هل هذا هو الفَصلُ الأخير: الدولةُ والإسلاميون في الأردن؟
محمّد أبو رُمَّان*
شهدَت التغطيةُ الإعلامية والسياسية لقرار الحكومة الأردنية الأخير بحظرِ أنشطة وعمليات جماعة “الإخوان المسلمين” العريقة لُبسًا كبيرًا. وينبعُ هذا اللُّبسُ من الاعتقادِ الخاطئ بأنَّ القرارَ جديدٌ، بينما هو في الواقع مَبنِيٌّ على حُكمٍ قضائيٍّ قديم. علاوةً على ذلك، تعمّدَ معارضو الإخوان ومؤيدوهم تضخيمَ الأمر إعلاميًا، وتصويره على أنه إغلاقٌ كامل لـ”الحركة الإسلامية” في الأردن، بما في ذلك أنشطة نواب حزب “جبهة العمل الإسلامي” (31 نائبًا)، بل وحتى الحزب نفسه. بل ذهب البعض إلى حدِّ طَرحِ سيناريوهات مثل حلّ البرلمان والتخلّي عن مشروعِ التحديثِ السياسي كُلِّيًا. إلَّا أنَّ جميعَ هذه الادعاءات غير دقيقة وبعيدةٌ كُلّ البُعد من جوهر القرار وتداعياته وتبعاته السياسية الأوسع.
لقرارِ حَظر أنشطة جماعة “الإخوان المسلمين” جذورٌ وسياقاتٌ تاريخية ضاربة في القدم. ويرتَبِطُ جُزءٌ كبيرٌ منها، على وجه الخصوص، بأزماتٍ داخلية داخل الجماعة نفسها. لقد تَصَاعَدَ الخلافُ الداخلي بين “الحمائم”، بقيادة قادتها التاريخيين، و”الصقور”، في وقتٍ ألزمَ قانونٌ جديدٌ لتنظيم الجمعيات جميع المنظمات بإعادة ترخيص أنفسها وفق معايير جديدة. في العام 2015، وتحت سيطرة جناح الصقور، رفضت جماعة الإخوان إعادة الترخيص، بينما اعتقدَ الحمائم أنَّ إعادةَ الترخيص القانوني سيحمي الحركة. وبالفعل، أقدمَ أحدُ قادتها التاريخيين والمشرف العام السابق، عبد المجيد ذنيبات، على تسجيلِ جمعيةٍ جديدة قانونيًا باسم “الإخوان المسلمين” ودعا زملاءه للانضمام إليها. إلّا أنهم رفضوا، وطردوه مع عددٍ كبير من أنصار “الحمائم”. في الوقت نفسه، غادرت قيادات بارزة أخرى، مثل سالم الفلاحات، ورحيل غرايبة، ونبيل كوفحي، جماعة “الإخوان المسلمين” وأسّسوا أحزابًا سياسية جديدة، مع وصول الأزمة الداخلية إلى مستويات غير مسبوقة، لا سيما بعد سقوط حُكمِ الإخوان في مصر في العام 2013.
في العام 2020، وبعد سنواتٍ من المعارك القانونية، أصدرت محكمةُ النقضِ أحكامًا بمصادرة ممتلكات جماعة “الإخوان المسلمين”، وأكّدت أنَّ الجماعة القديمة كيانٌ غير قانوني. أثارت هذه الأحكام جدلًا داخل الجماعة بين فصيلٍ يدعو إلى الالتزام بالقانون والانضمام إلى الجماعة المُرَخَّصة قانونيًا، أو التركيز فقط على حزب جبهة العمل الإسلامي (الفصيل الوسطي)، وفصيل آخر يُصرُّ على الحفاظ على وجودِ جماعة الإخوان الأصلية، وإن كان ذلك بطريقة غير مُرخَّصة وسرّية -من خلال العمل من المنازل أو بشكلٍ غير رسمي من بعضِ مكاتب جبهة العمل الإسلامي. ولأول مرة في تاريخ “الإخوان المسلمين”، أُجرِيَت انتخاباتٌ داخلية في سرّيةٍ تامة، مع الإعلان في وقتٍ لاحق عن القيادة الجديدة، في حين اختارت الحكومة عدمَ التدخُّل، وواصلت استراتيجيتها التقليدية القائمة على الاحتواء.
خاضَ حزبُ جبهة العمل الإسلامي، المُرتبط بشكلٍ غير رسمي بجماعة “الإخوان المسلمين”، الانتخابات البرلمانية الأخيرة، وحقّقَ أعلى عددٍ من الأصوات في تاريخ الجماعة في العام 2024. لم يُغيّر هذا موقفَ مؤسّسات الدولة، رُغمَ تَصاعُدِ التوتّرات في أعقاب حربِ الإبادة الإسرائيلية وما تلاها من حراكٍ سياسي في الشارع الأردني. وجاءت القشة الأخيرة التي قصمت ظهر البعير بكشفِ جماعاتٍ متورّطة في حيازة أسلحة غير مشروعة، غالبيتها منتمية أو مُقرَّبة من دوائر “الإخوان المسلمين”، مما دفع الحكومة إلى وَضعِ حدٍّ للأنشطة غير القانونية التي كانت مُتساهلة بها سابقًا من خلال حظر عمليات الإخوان رسميًا، مع الامتناع عن استهدافِ الحزب السياسي الذي يُمثّلُ الإخوان والذي ينتمي معظم أعضائه إلى صفوفهم، مع الحفاظ على حضورٍ برلماني ملحوظ.
إنَّ قرارَ الحكومة الأردنية لا يعني، بأيِّ حال من الأحوال، تكرارَ نماذج عربية أخرى حيث وُصِفَت جماعة الإخوان وأذرعها السياسية بالإرهاب، ما أدّى إلى سجنٍ جماعي وتجريمِ أيِّ انتماءٍ أو حتى تعاطُف مع الجماعة. لكنَّ سياسةَ الأردن بعيدةٌ كُلِّ البُعد من هذا المسار. بل يهدفُ القرارُ إلى ضمانِ مُمارسة العمل السياسي وفقًا للقانون، وبشفافية، ووفقًا للقواعد الرسمية للعمل السياسي. وقد يُفيدُ هذا النهج الحركة الإسلامية في المدى البعيد، ويدفعها نحو مزيدٍ من الواقعية السياسية والعمل العلني والمشروع، مُبتَعِدةً بذلك من الثُنائيات التي طالما عانت منها الحركة الإسلامية وأدّت إلى أزماتٍ داخلية.
يُمثّلُ الوضوحُ والشفافيةُ والعملُ السياسي القانوني والعلني نموذجًا أكثر حكمةً واستدامةً مُقارنةً بالممارسات السابقة. من الأفضل الاعتبار بأننا دخلنا مرحلةً جديدة في علاقة الدولة بالإسلاميين، وهي فرصةٌ تاريخية لبناءِ الثقة، ومُعالجةِ العديد من القضايا العالقة، وتنظيمِ العلاقة في أُطُرٍ واضحة ومحدَّدة.
- محمّد أبو رُمَّان هو المستشار الأكاديمي لمعهد السياسة والمجتمع في عمّان.