مِن لا غِنى عنها إلى لا تُطاق: كيفَ تَخسَرُ أميركا العالم

كابي طبراني*

على الرُغمِ من عودةِ نفوذها بشكلٍ كبير إلى الشرق الأوسط من خلال الصراعِ الأخير بين إسرائيل وإيران (ووكلائها) والظهور بأنَّ لها الكلمة الفصل في المنطقة، فإنَّ الواقعَ الدولي بالنسبة إلى الولايات المتحدة يشي بغيرِ ذلك تمامًا.

لقد اعتلى دونالد ترامب السلطة بتصويره الولايات المتحدة كأُمّةٍ في حالةِ تراجُع – ضعيفة، لا تحظى بالاحترام، خانها الحلفاء واستغلّها الشركاء. ومع ذلك، وفي تناقُضٍ صارخ، افترضت سياسته الخارجية أنَّ العالمَ لا يزالُ يدورُ حول الهيمنة الأميركية، وأنَّ الحلفاءَ والخصومَ على حدٍّ سواء سيستمرّون في الخضوع لإرادة واشنطن.

هذا الوَهمُ بدأ ينهارُ بسرعة. لم تُنفِّر أجندةُ ترامب “أميركا أوّلًا” الحلفاء فحسب؛ بل قضت على الأساس التعاوني للقوة الأميركية. والآن، تواجه الولايات المتحدة واقعًا جديدًا مُقلقًا: قد لا يحتاجُ العالم -أو يرغب- في القيادة الأميركية بعد الآن.

لعقود، لم يُبنَ نفوذُ الولايات المتحدة على القوة العسكرية أو الاقتصادية فحسب، بل على نظامٍ دولي، أُرسِيَ بعد الحرب العالمية الثانية، مُتَجذِّرٍ في التحالفات والتجارة والثقة. لم تَحكُم الولايات المتحدة بالإكراه وحده – بل دعت إلى التعاون، وقدّمت ضمانات أمنية، وقادت بالقدوة. وفي المقابل، قامَ الحلفاء بمحاذاة مصالحهم مع مصالح واشنطن، وعزّزوا القوة الأميركية على الساحة العالمية.

مع ذلك، رفضَ فريقُ السياسة الخارجية لترامب هذا النموذج ووصفه بالسذاجة. سعى هذا الفريق إلى إجبار الحلفاء على الاستسلام، وتسليح التجارة، والانسحاب من المؤسسات الدولية، ومعاقبة الشركاء العالميين على ما يراه إهانات. لقد تصرَّفَ كما لو أنَّ التعاونَ ضعفٌ، وكأن الخوفَ خيرٌ من الاحترام.

إنه سوءُ تقديرٍ استراتيجي ذو عواقب بعيدة المدى.

في جميع أنحاء أوروبا، تتراجع الثقة بالولايات المتحدة بشكلٍ حاد. في استطلاعٍ للرأيِ حديث، وصفت غالبية الأوروبيين (60%) ترامب بأنه عدوٌ صريح. حتى المستشار الألماني المحافظ، فريدريش ميرتس، أعلن أنَّ على أوروبا أن تتّجهَ نحو الاستقلال عن الولايات المتحدة – وهو شعورٌ لم يَكُن ليخطر على بال قبل سنوات قليلة.

في غضون ذلك، يأخذ شركاء أميركا في آسيا من جهتهم حذرهم. عقدت اليابان وكوريا الجنوبية، وهما ركيزتان أساسيتان في استراتيجية أميركا في المحيط الهادئ، قمّةً مشتركة أخيرًا مع الصين لاستكشافِ علاقاتٍ تجارية أعمق. هذا ليس تحدّيًا؛ إنه تكيُّف. في عالمٍ تنغلق فيه واشنطن على ذاتها، بدأت الدولُ إعادةَ صياغة النظام العالمي بدون قيادةٍ أميركية.

يُجادِلُ المدافعون عن ترامب بأنَّ هيمنةَ أميركا راسخةٌ لدرجةٍ يصعب معها تآكلها – وأنَّ الحلفاء قد يتذمّرون، لكنهم في النهاية لا يملكون بديلًا أفضل. لكنَّ التاريخَ لا يُقدِّمُ الكثيرَ من العزاء. فالقوى العظمى غالبًا ما تسقط ليس بسبب الغزو، بل بسببِ سوءِ تقديرِ ردِّ فعلِ العالم على غطرستها.

وأميركا، على الرُغم من نقاطِ قوّتها، فإنَّ مزاياها تُستَنزَفُ وتتآكل. لقد قلبت سياساتُ ترامب التجارية الفوضوية الأسواقَ رأسًا على عقب. وهزّت هجماته على استقلال المحاكم والجامعات والهيئات التنظيمية ثقة المستثمرين. وأدّى ازدراءُ إدارته للديبلوماسية إلى إضعاف نفوذ أميركا في المؤسسات العالمية مثل صندوق النقد الدولي والبنك الدولي ومنظمة التجارة العالمية.

ولعلَّ الأخطرَ من ذلك كله، أنَّ سياسةَ ترامب الخارجية تُقوّضُ التحالفات العسكرية الأميركية. فقدرة أميركا على إبراز قوّتها عالميًا تعتمدُ على شبكةٍ من القواعد العسكرية، وتبادُلِ المعلومات الاستخباراتية، والتنسيق العملياتي – وهي أمورٌ لا يُمكن لأيٍّ منها أن يعمل بدون ثقة الحلفاء وتعاونهم. إلّا أنَّ هذه الثقة آخذة في التآكل والتبخُّر.

قد تتردّدُ الجيوش الأجنبية قريبًا في شراء الأسلحة الأميركية خوفًا من أن تُقيّدَ واشنطن استخدامها. وقد تتردّدُ الحكومات في تبادُلِ المعلومات الاستخباراتية إذا اشتبهت في إساءة استخدام هذه المعلومات. وفي الأزمات، قد لا يستجيبُ الحلفاء بالتضامُن نفسه الذي تمتّعت به الولايات المتحدة سابقًا – كما حدث بعد هجمات الحادي عشر من أيلول (سبتمبر) 2001.

حتى الدولار، الذي لطالما مَثّلَ حجرَ الأساس للتفوُّق الاقتصادي الأميركي، قد يُواجِهُ تهديداتٍ طويلة الأمد (راجع “أسواق العرب” 18/6/2025). فإذا رأى المستثمرون الأجانب أنَّ الولايات المتحدة غير مُستَقرّة أو مُتقلّبة، فقد يَبدَؤون تحويلَ احتياطاتهم واستثماراتهم إلى أماكن أخرى، مما يَستنزِفُ ببطء قدرة أميركا على تحمّلِ عجزها المالي ونموّها المُغذَّى بالديون.

هذا التفكّك لا يحدثُ لأنَّ العالمَ يُفضّلُ الصين أو روسيا. بل يحدثُ لأنَّ الولايات المتحدة، في عهد ترامب، أصبحت شيئًا لم تكن عليه من قبل: غير موثوقة، وغير مبالية، ومتقلّبة. حلفاء الولايات المتحدة لا يحتاجون إلى الكمال – بل يحتاجون إلى الاتساق. ترامب لا يُقدّم أيًا منهما.

والأهمُّ من ذلك، أنَّ هذا التحوُّل قد لا يكون قابلًا للعكس. فالنظام الدولي ليس مفتاحَ إضاءةٍ يُمكِنُ لأميركا تشغيله وإيقافه متى شاءت. فالحلفاء يبنون بالفعل روابطَ جديدة ويُخطّطون لمستقبلٍ تكون فيه القيادة الأميركية اختيارية، وليست محورية. وحتى لو سعت إدارةٌ مستقبلية إلى إعادةِ بناءِ المصداقية الأميركية، فإنَّ بعضَ الضرر سيكون موجودًا دائمًا.

إنَّ نسخةَ ترامب من القوة -الرسوم الجمركية، والإهانات، والأحادية- تُثبتُ أنها خارطةُ طريقٍ للضُعف. لا يخشى العالم هذه الأميركا الجديدة. بل يستعدُّ بشكلٍ متزايد للمضي قدمًا بدونها.

كانت الولايات المتحدة في يوم من الأيام لا غنى عنها. أما في عهد ترامب، فهي مُعرَّضة لأن تصبح غير ذات صلة.

  • كابي طبراني هو ناشر ورئيس تحرير مجلة وموقع “أسواق العرب” الصادرَين من لندن. ألّف خمسة كتب بالعربية والإنكليزية من بينها “شتاء الغضب في الخليج” (1991)، “الصراع الإسرائيلي-الفلسطيني: من وعد بلفور إلى إعلان بوش” (2008)؛ “كيف تُخطّط إيران لمواجهة أميركا والهَيمَنة على الشرق الأوسط” (2008)؛ و”معاقل الجهاد الجديدة: لماذا فشل الغرب في احتواء الأصولية الإسلامية”، (2011). يُمكن متابعته عبر موقعه الإلكتروني: gabarielgtabarani.com أو عبر منصة “إكس” على:  @GabyTabarani

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى