اللعبةُ الكُبرى الجديدة في جنوبِ شرقِ آسيا
عبد السلام فريد*
بينما لا تزالُ واشنطن مُنشَغِلةً بنقاشاتِ التعريفات الجمركية والمسرحيات السياسية، يُعيدُ الرئيس الصيني شي جين بينغ رَسمَ الخريطةِ الاستراتيجية لجنوبِ شرقِ آسيا بهدوء. كانت جولته رفيعة المستوى في فيتنام وماليزيا وكمبوديا أكثر من مُجرّدِ حملةٍ ترويجية، بل كانت إعلانًا استراتيجيًا. مدعومةً بوعودِ البُنية التحتية والحوافزِ التجارية والرمزية المُدَبَّرة بعناية، تُشيرُ زيارةُ شي إلى ثقةِ بكين المُتزايدة في إعادةِ تَشكيلِ مُستقبل المنطقة وتهميش النفوذ الأميركي.
في تناقُضٍ صارخ، يبدو أنَّ الولايات المتحدة تنسحبُ من المنطقة، مُقَلِّصةً تمويل الوكالة الأميركية للتنمية الدولية، ومُنسَحِبةً من الحواراتِ مُتَعدّدة الأطراف المهمّة. أسفرت زيارة شي إلى فيتنام وحدها عن 45 اتفاقية تعاون، تشمل الذكاء الاصطناعي، والدوريات البحرية، وربط السكك الحديدية، والتجارة الزراعية. بل إنَّ الصين تُموِّل دراسات جدوى لخطوط سكك حديدية رئيسة تربطُ مدنها الجنوبية بالممرّات الصناعية في فيتنام. المعنى الضمني واضح: لم تَعُد بكين راضيةً بالمنافسة، بل إنها تُعزّز وتُرَسّخُ وجودها ونفوذها.
المظهر مهم والصورة أهم. لم يَغِب لقاء شي مع تو لام، الأمين العام الجديد للحزب الشيوعي الفيتنامي، عن الرئيس دونالد ترامب، الذي سخر من اللقاء مُغرّدًا تحت صورة اللقاء: “كيف “نُخَوزِق” الولايات المتحدة الأميركية؟”. حملَ هذا التعليق العفوي حقيقةً مُقلقة. فالولايات المتحدة تلعب دورَ الطرف الغائب بشكلٍ متزايد في منطقةٍ كانت تقودها سابقًا.
تتجاوز استراتيجيةُ الصين الإقليمية التجارة بكثير. ففي ماليزيا، أشاد شي بـ”التعاون الاستراتيجي” وسارعَ بتسريع المحادثات بشأن اتفاقية التجارة الحرّة بين الصين ورابطة دول جنوب شرق آسيا (آسيان) 3.0، التي تُعَدُّ ثقلًا موازنًا ملموسًا للإطار الاقتصادي لمنطقة المحيطين الهندي والهادئ الذي تدعمه أميركا، والذي لا يزال يفتقر إلى نتائج واضحة. في الوقت نفسه، تضخُّ بكين استثماراتٍ كبيرة في كمبوديا في مشاريع البنية التحتية، بما في ذلك تطوير قاعدة “ريام” البحرية.
الرمزيةُ واضحةٌ لا لبسَ فيها. فبينما تتراجع الولايات المتحدة، تتدخَّل الصين، بأموالٍ في متناول اليد وخططٍ جاهزة.
مع قيامِ إدارة ترامب بتقليصِ المساعدات الخارجية وعناصر الديبلوماسية الأميركية، تُرسّخ بكين نفسها كشريكٍ لا غنى عنه، بإدارةٍ سياسيةٍ مدعومةٍ بالبنية التحتية وطموحٍ طويل الأمد. وهي تُعيد تشكيل توازن ما بعد الحرب الباردة في منطقة المحيطَين الهندي والهادئ، حيث تسعى الحكومات المحلّية إلى الاستقرارِ الاقتصادي في أوقاتٍ يسودها عدم اليقين. الصين جاهزةٌ بالحلول والاستثمارات، والأهم من ذلك، الاتساق والثبات.
التأمُّلُ بالأرقام يوضّح أكثر. في السنة المالية الماضية وحدها، خصصت الوكالة الأميركية للتنمية الدولية (USAID) حوالي 837 مليون دولار لجنوب شرق آسيا. تلقّت ميانمار 237.6 مليون دولار، وإندونيسيا 151.3 مليون دولار، وفيتنام 135.4 مليون دولار، وتايلاند 20.45 مليون دولار. دعمت هذه الأموال إزالة الألغام في كمبوديا، والصحة العامة في تايلاند، وتطوير البنية التحتية في جميع أنحاء المنطقة. لكن هذا الزخم يتضاءل الآن. فالصين، التي كانت مُتأخّرة في السابق، أصبحت الآن تقود في الصدارة.
لا تزالُ التوتّرات قائمة، لا سيما بشأن تايوان وبحر الصين الجنوبي. لكن هذه الخلافات لم تُعرقل استراتيجية بكين الأوسع. بل على العكس، تُضاعف الصين جهودها من خلال نشر التعاون الاقتصادي والديبلوماسية الثقافية لتعزيز دورها كشريكٍ لا غنى عنه لجنوب شرق آسيا.
لم تَكُن زيارة شي مجرد استعراضٍ لحسن النية، بل كانت تتويجًا لسنواتٍ من العمل التمهيدي، الذي وُضِعَ جُزءٌ كبيرٌ منه في إطار مبادرة الحزام والطريق. من السكك الحديدية عالية السرعة في لاوس إلى توسعات الموانئ في ماليزيا، أصبحت الصين ركنًا أساسيًا في البنية التحتية للمنطقة، المادية والسياسية. وفي الآونة الأخيرة، بدأت بكين في استعراض قوتها الناعمة. فالسفر بدون تأشيرة لمواطني تايلاند وماليزيا وسنغافورة لا يُعزّزُ السياحة فحسب، بل يُعزز أيضًا الروابط الشعبية ويُنشئ جيلًا جديدًا من التقارب الإقليمي مع الصين. في الوقت نفسه، تُشجّعُ بكين على هياكل حَوكَمةٍ بديلة من خلال منتديات مثل آلية تعاون لانكانغ-ميكونغ، التي تُشكّلُ مؤسّساتٍ موازية للأنظمة متعددة الأطراف القائمة المدعومة من الغرب.
لا تحتضنُ دولُ جنوب شرق آسيا الصين انطلاقًا من توافُقٍ إيديولوجي، بل تتخذ خيارات عملية، وتُفضّلُ اليقينَ ورأس المال والحضور. يبقى وعدُ الولايات المتحدة بـ”منطقة المحيطين الهندي والهادئ حرّة ومفتوحة” مجرّد وَهمٍ بدون ديبلوماسيين وتمويلٍ ومشاركة مستدامة تدعمه. وللحفاظ على نفوذها، ينبغي على واشنطن إعادة تمويل الوكالة الأميركية للتنمية الدولية، وتنشيط جهود الديبلوماسية العامة لوزارة الخارجية، وإعادة التفاعل مع أُطُرِ التجارة الإقليمية.
صورة شي جين بينغ وهو يسيرُ على السجاد الأحمر في هانوي وبنوم بنه، بينما يُغلقُ مسؤولو المساعدات الخارجية الأميركية عملياتهم، تروي قصةً أقوى من أيِّ ورقة بيضاء. لم يَعُد الأمرُ يتعلّق بالسلطة المُجرَّدة، بل بمَن يَظهَر، ومَن يستثمر، ومَن يبقى. لم تَعُد اللعبة الكبرى نظرية. إنها تُلعَبُ الآن، ومقعد أميركا على الطاولة فارغ.
- عبد السلام فريد هو مراسل “أسواق العرب” في بكين.