لحظَةُ الحقيقة لأوروبا في الشرقِ الأوسط
كابي طبراني*
في حين تُحاصَرُ غزة بالحرب والجوع والمُعاناة، وتنتشر التوترات في منطقة الشرق الأوسط بسبب المسألة الفلسطينية، كان آخرُها حرب ال12 يومًا بين إيران وإسرائيل، لا يَسَع أوروبا أن تبقى مُتفرِّجة. على الاتحاد الأوروبي، الذي طالما كان طرفًا هامشيًا في الصراع الإسرائيلي-الفلسطيني، أن يَخرُجَ من الظلّ ويتولّى دورًا أكثر حزمًا والتزامًا بالمبادئ في صياغة السلام. ليس فقط من بابِ الالتزامِ الأخلاقي، بل من بابِ المصلحةِ الذاتية أيضًا.
لعقود، تَعامَلَ الاتحادُ الأوروبي مع هذا الصراع على أنه لغزٌ مُعقّد يُفضِّلُ تركه للولايات المتحدة والجهات الفاعلة الإقليمية. لكن بفعله هذا، فَقَدَ نفوذه الكبير – إقتصاديًا وديبلوماسيًا وأخلاقيًا. هذا الانفصال أو الابتعاد ليس حيادًا، بل تنازُلًا عن المسؤولية.
لقد حانَ الوقتُ لأوروبا لتتحمّلَ مسؤوليتها الفريدة في المنطقة. لقد مهّدت قرونٌ من الاستغلال الاستعماري، وانتشار الإيديولوجيات المُعادية لليهود في أوروبا التي أدّت إلى المحرقة (أو الهولوكوست)، والتواطؤ في تقسيم الشرق الأوسط بعد سقوط الإمبراطورية العثمانية، الطريقَ لمآسي اليوم. كان للقوى الأوروبية دورٌ محوريٌّ في خلق الوعد بإقامة الدولة الفلسطينية وخيانتها، تمامًا كما كان لها دورٌ محوريٌّ في تهيئة الظروف التي دفعت اليهود إلى البحث عن الأمان في وطنٍ خاصٍّ بهم على حساب شعبٍ تمَّ تهجيره بدون رحمة. لا يُمكِنُ لأوروبا أن تدّعي دَعمَ حقوق الإنسان والسلام والقانون الدولي بينما تقف على الحياد في أكثرِ صراعات العالم ديمومةً وتداعياتٍ.
يجب على أوروبا أن تُدرِكَ أنَّ أمنَ إسرائيل وحقّ الفلسطينيين في تقرير المصير ليسا هدفَين مُتعارضين. فكلاهما ركيزتان أساسيتان لأيِّ سلامٍ مُستدام. وهذا يتطلّبُ مواجهةَ ليس فقط “حماس” وما فعلت أخيرًا في 7 تشرين الأول (نوفمبر) 2023، بل أيضًا انتهاكات إسرائيل المستمرّة للقانون الدولي – بما في ذلك ما تفعله في غزة من جرائم ضد الإنسانية، والتوسُّع الاستيطاني غير القانوني في الضفة الغربية المحتلة، والقوة العسكرية غير المتناسبة ضد الفلسطينيين العُزَّل، وتدمير البنية التحتية المُموَّلة من الاتحاد الأوروبي.
يجب أن تكونَ الخطوة الأولى لأوروبا داخلية: التغلُّب على تشرذمها وانقساماتها. بعضُ أعضاءِ الاتحاد الأوروبي يدعمُ التحقيقات التي تُجريها المحكمة الجنائية الدولية، بينما يُعرقِلُ آخرون تنفيذَ أوامرها وقراراتها. يدعمُ البعضُ الاعتراف بدولةٍ فلسطينية، بينما يتردّد آخرون. هذا الانقسامُ ليس مجرّدَ خلافٍ بيروقراطي، بل هو عجزٌ جيوسياسي.
ينبغي على الاتحاد الأوروبي اعتمادَ التصويت بالغالبية المؤهّلة على قرارات السياسة الخارجية الرئيسة. وإذا تعذّرَ التوصُّلُ إلى توافُقٍ في الآراء، فيجب على تحالُفٍ من الدول الأعضاء الراغبة في ذلك أن يتقدّمَ ويُمارِسَ أدواتَ سياسةِ العمل الخارجي للاتحاد الأوروبي. إنَّ شللَ أوروبا ليس مجرّدَ فشلٍ في العملية؛ بل هو خيانةٌ للمبادئ.
ثانيًا، يجب على الاتحاد الأوروبي الاستفادة من نفوذه الكبير. إنه أكبرُ شريكٍ تجاري لإسرائيل، وأكبرُ مانحٍ للسلطة الفلسطينية، وداعمٌ دائم للديبلوماسية متعددة الأطراف. ومع ذلك، نادرًا ما يُطبّقُ الشروطَ والقواعدَ التي يضعها. لقد عاقبَ الاتحاد الأوروبي، عن حق، العدوان الروسي، لكنه يتقاعس عن التصرّف عندما يقترف الجيش الإسرائيلي إبادة جماعية في غزة وتُخالف المستوطنات الإسرائيلية في الضفة الغربية القانون الدولي. هذا المعيارُ المُزدوج يُقوِّضُ مصداقية أوروبا ويُشجّع المُتشددّين من كلا الجانبين.
ينبغي على أوروبا إعادة النظر في اتفاقية الشراكة مع إسرائيل. إنَّ المعاهدة تربُطُ صراحةً المزايا التجارية التفضيلية باحترام حقوق الإنسان. وعندما تُنتَهَكُ هذه الحقوق بشكلٍ مُمَنهَج، ينبغي أن تُنتَهَكَ وتُلغى المزايا أيضًا. لا يتعلّقُ الأمرُ بمعاقبة إسرائيل على أفعالها فحسب، بل بالدفاع عن سلامة القانون الدولي.
يجب أن يكونَ الاعترافُ بالدولة الفلسطينية جُزءًا من استراتيجية الاتحاد الأوروبي المُتجدّدة. وقد فعلت ذلك أربع عشرة دولة عضو. ويجب على بقية الدول، بما في ذلك قوى كبرى مثل فرنسا وألمانيا (وبريطانيا)، أن تحذو حذوها. فالاعترافُ ليس مكافأة على عنف “حماس” أو معاقبة المُتطرّفين في إسرائيل؛ بل هو شرطٌ أساسي لديبلوماسية جادة. ولا يُمكِنُ لأوروبا أن تُساعِدَ على تحويل الديناميكيات السياسية بعيدًا من التطرُّف إلّا من خلال تمكين الأصوات المعتدلة.
يجب على الاتحاد الأوروبي أيضًا أن يَدعَمَ الإصلاحَ الديموقراطي الفلسطيني. فالسلطة الفلسطينية مُتضَخِّمة، ومُبهَمة، وتَفقُدُ شرعيتها بشكلٍ متزايد في نظر شعبها. يجب أن يسيرَ دعمُ المُساءلة والشفافية والمجتمع المدني جنبًا إلى جنب مع الديبلوماسية الخارجية. فالشبابُ الفلسطيني، الذي طالما خاب أمله في قيادته، يستحقُّ مستقبلًا أفضل، ولأوروبا دورٌ في تمكينه.
في ما يتعلق بغزة، ينبغي لأوروبا دعم إنشاء سلطة انتقالية دولية تُكلَّف بتحقيق الاستقرار وإعادة إعمار القطاع. واستنادًا إلى تجاربها في مرحلة ما بعد الصراع، يمكن لأوروبا قيادة جهود إعادة الإعمار المستدامة وإصلاح الحكم – وهي جهودٌ تضعُ سكان غزة في صميم تعافيهم.
علاوةً على ذلك، يجب على أوروبا أن تدعمَ علنًا الصحافة المستقلة، وأن ترفضَ مساعي قمع التحقيقات والتقارير. إنَّ التعتيمَ الإعلامي الذي تمارسه الحكومة الإسرائيلية المتطرّفة، وقمع” حماس” للمعارضة، وجهان لعملة خطيرة. يجب السماح للصحافيين بأداءِ عملهم، وحماية آليات العدالة الدولية من الترهيب والتسييس.
كما يجب مواجهة التضليل الرقمي وخطاب الكراهية على الإنترنت بقوة تنظيمية. يوفر قانون الخدمات الرقمية للاتحاد الأوروبي بالفعل إطارًا للشفافية والرقابة، ويجب تطبيقه الآن بقوة، لا سيما وأنَّ التحريض ونظريات المؤامرة تؤجّجُ العنفَ في شوارع أوروبا نفسها.
وقبل كل شيء، يجب على أوروبا أن تتصرّفَ أخيرًا كفاعلٍ جيوسياسي حقيقي. إنَّ تجاربها في بناء السلام، والحوكمة الانتقالية، والمصالحة -من ألمانيا ما بعد الحرب العالمية الثانية إلى البلقان- تجعلها مؤهّلة بشكلٍ فريد للقيادة. يمتلك الاتحاد الأوروبي المؤسّسات، ولديه الوسائل، لكن ما ينقصه هو الإرادة.
هذه هي لحظة الحقيقة بالنسبة إلى أوروبا. فإمّا أن تنهضَ لمواجهة تحدّيات ماضيها وحاضرها، أو أن تُواصِلَ المراقبة على الهامش، بلا مبالاة، بينما يُشَكّلُ الآخرون مُستقبلَ جوارها.
قد يبدو الصراع الإسرائيلي-الفلسطيني مستعصيًا على الحل. لكن هذا ما كانت عليه القارة الأوروبية المُجَزَّأة والمُنقسمة والمنهَكة التي مزّقتها الحرب. لم يأتِ السلام من الانتظار، بل من الخيارات الجريئة والوضوح الأخلاقي. يجب على أوروبا الآن أن تُوسِّعَ نطاقَ هذه الرؤية نفسها خارج حدودها.
- كابي طبراني هو ناشر ورئيس تحرير مجلة وموقع “أسواق العرب” الصادرَين من لندن. ألّف خمسة كتب بالعربية والإنكليزية من بينها “شتاء الغضب في الخليج” (1991)، “الصراع الإسرائيلي-الفلسطيني: من وعد بلفور إلى إعلان بوش” (2008)؛ “كيف تُخطّط إيران لمواجهة أميركا والهَيمَنة على الشرق الأوسط” (2008)؛ و”معاقل الجهاد الجديدة: لماذا فشل الغرب في احتواء الأصولية الإسلامية”، (2011). يُمكن متابعته عبر موقعه الإلكتروني: gabarielgtabarani.com أو عبر منصة “إكس” على: @GabyTabarani