بالنسبة إلى تركيا، الشرقُ الأوسط “الجديد” مَدعاةٌ للقلق
في حين أنَّ محاولات أنقرة لإعادةِ ضبط العلاقات مع واشنطن قد تكون مبدئية وتجارية، إلّا أنها تعكسُ إدراكًا أوسع بأنَّ “لحظة ما بعد أميركا” التي توقّعها العديد من المراقبين الإقليميين منذ فترة طويلة قد لا تتحقّق – على الأقل ليس بعد.

سِينَم أدار*
عندما شنّت إسرائيل هجماتها على إيران في الشهر الفائت، سارعت تركيا، شأنها شأن العديد من الجهات الفاعلة الإقليمية الأخرى، إلى إدانةِ هذه الضربات باعتبارها انتهاكًا للقانون الدولي. كانت لدى أنقرة أسبابٌ كافية للقلق بشأن عواقب التصعيد بين إسرائيل وإيران، بما فيها ارتفاع أسعار النفط وسط الصعوبات الاقتصادية المحلية، واحتمال موجة جديدة من الهجرة، وخطر تمرّدٍ كردي متزايد، في وقتٍ تسعى حكومة الرئيس رجب طيب أردوغان بحذر إلى التوصُّل إلى اتفاق سلام مع حزب العمال الكردستاني. وعندما شنّت الولايات المتحدة غاراتها الجوية على المنشآت النووية الإيرانية، أصبحت الصعوبة الاستراتيجية في التعامل مع مواجهة مباشرة بين أميركا وإيران سببًا إضافيًا للقلق.
مع ذلك، لم تكن المخاطر الأمنية والاقتصادية المباشرة لحرب إسرائيلية-إيرانية هي المخاوف الوحيدة، وكنتيجة، لا تزال أنقرة تشعرُ بالقلق على الرُغم من أنَّ خطرَ التصعيد قد خفّت حدّته في الوقت الحالي، كما يبدو. على وجه الخصوص، لا تنظرُ تركيا إلى الضربات الجوية الإسرائيلية على أنها حدثٌ معزول، بل كجُزءٍ من استراتيجية إسرائيل الأوسع لإعادة تشكيل النظام الإقليمي في أعقاب هجوم “حماس” في 7 تشرين الأول (أكتوبر) 2023. وفي حديثه أثناء تَوَجُّهِهِ إلى قمة حلف شمال الأطلسي (الناتو) الشهر الماضي، وصف أردوغان سلوكَ إسرائيل منذ ذلك الحين بأنه “مُتَهوِّرٌ”، مُتَّهمًا إياها باتباعِ “استراتيجيةٍ مُزعزِعة للاستقرار” في فلسطين ولبنان وسوريا واليمن، والآن إيران. ويتردّد صدى هذا الرأي لدى معظم الطيف السياسي التركي.
في قراءةِ أنقرة، يبدو أنَّ الديناميكيات الإقليمية المُتغيِّرة بسرعة تؤدّي حتمًا إلى ثلاث نتائج تجدها غير مرغوب فيها: تطبيعُ مَبدَإِ “القوّة تصنعُ الحق”، وصعودُ إسرائيل إلى الهيمنة الإقليمية، والنهاية الواضحة للتعدُّدية القطبية في الشرق الأوسط. وبناءً على ذلك، واستجابةً للتطوّرات الأخيرة، أكدت تركيا خطابيًا على تفضيلها الديبلوماسية على القوّة العسكرية، مع تكثيفِ استثماراتها في صناعة الدفاع، وتعزيز التعاون مع الدول العربية -وخصوصًا المملكة العربية السعودية- والتودُّد إلى إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب.
القوّة الصلبة تتفوَّق على القوة الناعمة
عندما شنّت الولايات المتحدة غاراتٍ جوية وصاروخية على ثلاثة مواقع نووية إيرانية بعد تسعة أيام من بدء الصراع الإسرائيلي-الإيراني، احتفلَ رئيس الوزراء الإسرائيلي نتنياهو بالهجوم باعتباره استعراضًا ل”السلام من خلال القوة”. وجاءت الغارات الجوية الإسرائيلية على المنشآت النووية والعسكرية الرئيسة لإيران، بالإضافة إلى اغتيال كبار قادتها العسكريين وعلمائها النوويين، عقب انتهاء مهلة الستين يومًا التي حددها ترامب لطهران للتوصُّل إلى اتفاقٍ تفاوضي مع الولايات المتحدة بشأنِ برنامجها النووي. وسواء كان القرار الإسرائيلي مُنَسَّقًا بشكلٍ مباشر مع واشنطن أم لا، فإنَّ الهجمات الإسرائيلية والأميركية -وخطاب نتنياهو الذي أشاد بترامب لتنفيذه الأخير- يُبرزُ ديناميكيةً مُقلقة: تجدُّد الحرب، أو تهديدها الحقيقي، كأداةٍ رئيسة لحلِّ النزاعات الإقليمية وتحقيق المصالح الوطنية في الشرق الأوسط اليوم.
على الرُغم من قلقها إزاء تبنّي إسرائيل لهذا النهج، فإنَّ تركيا تفهمه جيدًا، كما يَتّضحُ من توغّلاتها العسكرية في شمال سوريا لعرقلة الحكم الذاتي الكردي تحت حكم قوات سوريا الديموقراطية (قسد)، التي تعتبرها أنقرة تابعة لحزب العمال الكردستاني. ويمكن أيضًا النظر في تهديداتها المُبَطَّنة لليونان بشأنِ عسكرة أثينا غير القانونية المزعومة لجزر بحر إيجة، وكذلك سياسة حافة الهاوية التي تنتهجها تركيا في شرق البحر الأبيض المتوسط بشكلٍ عام، في هذا الضوء.
في الواقع، غالبًا ما يكونُ التزامُ تركيا بالقانون الدولي انتقائيًا. ففي الحالات التي تكون فيها السُبُلُ الديبلوماسية محدودة أو يُنظَرُ إليها على أنها غير فعّالة، تميلُ أنقرة إلى اعتبارِ نشرِ القوة العسكرية ليس مشروعًا فحسب، بل ضروريٌّ، حتى لو لم يكن قانونيًا. وينطبقُ هذا بشكلٍ خاص عند مُواجهةِ جهّاتٍ فاعلة من غير الدول أو دول ضعيفة ومُجَزَّأة. وفي هذا السياق، فإنَّ تركيز أنقرة على الديبلوماسية وجهودها للتوسّط بين إسرائيل و”حماس” وكذلك بين إسرائيل وإيران هي استجابات تكتيكية للتعامل مع منطقة عادت فيها الحرب بين الدول الآن ويُعتبر سباق التسلح النووي احتمالًا حقيقيًا.
صعودُ إسرائيل نحو الهَيمنة الإقليمية
ترى تركيا أنَّ هيمنةَ إسرائيل العسكرية والاستخباراتية المُتنامية تُمثّلُ تحدّيًا لتطلُّعاتها إلى النفوذ الإقليمي. ولذلك، أبدت عزمَها على تضييق هذه الفجوة في القدرات، من خلالِ إجراءاتٍ تشملُ إعلان أردوغان الأخير عن خططٍ لتعزيز الإنتاج المحلّي للصواريخ متوسطة وطويلة المدى؛ وتشريع الأمن السيبراني الذي صدر في آذار (مارس) 2025، والذي ذكره لأول مرة وزير الخارجية هاكان فيدان بعد وقتٍ قصير من هجوم إسرائيل الصاروخي على “حزب الله” في أيلول (سبتمبر) 2024؛ وتطوير نظام الدفاع الجوي التركي “القبّة الفولاذية”، المُستوحى من القبة الحديدية الإسرائيلية.
إلى جانب هذه الجهود، تسعى القيادة التركية إلى العودة إلى برنامج طائرات “أف-35” الذي تقوده الولايات المتحدة، والذي استُبعِدَت منه في العام 2019 بسبب شرائها نظام الدفاع الجوي الصاروخي الروسي “أس-400”. كما أعربت أنقرة عن اهتمامها بشراء ما يصل إلى 40 مقاتلة من طراز “يوروفايتر تايفون”. في غضون ذلك، تواصل تركيا تطوير طائرتها المقاتلة الشبحية من الجيل الخامس المعروفة باسم “KAAN”، وهو مشروعٌ بدأته في العام 2016، على الرُغم من مواجهتها صعوبات في الحصول على محرّكات لهذه الطائرة.
تخدُمُ هذه المبادرات الرامية إلى تطويرِ قاعدةٍ صناعية دفاعية محلّية هدفًا محلّيًا مهمًّا، إذ أصبحت القوميّة التقنية مصدرًا رئيسًا لشرعية النُخَب الحاكمة في تركيا في السنوات الأخيرة. ومع مُعاناة الاقتصاد التركي وتراجُعِ الدَعمِ الشعبي للائتلاف الحاكم، يُسهِمُ التركيزُ على الدفاع والاكتفاء الذاتي التكنولوجي في تحفيز المشاعر القومية.
لكن مخاوف تركيا تتجاوز السياسة الداخلية. إذ تشعرُ أنقرة بالتهديد من جهود إسرائيل لترسيخِ نظامٍ أمني إقليمي على حسابها، لا سيما في شرق البحر الأبيض المتوسط. وقد طفت التوترات على السطح بشأن سوريا، حيث استهدفت الغارات الإسرائيلية مواقع أفادت التقارير أنَّ تركيا كانت تتطلّعُ إليها لنشر قواتها كجُزءٍ من بُنيتها الأمنية لما بعد الحرب. رُغمَ العلاقات الاقتصادية والدفاعية والأمنية الوثيقة التي كانت تربطهما سابقًا، إلّا أنَّ إسرائيل تنظرُ الآن إلى تركيا ليس فقط كشريكٍ غير موثوق، بل كطرفٍ خبيث أيضًا بسبب دعم أنقرة لحركة “حماس” وجماعة “الإخوان المسلمين”. من جانبها، تواصل تركيا تعزيز تعاونها مع الدول العربية والخليجية، وخصوصًا المملكة العربية السعودية، في إطار إعادة ترتيب أولويات سياستها الخارجية في ظلِّ ضعف إيران واستمرار غيابِ حلٍّ للصراع الإسرائيلي-الفلسطيني.
نظام إقليمي ما بَعدَ أميركا؟
في الوقت نفسه، تشعر أنقرة بالإحباط مما تعتبره إفلاتًا شبه كامل لإسرائيل من العقاب، مدعومًا بما وصفه أردوغان بـ”الدعم الغربي الثابت”، عسكريًا وديبلوماسيًا. ومن المرجح أن يكونَ تدخُّلُ واشنطن عسكريًا الآن دفاعًا عن المصالح الإسرائيلية بشنّها غارات جوية على إيران مصدر غيرة وحسد، إن لم يكن إعجابًا متردّدًا، في أنقرة. وكثيرًا ما يشكو صانعو السياسات الأتراك من عدم قدرتهم على الاعتماد على مستوى مماثل من الدعم الأميركي لأولويات تركيا الأمنية، بدءًا من دعم واشنطن ل”قسد” في سوريا وتوطيد علاقاتها الدفاعية مع اليونان وجمهورية قبرص، ووصولًا إلى العقوبات الأميركية وحظر الأسلحة المفروض على تركيا.
مع تدهور علاقاتها مع الولايات المتحدة على مدى العقد الماضي، سعت أنقرة إلى توثيق علاقاتها مع روسيا وإيران، مستغلةً المساحة الاستراتيجية التي أتاحها تصورٌ للانكفاء الغربي. في تلك الفترة، أصبحت معاداة الغرب، وخصوصًاً معاداة أميركا، ركيزةً أساسيةً في خطاب السياسة الداخلية والخارجية لتركيا.
ومع ذلك، فإنَّ الضعفَ التدريجي لإيران منذ 7 تشرين الأول (أكتوبر)، بالإضافة إلى انشغال روسيا بالحرب في أوكرانيا، دفعا أنقرة إلى إعادة تقييم نهجها بهدوء. حتى قبل التصعيد الأخير بين إسرائيل وإيران، كانت تركيا بدأت بالفعل الإشارة إلى استعدادها لإصلاح العلاقات مع واشنطن، بدافع الضرورة الاقتصادية أساسًا، ولكن أيضًا بسبب الفجوات التكنولوجية في صناعتها الدفاعية وحاجتها إلى كسر عزلتها الإقليمية. ورُغمَ غيابِ أيِّ إعادةِ ضبطٍ جيوسياسية في العلاقات الثنائية منذ عودة ترامب إلى البيت الأبيض، إلّا أنَّ أنقرة قد يكون لها ما يبرّرُ افتراضها أنَّ ولاية ترامب الثانية تُتيحُ فرصةً لفتح صفحةٍ جديدة.
في مقابلةٍ حديثة مع وكالة الأناضول التركية الرسمية للأنباء، أشار توم برّاك، السفير الأميركي لدى تركيا والمبعوث الخاص لترامب إلى سوريا، إلى أنَّ واشنطن وأنقرة مُلتزمتان، ولأول مرة، بأن تكونا شريكتَين “ليس فقط في الدفاع، بل في الهجوم أيضًا”. ووصفَ برّاك تركيا بأنها “مفتاح الطريق الجديد” الذي يجب بناؤه في المنطقة بعد التصعيد الأخير بين إيران وإسرائيل. وأضافَ أنَّ تحقيق ذلك يتطلّبُ وقفَ إطلاق النار في غزة، والعودة إلى اتفاقيات أبراهام -التي يُفضّل أن تشملَ سوريا أيضًا- وتحسين العلاقات الإسرائيلية-التركية من خلالِ حلِّ ما وصفه بـ”سوء فهم الرغبات الإقليمية”.
في حين أن محاولات أنقرة لإعادة ضبط العلاقات مع واشنطن قد تكون مبدئية وتجارية، إلّا أنها تعكس إدراكًا أوسع بأنَّ “لحظة ما بعد أميركا” التي توقّعها العديد من المراقبين الإقليميين منذ فترة طويلة قد لا تتحقّق – على الأقل ليس بعد. إنَّ رد الفعل التركي الخافت نسبيًا على الضربات الأميركية على المنشآت النووية الإيرانية يؤكّدُ الإدراكَ بأنَّ تطلّعات أنقرة إلى النفوذ الإقليمي، في وقت يشهد تنافسًا محتدمًا مع إسرائيل، تتطلّبُ دَعمَ واشنطن في سوريا وأماكن أخرى.
إنَّ كلَّ هذه العوامل ستدفعُ عملية صنع القرار في تركيا التي تعمل وتسعى راهنًا إلى التعامُل مع المشهدِ الجديد والمُتغيِّر في الشرق الأوسط.
- سِينَم أدار هي باحثة مشاركة في مركز الدراسات التطبيقية التركية في المعهد الألماني للشؤون الدولية والأمنية. تعمل على التحوُّل السياسي في تركيا وتشابكاته مع السياسة الخارجية والأمنية التركية.
- كُتِبَ هذا المقال بالإنكليزية وترجمه إلى العربية قسم الدراسات والأبحاث في “أسواق العرب”.
يجب عليك تسجيل الدخول لكتابة تعليق.