العودة المُضيئة إِلى رسالة شارل قرم

هنري زغيب*

كان ذلك قبل تسعين سنةً من اليوم (1935) حين بدأَ جمعٌ من الشعراء والأُدباء والمثقفين يجتمعون في بيت شاعرٍ، يستضيفُهم أُسبوعيًّا لمناقشة كتاب، أَو لِلِقاء شاعرٍ أَو كاتبٍ ضيفٍ يكون في زيارة لبنان. وتتالت اللقاءات، وتتالت القراءات، وبات الموعد لقاءاتٍ أُسبوعيَّةً يدور حولها حديثُ الفكر والصحافة في بيروت.

ذلك الشاعر هو شارل قرم، وتلك اللقاءات أسسها سنة 1935. “الصداقات اللبنانية”، وجعل شعارها “خدمة التعاون في الأَدب والفنون والعلوم”، وكان مقرَّها بيتُ الشاعر الذي بناه أَبيض عاليًا على صورة الـ”إِمباير ستايت بلدنغ” في مانهاتن نيويورك. ولا يزال المبنى الأَبيض حتى اليوم مرتفعًا بكل أَناقته في فضاء بيروت، قرب المتحف، وعاد يستقبل دوريًّا لقاءاتٍ ثقافية أَدبية شعرية، بفضل الشقيقَين دافيد وأَحيرام قرم وَلَدَي شارل قرم اللذَين يحفظان تراثه الثمين ويحافظان عليه بنشر مؤَلفات والدهما، والحفاظ على كل ما في المنزل من إِرث عظيم.

من كنوز هذا الإِرث، مثلًا، أَمامي الدعوة المطبوعة إِلى نشاط شهر كانون الأَول/ديسمبر 1949. أَقرأُ فيها: موضوع هذا الشهر: الشعر والجمال والنقد الفني”، وجاء في الدعوة حرفيًّا: “ندوة الصداقات اللبنانية تدعوكم إِلى جلساتها الأُسبوعية، الساعة التاسعة من مساء كل سبت، وهي مخصصة هذا الشهر لقراءة نصوص شعرية ومناقشتها”، ووردت في الدعوة أسماء الشعراء موزعة كما يلي: السبت 10 لمجموعة شاعرات، و17 و24 و31 كانون الأَول/ديسمبر لمجموعة شعراء. والقارئ شهرئذٍ كان شارل قرم.

في الدعوة إِلى لقاءات السبت في آذار1950/مارس، أقرأ: “السبت 18 آذار/مارس، لقاء بقسمين الأَول مداخلة للدكتور خليل الجر حول ابن خلدون رائد السوسيولوجيا، والقسم الآخر شارل قرم يقرأُ من قصائد أَبرز الرومنطيقيين الفرنسيين المعاصرين. السبت 25 آذار/مارس: لقاء بقسمين: الأَول “عالم النجوم حولنا” مداخلة الأَب العالِم جاك پلاسار مدير مرصد كسارة، مع عرض صوَر من الفضاء الخارجي، والقسم الآخر شارل قرم يقرأُ من ثلاثة شعراء سويسريين.

أَفتح دعوة أُخرى، أيار/مايو 1950، فأَقرأ: محاضرة الدكتور خليل الجر حول الفلسفة المانوية، محاضرة ريمون لوار حول الكاتب الروماني بانايي إيستراتي، شارل قرم يقرأُ قصائد عن السيدة العذراء من العصور الوسطى حتى اليوم، محاضرة رشدي معلوف عن الشاعر ت. س. إليوت حائز جائزة نوبل عامئذ 1950، محاضرة توفيق يوسف عواد عن القصة والرواية في الأَدب اللبناني المعاصر.

هكذا شهرًا بعد شهر كانت اللقاءات تتوالى. يضيق المجال هنا لتعداد أَكثرَ بعد، لكنَّ الشاهد من هذه الشواهد، أَن شارل قرم، عدا مؤَلفاته الشعرية والنثرية، وفي طليعتها رائعتُه “الجبل الملهم”، وإِصداره “المجلة الفينيقية”، كان ناشطًا فريد عصره في تنظيم الندوات الثقافية الأُسبوعية، وفي فتْح صدر بيته وقاعة مكتبته الضخمة لتلك اللقاءات، ما جعله سبَّاقًا إِلى خلق حركة أَدبية شعرية علمية ثقافية عامة في بيروت الثلاثينات والأَربعينات والخمسينات من القرن الماضي، وكانت بيروت حقْبتئذٍ لؤْلؤَة الفكر والثقافة في العالم العربي.

اليوم، مع مؤَسسة شارل قرم، يعود هذا البيت التاريخي إِلى نشاطه الدوري محييًا سهراتٍ أَدبيةً وموسيقيةً وفنية، تلازُمًا مع استفاقة بيروت من غيبوبها بسبب ما مرَّ عليها من أَحداث فاجعة، وعودتها إِلى نهضتها مجدَّدًا لؤْلؤَة الفكر والثقافة في العالم العربي.

  • هنري زغيب هو شاعر، أديب وكاتب صحافي لبناني، مدير مركز التراث في الجامعة اللبنانية الأميركية، مدير “صالون فيلوُكَاليَّا الأدبي”، ورئيس “اللجنة الوطنية اللبنانية لنشر الإبداع اللبناني”. يُمكن التواصل معه عبر بريده الإلكتروني: email@henrizoghaib.com أو متابعته على موقعه الإلكتروني: www.henrizoghaib.com أو عبر منصة (X): @HenriZoghaib

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى