هل تُدَمِّرُ أميركا الاقتصادَ العالمي؟
يُواجِهُ العالمُ حالةً من انعدام الأمن وعدم اليقين. هناك القليل من المبادئ والقواعد والمؤسسات التي يمكن للمسؤولين والمستثمرين الاعتماد عليها. الاقتصاد الأميركي أصبح أقل استقرارًا، وواشنطن أقل مشاركة في تنسيق السياسات العالمية. بعد ما يقرب من 80 عامًا، يواجه النظام التجاري العالمي خطر التفكك. لا توجد رهاناتٌ أكيدة على المستقبل.

محمد العريان*
يعيشُ الاقتصاد العالمي، بعبارةٍ مُلَطَّفة، حالةً من التقلُّب. قبل الانتخابات الأميركية الأخيرة، كان يعاني بالفعل من صدماتٍ جيوسياسية وآفاق ابتكارات تكنولوجية تحويلية. لكنه الآن، عليه أيضًا أن يتحمّلَ قدرًا كبيرًا غير مُعتاد من التقلُّبات السياسية من أقوى دولة في العالم. وكانت النتيجة تقلُّبات حادة، ليس فقط للسندات والأسهم، بل أيضًا للمُتنَبِّئين والخبراء الاقتصاديين وصنّاع السياسات.
على مستوى أعمق، أثارت هذه الاضطرابات تساؤلات حول السردياتِ المُجمَعِ عليها حول الولايات المتحدة. لقد تلاشت الافتراضات الراسخة التي تُشكّلُ أساسَ خيارات الأُسَر والشركات والمستثمرين. وأصبحت القواعد العامة أقل فائدة بكثير. وتراجعت مقاييس ثقة المستهلك والمُنتِج بشكلٍ حاد. في غضون ذلك، ارتفعت توقّعات التضخُّم إلى مستوياتٍ لم تشهدها البلاد منذ العام 1981.
وسط هذه الحالة العميقة من عدم اليقين، واجه المتنبئون والخبراء صعوبةً بالغة في التنبؤ بالمستقبل الذي سيؤول إليه الاقتصاد الأميركي في نهاية المطاف. لكن هناك رؤيتين رئيسيتين تُشكّلان مجموعةً مُتفرِّقة وغير مستقرّة من التوقعات الفردية. في السيناريو الأول، تسير الولايات المتحدة في رحلةٍ وَعرةٍ ستُتوَّجُ بإعادةِ هيكلةٍ اقتصادية تُشبه تلك التي جرت في عهد الرئيس الأميركي رونالد ريغان ورئيسة الوزراء البريطانية مارغريت تاتشر، حيث ستخرج منها بديونٍ أقل وقطاعٍ خاصٍّ أكثر كفاءة، وحيث ستُمارس أعمالها في ظلِّ نظامٍ دوليٍّ أكثر عدالة. في السيناريو الثاني، تنزلقُ البلاد ببطءٍ إلى حالةِ ركودٍ تضخُّمي، وكما حدث في عهد الرئيس الأميركي جيمي كارتر، قد ينتهي بها الأمر إلى ركودٍ عميق، ربما مع عدم استقرارٍ ماليٍّ واضح.
مهما كانت النتيجة، فستكونُ لها تداعيات دولية. منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، ظلَّ الاقتصادُ والنظامُ المالي الأميركيان محورَ الأسواق العالمية. وتتمتّعُ واشنطن بنفوذٍ كبير في المؤسّسات متعددة الأطراف. ولطالما كانت الولايات المتحدة المُحرّكَ الوحيد الموثوق للنموِّ الاقتصادي العالمي، وهي رائدةٌ في تطوير وتبنّي معظم الابتكارات المُعَزِّزة للإنتاجية، مثل الذكاء الاصطناعي وعلوم الحياة والروبوتات. وقد استعانَ الكثيرون من المستثمرين الأجانب بمصادر خارجية لإدارة مدّخراتهم وثرواتهم في الأسواق المالية الأميركية، بفضل سيولتها العميقة وبُنيتها التحتية القوية. والدولار هو العملة الاحتياطية العالمية. وإذا انزلقت الولايات المتحدة إلى حالةِ ركودٍ تضخّمي، فإنَّ أجزاءً أخرى من العالم مُعَرَّضة لخطر الوقوعِ في المصير نفسه.
يبدو أنَّ غالبيةَ الحكومات تُدركُ ذلك. ولهذا السبب تسعى دول العالم إلى عزل نفسها عن تقلُّبات السياسات الصادرة عن واشنطن. فأوروبا، على سبيل المثال، تسعى جاهدةً إلى تحسينِ مكانتها الإقليمية، مع بناءِ علاقاتٍ اقتصادية جديدة وأكثر متانةً مع أفريقيا وآسيا وأميركا اللاتينية. في غضون ذلك، ترى الصين فرصةً سانحةً لترسيخ مكانتها كقوّةٍ اقتصادية عظمى أكثر موثوقية. إلّا أنَّ هذه الجهود تُواجِهُ حتى الآن عقباتٍ مُعاكسة. فببساطة، لا توجد دولةٌ أخرى تُضاهي الولايات المتحدة ثراءً أو قوّةً.
مع تضاؤلِ فُرَصِ الاستقرار، ستحتاجُ الحكومات والشركات والمستثمرون إلى بذل المزيد من الجهود لتأمين أنفسهم ضد أيِّ أضرارٍ مُحتملة. يجب أن يتحَلّوا بالسرعة والمرونة. إنهم بحاجة إلى رأس مالٍ وقدرةٍ بشريةٍ على الصمود، حتى يتمكّنوا من استيعابِ النكسات وتمويل مبادراتٍ جديدة. كما إنهم بحاجةٍ إلى الانفتاح على أساليب تفكيرٍ وسلوكٍ جديدة. إذا استطاعت هذه الجهات الفاعلة أن تُصبحَ أكثر مرونةً، فسوف تنجو من التقلّبات – وربما تخرج منها أفضل حالًا. أما إذا جمّدت نفسها، فسوف تُقوِّضُ رفاهَ أجيال العالم الحالية والمستقبلية.
وقفةٌ مع الاستثنائية
لا تزالُ الولايات المتحدة أقوى دولة وأكثرها ازدهارًا في العالم، ولديها مؤسّسات ناضجة. لكن من الناحية الاقتصادية والمالية، تُشبه البلاد الآن أحيانًا دولةً نامية. فمثل الدول ذات الأنظمة الضريبية غير الناضجة التي تحتاج بشدة إلى الإيرادات، فرضت واشنطن تعريفاتٍ جمركية مُرتفعةً مفاجئة على معظم السلع الخارجية. ثم انزلقت إلى نهجٍ أشبه بمنح الامتيازات، مُعفِيةً منتجاتٍ وقطاعاتٍ بطريقةٍ تبدو تعسُّفية. وقد فعلت كل هذا مع استمرارِ عجزها المالي في الارتفاع. في الواقع، يبدو أحيانًا أنَّ المسؤولين الأميركيين قد اعتمدوا نهجًا في صنع السياسات أشبه بما حدث في أجزاءٍ من أميركا اللاتينية منه بما يُتَوَقَّع من أقوى اقتصادٍ في العالم.
كلما استمرَّ هذا السلوك، زادَ خطرُ تعرُّضِ الاقتصاد الأميركي لمشاكل أكثر شيوعًا في الدول النامية. وهناك بالفعل دلائلُ على تدفُّقات رأس المال إلى الخارج وتردّدٌ مُتزايدٌ من جانب المستثمرين الخارجيين، وهناك أيضًا قلقٌ بشأن استقلالية البنك المركزي. بعد عقودٍ من الهيمنة، شهدت الأسواق الأميركية أداءً ضعيفًا في بداية العام 2025. إنَّ الدولار، الذي كان قويًا في السابق، يَفقُدُ قيمته، حتى مع ارتفاع العائدات المُكتَسَبة من حيازته. كما إنَّ هناك انخفاضًا حادًا في الزيارات السياحية.
ومن غير المرجّح أن يتلاشى هذا الاضطراب. لقد ترشّح الرئيس الأميركي دونالد ترامب لمنصبه في العام 2024 على وَعدٍ بتغييرٍ جذريٍّ في الاقتصادَين الأميركي والعالمي، وسحبِ مظلة واشنطن الأمنية، وتوزيعِ تكلفة توفير السلع العامة العالمية الرئيسة كالمساعدات والدفاع بشكلٍ أكثر عدلًا. وهو يَفي بهذه الوعود، ولا يُوجَدُ ما يدعو للاعتقاد بأنه سيتوقّفُ في أيِّ وقتٍ قريب. في الواقع، السؤال هو: إلى أي مدى سيذهب؟ وبأيِّ سرعةٍ سيتحرّك؟
قد تأملُ دولٌ أخرى، في نهاية المطاف، أن يُحدِثَ نهجُ واشنطن السياسي الحالي زعزعةً طفيفة للنظام الاقتصادي. لكنَّ الرسومَ الجمركية، وضُعفَ الدولار، وخطرَ عدمِ الاستقرار المالي، والتلميحات إلى أنَّ الولايات المتحدة قد تُحاولُ إجبارَ بعض دائنيها الخارجيين على تمديد آجال استحقاق سندات الخزانة الأميركية، تركت كلها العالم في حالةٍ من التوتر، حتى أنَّ المراقبين المخضرمين يجدون صعوبةً في فَهمِ ما يُخبِّئه المستقبل. ببساطة، لقد هزّت واشنطن أُسُسَ النظامِ العالمي، ولا يُوجَدُ قائدٌ موثوقٌ به لإرشادِ الدول والشركات خلال هذه المرحلة الانتقالية المُعَقَّدة نحو ما هو آتٍ.
قائمةُ الشكوك طويلة ومُرعِبة. فمن غير الواضح، على سبيل المثال، ما إذا كانت واشنطن قادرةً على قلب التجارة العالمية رأسًا على عقب بدون التأثيرِ في تدفُّقات رأس المال العالمية. ولا يعلم الخبراء ما إذا كان تأثيرُ الرسوم الجمركية على الأسعار سيثبت أنه أمرٌ عابرٌ أم أنه سيُغذّي دورةً تضخُّمية. ومن غير المؤكد كيفَ ستتعاملُ البنوك المركزية، وخصوصًا الاحتياطي الفيدرالي الأميركي، مع التوازن الدقيق بين ترويضِ الأسعار وتجنُّبِ انكماشٍ اقتصادي حاد. (إنَّ التوتُّرَ بين ترامب وجيروم باول، رئيس الاحتياطي الفيدرالي، يزيدُ من حالة عدم اليقين، ويُهدّدُ استقلالية البنك المركزي وفعاليته ومصداقيته). لا يُمكِنُ لأحدٍ التنبّؤ بالعواقب طويلة المدى لانقطاعات سلسلة التوريد الناجمة عن الجائحة، والتي تفاقمت بفعل التوتّرات الجيوسياسية. ولا يزالُ العديدُ من الدول ينتظرُ معرفة ما إذا كان سيُجبَرُ على الاختيار بين الصين والولايات المتحدة مع تصاعُدِ التوتّرات في المحيط الهادئ.
من الواضح أن هذه الأسئلة المفتوحة تُصعّب الأمورَ على الحكومات. لكنها تُعقِّدُ أيضًا الأمورَ على الشركات والمستثمرين. كانت الارتباطات التاريخية الراسخة بين فئات الأصول، وأهمها أسعار الأسهم والسندات، ركيزةً أساسيةً لاستراتيجيات الاستثمار. أما الآن، فقد أصبحت هذه العلاقات غير عادية وغير مستقرّة. في الوقت نفسه، لم تعد الملاذات الآمنة التقليدية آمنةً فعليًا. فالركائز الأساسية لأيِّ نهجٍ استثماري -العوائد المُتوَقَّعة، والتقلّبات، والارتباط- لا تزالُ غامضة كما كانت لعقود. ونتيجةً لذلك، يواجه المستثمرون صعوبةً في كيفية توزيع الأصول والحدِّ من المخاطر. إنهم يُدركون حاجتهم إلى تطوير نهجهم، ولكن ليس من الواضح تمامًا إلى أيِّ اتجاهٍ ينبغي أن يتطوَّروا إليه.
في عَقلَين
في محاولتهم التنبّؤ بما سيحدث، انحرفَ الخبراءُ والمُتنبِّئون الاقتصاديون عمومًا نحو أحد اتجاهَين مُتطرِّفين. الأوّلُ مُتفائلٌ بشأن المسارِ الحالي المُتعثّر. ووفقًا لهذه الرؤية، ستنجح إدارة ترامب في تقليصِ حجمِ البيروقراطية، وإلغاءِ القوانين والقواعد غير الضرورية، وتقليصِ الإنفاق، مما يؤدي إلى إنشاءِ حكومةٍ أكثر كفاءة وأقل إرهاقًا بالديون مع انتعاشِ النمو. سيخرُجُ الاقتصادُ من الأزمة الحالية بقطاعٍ خاصٍ حُرٍّ قادرٍ على اغتنامِ فُرَصِ الابتكارات المُحفِّزة للإنتاجية في المجالات التي تتصدّرها الولايات المتحدة بالفعل، مثل الذكاء الاصطناعي، وعلوم الحياة، والروبوتات، والحوسبة الكمومية (في المستقبل). قد لا تزالُ واشنطن تريدُ فرضَ تعريفات جمركية أعلى مما كانت عليه قبل تولي ترامب منصبه. لكن هذه التعريفات قد تؤدّي إلى نظامٍ تجاري أكثر عدالة، حيث تلغي الدول الأخرى تعريفاتها الجمركية المرتفعة والحواجز غير الجمركية المرهقة، مع تحمُّلها في الوقت نفسه تكلفة أكبر لتوفير السلع العامة العالمية. هذا السيناريو لا يُذكّرُ فقط بإصلاحات أوائل الثمانينيات التي سعى إليها ريغان وتاتشر، بل يتجاوز ذلك. فهو يستلزمُ إعادةَ ضبطٍ ليس فقط للنظام الاقتصادي المحلي، بل والعالمي أيضًا.
ولتحقيق هذه النتيجة، بطبيعة الحال، يجب أن تسيرَ أمورٌ كثيرة على ما يُرام. والأهم من ذلك، يجب أن يتحقّقَ نموٌّ أعلى بسرعة لتخفيف عبء الديون المتراكمة. كما يجب أن تتحلّى الأسواق المالية بالصبر، وتستوعِبُ الشكوكَ المُحيطة بالدولار وسندات الحكومة الأميركية. وعلى الصعيد الدولي، يجب أن تثقَ الدولُ بأنَّ واشنطن ستلتزمُ بما تتفق عليه بشأن التجارة والتعريفات الجمركية. كما يجب أن تشعرَ هذه الدول بمزيدٍ من الارتياح تجاه ما لديها من احتياطيات كبيرة من الدولار وسندات الخزانة. كما ينبغي أن تتعاملَ مع التوتّرات التي يُحتَمَلُ أن تستمرَّ بين الصين والولايات المتحدة، القوَّتين الاقتصاديتين العظميين في العالم.
ثم هناك الاحتياطي الفيدرالي. ففي عالمٍ يشهدُ إنتاجيةً أعلى، وتضخُّمًا أقل، وعجزًا وديونًا أقل خطورة، يجب أن يكون البنك المركزي أكثر استعدادًا وقدرةً على خفضِ أسعار الفائدة بشكلٍ كبير. ولكن لتحقيق ذلك، يتعيّن على ترامب وباول حلَّ خلافاتهما، إما باستقالة باول أو إظهار ترامب قدر أكبر من الصبر حتى شهر أيار (مايو)، وهو الموعد المُقرّر لانتهاء ولاية باول.
قد يحصلُ ترامب أيضًا على خفضٍ في أسعار الفائدة في سيناريو أكثر تشاؤمًا، ولكن ليس بالطريقة التي يريدها. في هذا العالم، لا تسيطرُ واشنطن على عجزها المالي المُتفاقِم. الثقة في المؤسّسات تتآكل باستمرار، مع تزايُدِ المخاوف بشأن سيادة القانون وتجاوزات السلطة التنفيذية. تُبدي الولايات المتحدة اهتمامًا أقل بوضع المعايير والأنظمة والقواعد العالمية والالتزام بها. تُعيد دولٌ أخرى النظرَ في دورها في النظام العالمي. على أقل تقدير، تُجبَرُ على تعزيزِ تأمينها الذاتي، سعيًا إلى مزيدٍ من المرونة المحلية في مواجهة عالمٍ مُتَغيِّر. قد ينتهي بها الأمر إلى تشكيلِ تحالفات متعدّدة الدول، مما سيُقلقُ الولايات المتحدة ليس فقط اقتصاديًا، بل أيضًا في ما يتعلق بالأمن القومي.
سيُكرِّرُ هذا السيناريو فعليًا الكثير مما شهده العالم في سبعينيات القرن الماضي، عندما عانى الاقتصاد العالمي أيضًا من صدمات العرض، وارتفاع أسعار السلع الأساسية، وزلّات السياسات. سيكون الوضع قاتمًا للجميع. ستُضطَرُّ الشركات إلى التوفيق بين ارتفاع التكاليف وضعف الطلب. سيُكافِحُ المستثمرون لتحقيق عوائد في بيئةٍ كانت فيها السندات والأسهم على حدٍّ سواء عُرضةً للخطر. وستتراجع القدرة الشرائية للأُسَر وتقلُّ فُرَصُ العمل. وقد ينزلق العالم بأسره نحو ركودٍ اقتصادي، مما يُخلّف آثارًا سلبية على جيلٍ يُعاني أصلًا من ضعفٍ في المرونة المالية والبشرية. وستُعاني الأجيال المقبلة، التي من المقرر أن ترثَ عالمًا مليئًا بالديون المرتفعة وعدم المساواة وأزمات المناخ، أيضًا.
في الوقت الحالي، يُعدّ كلا السيناريوهين، الجيد والسيئ، واردًا، وكذلك العديد من النقاط التي تقع ضمن نطاقهما. في الواقع، في بداية العام 2025، أشارت مؤشرات أسعار السوق المختلفة إلى وجودِ احتمالٍ بنسبة 80% تقريبًا للتغييرِ نحو الأفضل و20% للتغيير نحو الأسوَإِ. انخفضت توقعات السيناريو الجيد إلى أقل من 50% في أوائل نيسان (أبريل)، بعدما أعلن ترامب عن رسومٍ جمركية أعلى بكثير مما توقّعته الأسواق. ثم أصبحت التوقعات أكثر إيجابية بحلول نهاية الشهر، حيث ازدادت ثقة المتداولين والمستثمرين بأنَّ تأجيله اللاحق لمدة 90 يومًا سيؤدي إلى رسوم جمركية يُمكِنُ التحكُّم فيها وعدم حدوثِ صدمةٍ كبيرة للنظام التجاري العالمي. لكن هذا المزيج مُتقلِّبٌ بطبيعته، ومن المرجّح أن يستمرَّ في التغيُّر، على الأقل في المستقبل القريب.
استعدّوا للتأثير
على الرغم من رغبتها في ذلك، فإنَّ الجهات الفاعلة العامة أو الخاصة القليلةٌ جدًا، إن وُجدت، هي القادرة على حماية نفسها تمامًا من التقلبات الاقتصادية المستمرة. ولكن هناك استراتيجيات يمكنها اتباعها لتجاوز هذه المرحلة.
إحدى هذه الاستراتيجيات هو ببساطة البقاء على المسار الصحيح والمراهنة على أنه في نهاية المطاف، لن يبدو العالم مختلفًا تمامًا عما كان عليه في كانون الثاني (يناير) 2025. ففي النهاية، تعافت الأسواق بالفعل من تصريحات ترامب التجارية الجارفة، حيث سجلت مؤشرات الأسهم الرئيسة مستويات قياسية جديدة. وبينما يتحدث الرئيس الأميركي ويتفاوض مع مختلف الدول، قد تسودُ التهدئة. وبغضِّ النظر عما يحدث، ستحتفظ الولايات المتحدة في النهاية بديناميكية قطاعها الخاص وابتكاره وروح ريادة الأعمال. وستقود العالم في مجالي التكنولوجيا والتطوُّر البيولوجي. ويذهب بعض الاقتصاديين إلى حد القول بأنَّ سوقَ سندات الخزانة الأميركية غير المستقرة والمتقلّبة لا ينبغي أن تُلوِّث قطاع الشركات القوي. فبالنسبة إليهم، يمكن للمرء أن يكون لديه منزل جيد في منطقة متقلّبة.
في غضونِ ذلك، قد تُعالج دول أخرى مشاكلها الاقتصادية، مُجبَرةً على ذلك بسبب انسحاب الغطاء الأمني الأميركي. بإمكان أوروبا تحفيز المزيد من النمو من خلال ترشيد نظامها التنظيمي المُعقّد، وتشجيع الابتكار والانتشار، وبالتالي تعزيز الإنتاجية. وسيُدعَمُ ذلك بجهود إقليمية أفضل لاستكمال هيكل الاتحاد الأوروبي، الذي يعتمد اعتمادًا كبيرًا على اتحاده النقدي ويحتاج بشدة إلى إحراز تقدم في اتحاداته المالية والمصرفية.
في هذا الوقت، قد تُقيّد بكين صادراتها في آسيا حتى لا تَقلقُ الدول من إغراقِ أسواقها بالمنتجات الصينية – تمامًا كما فعلت اليابان قبل بضعة عقود بقيودها الطوعية على الصادرات. كما يُمكن للصين أن تُعيدَ النظر جذريًا في نموذج نموها، مُستبدلةً المحرّكات التقليدية للصادرات والاستثمار الحكومي بإطلاق العنان للاستهلاك المحلي الخاص والاستثمار الخاص.
مع ذلك، في ظلّ حالة عدم اليقين، قد لا ترغبُ الشركات ولا الحكومات في المراهنة على مثل هذه النتيجة السعيدة. إذا أصبح دور الولايات المتحدة في النظامين الاقتصادي والمالي العالمي أكثر غموضًا وفوضوية بطبيعته، فإنَّ على صانعي القرار الاستعداد لعالمٍ أكثر تجزئةً مع مخاطر أكثر تواترًا وعنفًا. إنه عالمٌ تظلُّ فيه التقلبات الناجمة عن السياسات عالية، وسلاسل التوريد العالمية غير مستقرة، وأسواق الديون المالية متوتّرة. قد تُحاول الدولُ تقليلَ المخاطر بشكلٍ أكبر، مُطلقةً بذلك فصلًا أعمق. ستزداد حدة المنافسة بين بكين وواشنطن. يُمكن لعدد قليل من الدول المُتأرجحة المهمة، وهي البرازيل والهند والمملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة، أن تُحافظ على علاقاتٍ جيدة مع كلتا الحكومتين. لكن على الدول هنا أن تختار.
في هذه الحالة، سيحتاج صانعو القرار إلى بذل المزيد من الجهود لاستعادة السيطرة على مصائرهم الاقتصادية والمالية. بقيادة ألمانيا المهتمة أكثر بالدفاع والبنية التحتية، سيتعيّن على أوروبا التغلب على تردّدها الطويل في إصدارِ ديونٍ مشتركة، وتفويض المزيد من الصلاحيات لبروكسل، والقيام بالعديد من المبادرات الإقليمية، بما في ذلك في مجال الدفاع. سيتعيّن على الصين أن تكونَ أقل تردُّدًا في التضحية بالنموِّ قصير الأجل سعيًا إلى إصلاحٍ جذري لاقتصادها. كما ستتجه الدول النامية الكبرى، مثل البرازيل والهند، نحو الإصلاح أكثر، وستدفع اقتصاداتها نحو فخِّ الدخل المتوسّط العنيد.
لحسن حظها، قد يوفر سلوك واشنطن الزخم اللازم والمطلوب لإجراء مثل هذه التغييرات. ويمكن لأوروبا، على وجه الخصوص، أن تستخدمَ حالة عدم الاستقرار الحالية كغطاءٍ جوي لمواصلة الإصلاحات التي اقترحها رئيس الوزراء الإيطالي السابق ماريو دراغي، والتي تسعى إلى معالجة نقص الابتكار ونموِّ الإنتاجية والتمويل الداخلي في المنطقة. وقد تُنشئ أوروبا أيضًا أسواقًا رأسمالية أكثر تجانُسًا قادرة على استيعاب استثمارات القارة المُفرِطة في الأصول الأميركية.
لكنَّ التغييرَ الجذري، كالاستمرار على النهج نفسه، ينطوي على مخاطر أيضًا. فإذا ظلّ المستقبل غامضًا، فقد لا يرغب صانعو السياسات في إجراءِ تغييراتٍ جذرية لا رجعة فيها. بل قد يفضّلون اتباعَ نهجٍ وسطي. يمكنهم، على سبيل المثال، تقليل تعاملاتهم مع الولايات المتحدة، ولكن بشكلٍ هامشي، وبطريقةٍ قابلة للتغيير. قد يفعلون ذلك بهدوء، لتجنُّب إثارة غضب واشنطن.
لن يكونَ الاختيارُ بين هذه المسارات المختلفة سهلًا. سيتعيَّن على كلِّ طرفٍ فاعلٍ أن يُقرِّرَ ما هو الأنسب له. ولكن في عالمٍ يزدادُ فوضوية، سيتعيّنُ على كلِّ طرفٍ أن يتعلّمَ التكيُّف بسرعة، بما في ذلك أولئك الذين يعتقدون أنَّ العالم لن يتغيّرَ كثيرًا. هذا يعني أن على الأطراف الفاعلة السعي إلى بناءِ مرونةٍ مالية وبشرية وتشغيلية كبيرة.
على سبيل المثال، ينبغي على الشركات والمستثمرين الاحتفاظَ بمزيدٍ من السيولة النقدية وتعزيزَ ميزانياتهم العمومية، وتنويعَ سلاسل التوريد ومحافظهم الاستثمارية، وزيادةَ الاستثمار في تطوير الموظفين باستخدام أدوات مبتكرة، والتواصلَ بشكلٍ أكثر فعالية. كما يجب على صانعي القرار تحسين قدرتهم على التنبؤ بالسيناريوهات المستقبلية، واختبار استراتيجياتهم، وتحديد نقاط الضعف المحتملة. وهذا يعني تمكين الوحدات المحلية والمسؤولين والأفراد من وضع الخطط واختبار السياسات.
أخيرًا، يجب على صانعي القرار تجنُّب الوقوع في فخاخ السلوك. ففي أوقات عدم اليقين، يكون الناس أكثر عُرضةً من المعتاد للتحيُّزات المعرفية التي تؤدّي إلى قراراتٍ خاطئة. يتجاوز هذا الميل إنكار حدوث التغيير، إذ غالبًا ما ينطوي على ما يُطلِقُ عليه علماء السلوك “القصور الذاتي النشط”: عندما يُدرك العاملون أنهم بحاجة إلى التصرُّف بشكلٍ مختلف، لكنهم في النهاية يلتزمون بالأنماط والأساليب المألوفة بغضِّ النظر عن ذلك.
يُقدم مصير شركة “آي بي أم” (IBM)، التي كانت عظيمة في يوم من الأيام، مثالًا واضحًا على ذلك. ففي أوائل الثمانينيات، تعرّضَ تركيزُ الشركة الفريد على الحوسبة المركزية لتهديدٍ متزايد بسبب صعود أجهزة الكمبيوتر الشخصية. واستجابةً لذلك، وافقَ كلٌّ من مجلس الإدارة والإدارة على ما كان، في جوهره، القرار الاستراتيجي الصحيح: إعادة تخصيص الموارد البشرية والمالية وموارد الابتكار لإنتاج أجهزة الكمبيوتر الشخصية. ومع ذلك، فشلت محاولة الشركة للتحوُّل عندما واجه المسؤولون التنفيذيون صعوبةً في نقل العمال والموارد المالية بعيدًا من المألوف. ونتيجةً لذلك، سرعان ما طغت شركات أحدث على الشركة، واضطرّت إلى إعادة تشكيل نفسها، في الأساس، لتصبح شركة خدمات من أجل البقاء. ولم تستعِد هيمنتها في هذه الصناعة قط.
كونوا جريئين جدًا
يواجه العالم حالةً من انعدام الأمن وعدم اليقين. هناك القليل من المبادئ والقواعد والمؤسسات التي يمكن للمسؤولين والمستثمرين الاعتماد عليها. الاقتصاد الأميركي أصبح أقل استقرارًا، وواشنطن أقل مشاركة في تنسيق السياسات العالمية. بعد ما يقرب من 80 عامًا، يواجه النظام التجاري العالمي خطر التفكك. لا توجد رهانات أكيدة على المستقبل.
هذه الحقيقة ليست سيئة في حد ذاتها. لكنها تعني أنَّ على صانعي القرار أن يكونوا في غاية اليقظة. ستكون للخيارات التي يتخذها الناس في الأشهر المقبلة عواقب وخيمة على مستقبل الاقتصاد العالمي ورفاهية مليارات البشر. يجب على المسؤولين الحكوميين التحلّي بالتواضع، ولكن الآن ليس وقت الخجل. بل هو وقت الجرأة والإبداع والتخطيط المُبتَكِر للسيناريوهات وتحدّي الأفكار السائدة.
المهام المقبلة صعبة. إنها تتطلّبُ إعادةَ تفكيرٍ جذرية في كيفية إدارة الاقتصادات والأعمال والاستثمارات. ولكن إذا كان القادةُ قادرين على مواجهة التحدّي -ويجب أن يكونوا كذلك، مدعومين بالانتشار المقبل للابتكارات المثيرة- فإنَّ العالم يستطيع أن يفعل أكثر من مجرّدِ اجتياز العاصفة. يمكنه أن يخرجَ أقوى وأكثر ازدهارًا مما كان عليه من قبل.
- محمد العريان هو خبير اقتصادي ومالي دولي، رئيس كلية كوينز بجامعة كامبريدج، وأستاذ في كلية وارتون بجامعة بنسلفانيا. كان الرئيس التنفيذي لشركة “Pacific Investment Management“، من العام 2007 إلى العام 2014.
يجب عليك تسجيل الدخول لكتابة تعليق.