هل يُلَبِّي حزبُ العمّال الكردستاني نداءَ مؤسّسه لحلِّ نفسه؟

كابي طبراني*

من الصعبِ تَجنُّبِ اللجوءِ إلى “الكليشيهات” بعد سماعِ إعلانِ مؤسّس حزب العمال الكردستاني، عبد الله أوجلان، الرجل الذي أدانته تركيا باعتباره إرهابيًا وسجنته لمدة 26 عامًا، عن إلقاء السلاح وحلّ حزبه في الأسبوع الفائت، ولكن كلمات مثل “تاريخي” و”يُنهي عصرًا” قد تكون مُناسِبة بالتأكيد.

تأسّسَ حزب العمال الكردستاني، أطول حركة تمرّد في الجمهورية التركية، في سبعينيات القرن الفائت كحركةٍ انفصالية مُسلّحة بهدف إطاحة الحكم التركي في جنوب شرق الأناضول.

في العقود التي تلت، خاض حربًا قاسية ومريرة مع القوات المسلحة التركية. وقد طاردت مزاعم الفظائع كلا الجانبين، وحتى الآن، من الصعب التحقّق بشكلٍ مستقل من التكلفة الدقيقة للصراع. كل ما نعرفه هو أنَّ مليارات الدولارات أُنفِقَت لشنِّ هذه الحرب، وأنَّ أحياءً في مدنٍ وبلداتٍ وقرى بأكملها دُمِّرت تمامًا، وأنَّ عشرات الآلاف من الناس ماتوا.

والآن يقول أوجلان إنَّ حزب العمال الكردستاني فَقَدَ معناه ويجب عليه أن يُلقي سلاحه ويحلَّ نفسه.

وهذا في الواقع يُتوّجُ تحوُّلاً مُذهلًا بدأ في الثاني والعشرين من تشرين الأول (أكتوبر) من العام الفائت. وكان ذلك عندما صدمَ دولت بهتشلي، زعيم حزب الحركة القومية اليميني المتطرّف في تركيا، المراقبين بدعوته أوجلان إلى حلِّ حزب العمال الكردستاني ــ والسماح له بالحضور إلى البرلمان لإعلان وتسليم رسالته شخصيًا.

وكان هذا هو بهتشلي نفسه الذي كاد أن يستقيلَ من الحكومة في العام 2002، عندما صوّتَ أعضاء البرلمان على إلغاء عقوبة الإعدام وتخفيف حكم أوجلان إلى السجن مدى الحياة. وبعد خمس سنوات رَفَعَ حبلَ المشنقة في البرلمان ليُظهِر أنه ــإذا أُتيحَت له الفرصةــ سوف يشنق أوجلان.

وقد أمضى بهتشلي حياته السياسية في حركةٍ مُتَّهَمة على نطاقٍ واسع بالعنصرية المَنهجية ضد الأكراد، حيث أنكرَ بعضُ أعضائها علنًا وجود الشعب الكردي. وهذا هو السبب في أنَّ دعوته في العام الماضي تركت الجميع، حتى أعضاء حزبه، في حالة من عدم التصديق: هل كان جادًاً؟

يبدو أنَّ الأمرَ كان كذلك. لقد كرّرَ الدعوة في الأسبوع التالي – وأشاد به الرئيس رجب طيّب أردوغان لكسر المُحرَّمات وفتح “نافذة تاريخية من الفُرَص”.

ومنذ ذلك الحين، قام أعضاء حزب الشعوب الديموقراطي المؤيّد للأكراد في تركيا بزياراتٍ مُتعدّدة لرؤية أوجلان في السجن – حيث بلغت الزيارات ذروتها في صورةٍ أعطت العالم لمحةً أولى عن مؤسّس حزب العمال الكردستاني منذ حوالي عقد.

في الصورة، يجلس إلى جانب أعضاء حزب الشعوب الديموقراطي وغيرهم، مُمسِكًا بإعلانٍ من صفحةٍ واحدة تمت قراءته يوم الخميس الفائت. إنها رسالةٌ بصوت أوجلان، مُؤرَّخة قبلَ يومين، تتحدّثُ عن كيف تَغَيّرَ العالم مع نهاية الحرب الباردة – لكن حزب العمال الكردستاني لم يتغيَّر معها.

تقول الرسالة إن تركيا تغيّرت أيضًا، على الرُغم من أنها لم تُشِر أبدًا إلى تركيا بالاسم – تم استخدام كلمة “جمهورية”، وهو تغييرٌ ملحوظ عن “قوات الاحتلال” التي غالبًا ما نراها في أدبيات حزب العمال الكردستاني. وتقول إن قضايا مثل إنكار الهوية الكردية وتنامي حريات التعبير أدت بحزب العمال الكردستاني إلى “غياب المعنى والتكرار الشديد”.

“ولهذا السبب،” يواصل أوجلان، “مثل منظمات وحركات مُماثلة، أكملت حركتنا حياتها وصار إلغاؤها ضروريًا”.

هناكَ فقراتٌ في الرسالة من شأنها أن تُزعِجَ آذانَ العديد من الأتراك – فهو يُبرّرُ تاريخ العنف لدى حزب العمال الكردستاني، على سبيل المثال، قائلًا إنه كان ضروريًا لأنَّ القنوات السياسية الديموقراطية كانت مُغلقة وموصَدة أمام الأكراد. لكنه يُعلِنُ أيضًا عن تغييرٍ صريح في السياسة: لم يَعُد أوجلان يريدُ دولةً قومية كردية منفصلة، ​​أو اتحادًا أو حتى حكمًا ذاتيًا داخل تركيا.

يكتب: “في البحث عن أنظمةٍ وتطبيقات، لا يوجد طريقٌ آخر غير الديموقراطية. لا يمكن أن يكون هناك طريقٌ غيرها. الاتفاق الديموقراطي هو الطريقة الأساسية”.

ينتهي بشكر بهتشلي وأردوغان، وتعليمات صريحة لأعضاء حزب العمال الكردستاني، الذين لا يزال الكثيرون منهم متمركزين في منطقة الحدود التركية-العراقية الجبلية أو في شمال شرق سوريا: “إجمعوا جمعيتكم واتخذوا قرارًا. يجب على جميع المجموعات التخلّي عن أسلحتها، وينبغي على حزب العمال الكردستاني إلغاء نفسه”.

هل تنجح الدعوة؟ من الواضح أنه من السابق لأوانه إبداء أي رأي ــ لأنه ليس من الواضح ما الذي سيحدث بعد ذلك.

أوّلًا، لا يوجد ما يضمن أنَّ أوامر أوجلان بحلِّ الحزب سوف تُطاع. صحيحٌ أنه مُؤسِّسُ الحركة وزعيمها الروحي ـوتُزَيِّنُ صورته الأعلام في مسيرات حزب العمال الكردستاني في كل مكان ـ ولكنه لم يتولَّ المسؤولية منذ القبض عليه في العام 1999. ومن الممكن تمامًا ألّا يُصدّقُ مقاتلو حزب العمال الكردستاني هذه الرسالة أو يعتبرونها خيانة.

ثانيًا، لا نعرف ما الذي سيحصل عليه أوجلان في مقابل رسالته. هناك حديث عن نقله إلى الإقامة الجبرية، سواء داخل تركيا أو في أيِّ مكانٍ آخر. وهناك حديثٌ عن اتفاقٍ بين حكومة أردوغان وحزب العمال الكردستاني لتخفيف القيود المفروضة على استخدام اللغة الكردية في المدارس أو الوصول إلى الخدمات العامة مثل المحاكم.

لم يتم الإعلان عن أيِّ شيءٍ حتى الآن؛ الكثيرون من الأكراد الذين يعتبرون حزب العمال الكردستاني أفضل ضمان لهويتهم لا يريدون إلغاء الحزب بدون أيِّ سبب.

ثالثًا، ليس من الواضح كيف قد يستجيب الرأي العام التركي. إنَّ هذه القضية بالغة الأهمية في تركيا ــفالجنود الذين يموتون في المعارك يوصَفون بالشهداء، وخصومهم بالخونةــ وكثيرون ممن دافعوا عن المزيد من الحقوق للأكراد وُصِموا بالانفصاليين. على سبيل المثال، ردَّ حزب “إيي” (أو الحزب الجيد) القومي المعارض على إعلان أوجلان بتغطية مقرّه الرئيسي بلافتاتٍ سوداء تحمل أسماء الجنود الذين قُتلوا في المعارك.

إنَّ مسألة الثقة سوف تتصدّر كل شيء. وسوف تراقب الدولة والجيش في تركيا لمعرفة ما إذا كان حزب العمال الكردستاني سينزع سلاحه حقًّا؛ ويخشى العديد من الأكراد أن تستجيب الحكومة التركية ليس بالعفو والمزيد من الحريات المدنية، بل بالقمع. وقد تم اعتقال عدد متزايد من السياسيين المعارضين الذين فازوا بمقاعدهم في الانتخابات المحلية في العام الماضي، بمن فيهم أعضاء في حزب الشعوب الديموقراطي، في الأشهر الأخيرة بتهمة الإرهاب. ولا يزال هناك الكثير من بناء الثقة الذي يتعيّن القيام به.

مع ذلك، هناكَ عاملٌ أخير يمكن أن يساعد على تحريك هذه العملية إلى الأمام: المستقبل السياسي لأردوغان نفسه. إنَّ الرئيس التركي في منتصف ولايته الأخيرة. ومن الناحية الدستورية، يجب أن يترك منصبه عندما يتم الدعوة إلى الانتخابات في أيار (مايو) 2028 ــ ما لم يُصوّت البرلمان على تقديم موعد تلك الانتخابات. وإذا حدث ذلك، فيمكن لأردوغان أن يترشّح مرة أخرى. ولا يتمتع حزب الرئيس وحلفاؤه مثل حزب الحركة القومية بالعدد الكافي في الهيئة التشريعية لتمرير مثل هذا الاقتراح ــ ولكن إذا انضم إليهم حزب الشعوب الديموقراطي، فسوف يكون باستطاعتهم فعل ذلك.

يتزامن هذا التحوُّل مع التغيّرات في سوريا، خصوصًا بعد تراجُع موقف النظام السوري. ولطالما كان بشار الأسد من أكبر داعمي حزب العمال الكردستاني، ما ساعده على البقاء. ومع تغير المعادلات الإقليمية، ربما وجد الحزب نفسه في مأزق، ما دفع أوجلان إلى تقديم هذه الدعوة كحلٍّ يتيح له الخروج من الأزمة.

بفضل هذه الخطوة، تدخل المنطقة مرحلة جديدة، وتثبت تركيا مرة أخرى أنها لاعبٌ رئيس قادر على إعادة تشكيل المعادلات السياسية في المنطقة بما يخدم مصالحها.

  • كابي طبراني هو ناشر ورئيس تحرير مجلة وموقع “أسواق العرب” الصادرَين من لندن. ألّف خمسة كتب بالعربية والإنكليزية من بينها “شتاء الغضب في الخليج” (1991)، “الصراع الإسرائيلي-الفلسطيني: من وعد بلفور إلى إعلان بوش” (2008)؛ “كيف تُخطّط إيران لمواجهة أميركا والهَيمَنة على الشرق الأوسط” (2008)؛ و”معاقل الجهاد الجديدة: لماذا فشل الغرب في احتواء الأصولية الإسلامية”، (2011). يُمكن متابعته عبر موقعه الإلكتروني: gabarielgtabarani.com أو عبر منصة “إكس” على:  @GabyTabarani

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى