السلامُ بين إسرائيل ومصر بدأ يَتَصَدَّع
كانت نهاية اتفاقية السلام التاريخية بين مصر وإسرائيل التي وُقّعت في العام 1979 أمرًا لا يمكن تصوّره ذات يوم ــ ولكنها الآن تلوح في الأفق.

ستيفن كوك*
في هذه اللحظة المُمتدة من التاريخ، أصبحت الأحداث التي كانت في السابق لا يُمكِن تصوّرها تقع بانتظامٍ الآن – وقد ينضمُّ عنصرٌ أو بندٌ آخر إلى القائمة قريبًا. فقد بدأ محلّلو وخبراء الشرق الأوسط يتساءلون عمّا إذا كانت معاهدة السلام بين مصر وإسرائيل التي أُبرِمَت في العام 1979 تحت رعايةٍ أميركية ستدوم بعدما أضافت الأشهر الستة عشر الأخيرة من الحرب بين إسرائيل و”حماس” في قطاع غزة توتّرًا جديدًا إلى العلاقة التي كانت غالبًا تحت ضغطٍ علني.
خلال المناوشات السابقة بين مصر وإسرائيل، بذل المسؤولون في كلا البلدين جهودًا كبيرة لضمان سلامة المعاهدة. ولكن هذا الوضع قد يتغيّر في أي لحطة الآن.
في السادس من كانون الثاني (يناير)، نشر مارك زَلّ (Marc Zell)، وهو مُحامٍ أميركي يعيش في إسرائيل، في حسابه على موقع “إكس” أنَّ المصريين نشروا أعدادًا كبيرة من العسكر في شبه جزيرة سيناء، بما في ذلك “أعداد كبيرة من القوات، وبناء حواجز مضادة للدبابات، [و] نشر فرق مدرعة”. هناك الكثير من المعلومات المُضَلِّلة والكاذبة تنتشر على منصة “إكس”، لكن تغريدات زَلّ لفتت انتباهي ليس فقط لأنَّ الحرب في غزة زادت من حدّة الاحتكاك بين القاهرة والدولة العبرية، بل وأيضًا لأنَّ زَلّ على الأرجح يتمتّع بعلاقاتٍ جيدة في كلٍّ من إسرائيل والولايات المتحدة نظرًا لكونه رئيسًا لجمعية الجمهوريين في الخارج في إسرائيل والمستشار العام للحزب الجمهوري في الخارج. لا أقصُدُ أن أُسيءَ إلى أحد، لكن لدي فكرة جيدة إلى حدٍّ ما عن الكيفية التي تعمل بها إسرائيل، ويبدو زَلّ وكأنه من الشخصيات التي ينقل إليها كبار المسؤولين الإسرائيليين معلوماتٍ حسّاسة.
وعندما سألتُ أحد معارفي المصريين عن التغريدة التي نُشِرَت على “إكس”، زعمَ أنَّ كلَّ ما يفعله الجيش المصري في شبه جزيرة سيناء يخضع لموافقة إسرائيل، وأنَّ النشاطَ كان روتينيًا إلى حدٍّ ما. ورُغمَ أنه قدّمَ حجّةً مُقنِعة، فقد كان من الصعب عدم ملاحظة تدهور العلاقات بين مصر وإسرائيل على مدى الأسابيع الستة الماضية. بطبيعة الحال، أدّت وسائل التواصل الاجتماعي إلى تفاقُم هذا التوتّر من خلال صورٍ مُزَيَّفة لدباباتٍ مصرية في أماكن لا ينبغي لها أن تكون فيها ولقطات قديمة من سيناء تزعمُ انتهاكاتٍ جديدة. بل كان هناك مقطع فيديو مُزَيَّف لضابطٍ إسرائيلي يشكرُ علنًا الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي على تعاونه مع إسرائيل. وقد دفع هذا الأمر بالجيش الإسرائيلي إلى إصدارِ بيانٍ يؤكّدُ أنَّ الفيديو مُزَيَّف ويُحذّرُ من أنَّ جهاتَ فاعلة خارجية تسعى إلى تقويض العلاقات المصرية-الإسرائيلية.
من جهةٍ أخرى، لعبت وسائل الإعلام القديمة دورًا أيضًا. في الأسابيع الأخيرة، كان بعض مقدّمي البرامج الحوارية في مصر يَقرَعُ طبولَ الحرب. وكما لاحظ صديقٌ مصري آخر، “تتصرّفُ وسائل الإعلام حاليًا مثل أسلافها قبل حرب العام 1967”. وفي الوقت نفسه، كان المُدَوِّنون الإسرائيليون على وسائل التواصل الاجتماعي يُسيئون إلى سمعة السيسي ويطالبون إسرائيل بعدم ارتكاب الأخطاء نفسها في سيناء التي ارتكبتها في لبنان مع “حزب الله”.
في ظلِّ هذه الخلفية من الهراء على موقع “إكس” والتهكُّم والسخرية من جانب المصريين والإسرائيليين على منصّات الإعلام التقليدية، كان المسؤولون الإسرائيليون يتّهمون المصريين بانتهاك معاهدة السلام. فقد اتّهمَ السفير الإسرائيلي الجديد لدى الولايات المتحدة، يحيئيل ليتر، مصر بارتكاب “انتهاك خطير للغاية” للاتفاقية. وحذّرَ داني دانون، سفير إسرائيل لدى الأمم المتحدة، من أنَّ “انتشارَ القوات المصرية بعد السابع من تشرين الأول (أكتوبر) 2023 يجب أن يدقَّ ناقوس الخطر. لقد تعلّمنا درسنا. يتعيّن علينا مراقبة مصر عن كثب والاستعداد لكلِّ سيناريو”.
إنني أحاول ألّا أكون مثيرًا للذعر، ولكن هناك الكثير من الأشياء التي حدثت خلال الأشهر الستة عشر الماضية والتي كنتُ أعتقدُ في السابق أنها لن تحدثَ أبدًا. إنَّ التوتّر بين مصر وإسرائيل حقيقي تمامًا ـ هذه القصص ليست من نوع العلكة أو أسماك القرش التي يستخدمها “الموساد”.
إنَّ التوتُّرَ بين مصر وإسرائيل ليس مفاجئًا إلى حدٍّ ما نظرًا لإراقة الدماء خلال الأشهر الستة عشر الماضية، ولكن هناك ما هو أكثر من مجرّد شعور الحكومة المصرية بالغضب إزاء العمليات العسكرية الإسرائيلية في قطاع غزة. لا شكَّ أنَّ هناك الملايين من المصريين الذين يشعرون بالانزعاج الشديد والقلق إزاء عدد القتلى والظروف الإنسانية في غزة، ولكن هذا لا ينبغي أن يحجبَ حقيقة مفادها أنَّ الحكومة المصرية كانت مشاركة كاملة في حصار غزة الذي بدأ بعد استيلاء “حماس” على القطاع في العام 2007.
والقضية الأكثر جوهرية هي أنَّ حربَ غزة تلعب دورًا في استياء مصر الطويل الأمد إزاء السلام المُنفصِل الذي دام 46 عامًا مع إسرائيل. لا شك أن مصر استفادت من المعاهدة، ولكن من وجهة نظر الكثيرين من المصريين، فقد سمحت للإسرائيليين ملاحقة مصالحهم في مختلف أنحاء المنطقة بدون أي عائق، في حين أدّى احتضان واشنطن للقاهرة ــالهدف الأساس للرئيس أنور السادات في السعي إلى السلام ــ إلى تحويل مصر إلى مُتَفرِّجٍ في منطقةٍ من المفترض أن تقودها. بعبارةٍ أخرى، لا يحب الكثيرون من المصريين معاهدة السلام لأنها جعلتهم ضعفاء.
وقد أكّدت الحرب في غزة مرارًا وتكرارًا هذا الضعف. كانت الحكومة المصرية عاجزة عن وقف القتال، وتقديم المساعدات الإنسانية للفلسطينيين، ومنع الإسرائيليين من الاستيلاء على ممرِّ فيلادلفيا ومعبر رفح. ولعب المصريون دورًا مهمًّا في التفاوض على وقف إطلاق النار بين إسرائيل و”حماس” الذي بدأ في كانون الثاني (يناير)، ولكنهم كانوا بلا أدنى شك في المرتبة الثانية بعد القطريين. ولا يمكن لنهاية القتال (في الوقت الحالي) أن تمحو حقيقة مفادها أنَّ الحكومة المصرية لم تستطع أن تفعل أكثر من اتخاذ إجراءات رمزية ضد إسرائيل أثناء الحرب، بما في ذلك ما لا يقل عن عشرة قرارات من الأمم المتحدة تنتقد إسرائيل والانضمام إلى قضية جنوب أفريقيا أمام محكمة العدل الدولية.
أدّت الأزمة في غزة إلى إضعاف مكانة السيسي، الذي فقد في السنين العشر الماضية كل بريق شعبي كان يتمتّع به بعد إطاحته الرئيس السابق وعضو جماعة “الإخوان المسلمين” محمد مرسي. ومن الواضح أنَّ عمليات الانتشار في سيناء تُشكّلُ إشارةً واضحة إلى المصريين بأنَّ مصر ليست ضعيفة على الإطلاق وأنَّ القوات المسلحة المصرية “الأسطورية” سوف تحمي مرة أخرى هذه المصلحة الوطنية والشرف المصري. إنَّ تصعيد التوتر مع إسرائيل وتحدّي الإسرائيليين للرد على نشر القوات في سيناء يُشكّلان استراتيجية سياسية سليمة بالنسبة إلى السيسي. وبغض النظر عن النتيجة، فإنَّ السيسي يبدو قويًّا. ما لم تكن هناك حربٌ بالطبع.
أما في ما يتصل بإسرائيل، فقد سعت الحكومة الإسرائيلية إلى الحصول على توضيحاتٍ بشأن عمليات الانتشار في سيناء من خلال القناة القائمة المُتمثّلة في القوة المتعددة الجنسيات والمراقبين ــ ولكن قبل ذلك بوقت طويل، كان بعض الإسرائيليين داخل الطبقة السياسية ووسائل الإعلام يقضي قدرًا كبيرًا من الوقت في دقِّ ناقوس الخطر بشأن تصرّفات مصر. وهذا يثير التساؤل حول ما إذا كان بعض الإسرائيليين يريد تسليط الضوء على القضية ــالتي يزعم المصريون أنها غير حقيقيةــ لإثارة المتاعب للسيسي في واشنطن. فقبل وقت طويل من تحوُّل أنشطة مصر في سيناء إلى قضية، كان هناك محللون وأعضاء في الكونغرس ومراقبون آخرون زعموا أنَّ المصريين لا بُدَّ أن يستقبلوا الفلسطينيين من غزة. وكانت فكرة “ريفييرا غزة” التي أطلقها الرئيس الأميركي دونالد ترامب مجرّد تعبيرٍ صريح عمّا كان هؤلاء الناس يفكرون فيه لبعض الوقت. وهنا تكمن المشكلة التي تجعل التوترات الحالية بين مصر وإسرائيل مثيرة للقلق إلى هذا الحد: فالولايات المتحدة غائبة تمامًا.
كانت معاهدة السلام لعام 1979 ركيزةً أساسية للسياسة الأميركية لمدة خمسة عقود، حيث استبعدت إمكانية اندلاع حرب كبرى بين الدول العربية وإسرائيل، وبالتالي صانت الاستقرار الإقليمي. وحتى لو كان ترامب عازمًا على قلب السياسة الخارجية رأسًا على عقب كما يبدو، فإنَّ أهمية هذه العلاقات يجب أن تكون واضحة بذاتها. هذه هي اللحظة التي يجب أن يحرق فيها مستشار الأمن القومي الأميركي ووزير الخارجية والمبعوث الخاص للشرق الأوسط وقود الطائرات لضمان عدم تفكك العلاقات المصرية-الإسرائيلية. وحقيقة أنهم ليسوا كذلك تؤكّد على ما كان يمكن تصوره ذات يوم ولكنه غير محتمل: لم تعد الولايات المتحدة مرساة للاستقرار.
دعونا نأمل أن يسود العقل والتعقّل في القاهرة والدولة العبرية.
- ستيفن كوك هو كاتب في مجلة فورين بوليسي، وزميل إيني إنريكو ماتي الكبير لدراسات الشرق الأوسط وأفريقيا في مجلس العلاقات الخارجية. أحدث كتاب له، “نهاية الطموح: ماضي أميركا وحاضرها ومستقبلها في الشرق الأوسط”، نُنشِر في حزيران/يونيو 2024. يمكن متابعته على منصة “إكس” على: @stevenacook
- يَصدُرُ هذا المقال بالعربية في “أسواق العرب” توازيًا مع صدوره بالإنكليزية في “فورين بوليسي” الأميركية.
يجب عليك تسجيل الدخول لكتابة تعليق.