موسيقانا… بالجمع المؤَنَّث السالم

هنري زغيب*

لقاءُ صالون “فيلوكاليَّا” الأَدبي مع الباحثة زينة صالح كيَّالي كان كشْفًا مضيئًا على كوكبة نسائية مكرَّسة. أَقول كشْفًا وأَعنيها، لأَننا اكتشفْنا مواهبَ لبنانيةً في التأْليف الموسيقي أَو العزْف لم نكُن نعرفها، أَو عرفناها ضئيلًا.

حديثُ زينة في “فيلوكاليَّا” كان لقطاتٍ وميضةً من كتابها الفرنسي الأَخير “أَعلامُ موسيقى بالمؤَنث” (228 صفحة حجمًا وسَطًا لدى منشورات “غُوتْنِر” – باريس) وهو الجزءُ الحادي عشر من سلسلتها الفرنسية المتخصِّصة “الحياة الموسيقية في لبنان”.

***

لعازفاتنا على البيانو خصَّصَت زينة القسم الثاني من كتابها عن أَربع: وداد مزنَّر (1919-2005: نجمة مهرجان بعلبك للموسيقى الكلاسيكية طيلة 15 سنة)، زْفَارْت سركيسيان (1934-2015: تتلمذَ عليها أَعلامٌ بينهم: عبدالرحمن الباشا ووليد حوراني)، سامية حدَّاد-فلامان (1929-2022: الوحيدة المتزوِّجة بينهنَّ صرفتْها الحياة العائلية عن انصرافها الكامل إِلى البيانو)، ثم الرائعة ديانا تقي الدين (1933-2018، ابنة سعيد تقي الدين الذي كتَبَ عنها: “مَن لم يسمع عزف ديانا فَلْيَقْطَع أُذنيه”.

***

قبل عازفاتنا الرائدات مرَّت بنا زينة على تاريخ الحضور الموسيقي الأُنثوي منذ أَقدَمه: ماريان موزار (1751-1829 شقيقة موزار الكبرى)، فاني مندلسون (1805-1847 شقيقة مندلسون الكبرى)، كلارا شومان (1819-1896 زوجة روبرت شومان)، ثم عازفة الكمان كميليا أُورسو (1840-1902، أَول طالبة عزْف على الكمان يقْبَلها كونسرفاتوار باريس سنة 1851). ومن القرن العشرين تبقى الرائدة ليلي بولانجيه (1893-1918) أَول امرأَة تنال “جائزة روما للتأْليف الموسيقي” سنة 1913. وبقيَت المرأَة بعيدة عن الفضاء الأُوركسترالي (أُوركسترا فيينَّا الفيلهارمونية ما سوى سنة 1997 حتى أَدخلَت إِلى عناصرها امرأَةً تعزف على الهارپ، لافتقار الأُوركسترا إِلى رجل يعزف على هذه الآلة).

***

وفيما خصصت زينة القسم الأَول من كتابها لاثنتي عشْرة لبنانيةً برَزْن في التأْليف الموسيقي، كرَّست القسم الثالث الأَخير لسيدة هي أَيضًا كرَّست عمرها للحياة الموسيقية في لبنان: ميرنا البستاني، أَطلقت سنة 1994 “مهرجان البستان” واستقبلت إِليه كبار أَعلام الموسيقى في لبنان والعالم.

***

هذا التكرُّس للتراث الموسيقي اللبناني تأْليفًا وعزفًا، دأْبُ زينة صالح كيالي منذ عشرين سنة: أَسسَت سنة 2012 “مركز التراث الموسيقي اللبناني” (“مدرسة السيدة” – الجمهور)، وأَنشأَت سنة 2022 “بيت تباريس” (منزلها الوالدي) للسهرات الموسيقية وإِقامة الموسيقيين، وتُلْقي محاضرات، وتشارك في ندواتٍ عن أَعلام الموسيقى في لبنان، بينها أَخيرًا لقاءٌ لدى “مؤَسسة شارل قرم” تحدَّثَت فيه عن الآباء المؤَسسين: ميخائيل مشاقة (1800-1888)، وديع صبرا (1876-1952) والأَخوَين فليفل: أَحمد (1899-1985) ومحمد (1902-1998). وسردَت التيارات المختلفة في الموسيقى اللبنانية النابعة من الفولكلور، ومن التراث الشرقي، ومن التراث الغربي، ومن التكنولوجيا، ومن التراث الديني، ومن موسيقى الجاز، ومن المنابع الغربية الموشَّحة بالاستشراق.

***

أَعود إِلى التكرُّس. وغالبًا ما يقوم حفْظ التراث على مبادرات فردية تبحث عن الإِرث وتلُمُّه وتحفظه وتحافظ عليه، ما يتم مرةً من ذوي المبدع بعد غيابه، ومرات من آخرين مترسِّلين مندفعين يتكرَّسون للإِرث ويحرصون عليه بوسائل ووسائط ومبادرات.

في هذا السياق، تشكِّل زينة صالح  كيالي ريادةً نموذجية في الانصراف والتكرُّس المجاني تَبَرُّعًا بالوقت والجهد.

هذا ما غالبًا تعجز عنه الدولة فتُنقذه المبادرات الخاصة.

هذا ما دائمًا يحفظ خلود الوطن بالحفاظ على إِرث أَعلامه المبدعين.

  • هنري زغيب هو شاعر، أديب وكاتب صحافي لبناني، مدير مركز التراث في الجامعة اللبنانية الأميركية، مدير “صالون فيلوُكَاليَّا الأدبي”، ورئيس “اللجنة الوطنية اللبنانية لنشر الإبداع اللبناني”. يُمكن التواصل معه عبر بريده الإلكتروني: email@henrizoghaib.com  أو متابعته على موقعه الإلكتروني: www.henrizoghaib.com أو عبر منصة (X): @HenriZoghaib
  • يَصدُر هذا النص في “أَسواق العرب” (لندن) تَوَازيًا مع صُدُوره في “النهار” (بيروت).

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى