّمَ الإصلاح شفّافًا أمام المواطنين. خامسًا، إصلاحُ حَوكمة البيانات وبناءُ كفاءاتٍ تحليلية عبر مساراتٍ وظيفية جديدة وتشريعاتٍ حديثة لحماية البيانات.
هذه التدابير لا تَهدُفُ إلى إنتاجِ المزيد من التقارير، بل إلى جعلِ أداءِ الحكومة قابلًا للقياس والمُساءلة والشفافية. إنها تهدفُ إلى خلقِ حلقةٍ مستمرّة من التشخيص والكشف وإعادة التصميم والتنفيذ والتكيُّف. التحدّي الحقيقي أمام الكويت ليس التحوُّل الرقمي بحدِّ ذاته، بل القدرة على التعلُّم. فالرقمنة بلا تحليلات قد تعني تسريع الإجراءات نفسها غير الفعّالة. أما التحليلات، على النقيض من ذلك، تُلزِمُ الحكومة بالتحسين المستمر، وتُحوّلها إلى “دولةٍ مُتعلِّمة” تُشخّص مشكلاتها بالبيانات، وتُعدِّلُ وتُكيِّفُ سياساتها في الوقت الحقيقي، وتُكافِئ الابتكار بدلًا من التردّد والجمود.
والرهانُ لا يمكنُ أن يكونَ أكبر. فقد دعا أمير البلاد، الشيخ مشعل الأحمد الجابر الصباح، إلى “مرحلةٍ جديدة من الإصلاحات”، وحثَّ على تطوير البنية التحتية، والتعليم، والرعاية الصحية، والانضباط المالي. هذه ليست تطلّعات نظرية بل توجيهات عملية. لكن من دونِ إطارِ حَوكمة قادرٍ على مُتابعة وتتبُّع زخم الإصلاح، ستبقى هذه الطموحات عُرضةً للتبخُّر، ودورةً أخرى من الخطط بدون نتائج .
تقف الكويت اليوم عند مفترق طرق. مقوّماتُ الإصلاح موجودة ومتوفّرة: إرادةٌ سياسية، موارد اقتصادية، وشبابٌ متحمّسٌ يتطلّعُ للتغيير. ما ينقصُ هو نظامٌ يضمَنُ أن تُحقِّقَ الإصلاحاتُ نتائجَ ملموسة. التحليلاتُ الحكومية توفّرُ هذا النظام، إذ تُحوِّلُ الإصلاحَ من سلسلةِ مبادراتٍ متفرّقة إلى دورةٍ مُستمرّة من التحسين قائمة على الأدلّة. كما إنها تخلقُ أدواتَ الاستشعار التي افتقرت إليها الكويت، مما يضمَنُ كشفَ أوجه القصور، وإزالة العوائق، وضمان استدامة التقدّم.
رؤية الكويت 2035 لن تتحقّقَ بالخطط وحدها. ستتحقّقُ عندما تُحاسَب كلُّ وزارةٍ وكلُّ برنامج إصلاحي وكلُّ خدمةٍ تُقدَّمُ إلى المواطنين، على أساسِ الأدلّة والبراهين. أمامَ الكويت خيارٌ صعبٌ وواضح: إمّا البقاء في دوّامةِ الإصلاح بلا إصلاح، أو تبنّي التحليلات الحكومية وتحويل الرؤية إلى واقعٍ وأفعال.
- كابي طبراني هو ناشر ورئيس تحرير مجلة وموقع “أسواق العرب” الصادرَين من لندن. ألّف خمسة كتب بالعربية والإنكليزية من بينها “شتاء الغضب في الخليج” (1991)، “الصراع الإسرائيلي-الفلسطيني: من وعد بلفور إلى إعلان بوش” (2008)؛ “كيف تُخطّط إيران لمواجهة أميركا والهَيمَنة على الشرق الأوسط” (2008)؛ و”معاقل الجهاد الجديدة: لماذا فشل الغرب في احتواء الأصولية الإسلامية”، (2011). يُمكن متابعته عبر موقعه الإلكتروني: gabarielgtabarani.com أو عبر منصة “إكس” على: @GabyTabarani