خريطة ترامب العالمية الجديدة
يشيرُ أوَّلُ رئيسٍ للولايات المتحدة بعدَ مرحلة ما بعد الأُمّية إلى تحدٍّ لم تُواجهه أوروبا منذ جاءت واشنطن لإنقاذها في العام 1941. وقد تلوحُ في الأفق فترة الحرب الباردة وما أعقبها، عندما انضمت الدول الأسيرة السابقة في أوروبا الوسطى والشرقية إلى حلف شمال الأطلسي، باعتبارها فترة ذهبية.

روبرت كابلان*
في خطابٍ نبوي ألقاه في بروكسل في حزيران (يونيو) 2011، حذّرَ وزيرُ الدفاع الأميركي آنذاك روبرت غايتس حلفاءَ واشنطن الأوروبيين من أنه إذا لم يَبدَؤوا في دفع المزيد من الأموال لأمنهم، فقد يصبح حلف شمال الأطلسي يومًا ما شيئًا من الماضي. وأشار غايتس إلى أنه “كان آخر وزراء الدفاع الأميركيين الذين حثّوا الحلفاء سرًّا وعلنًا، وفي كثيرٍ من الأحيان بغضب، على تلبيةِ معايير حلف شمال الأطلسي المُتَفَق عليها في ما يتصل بالإنفاق الدفاعي”.
في ذلك الوقت، كانت خمسُ دولٍ فقط من أصل 28 عضوًا في حلف شمال الأطلسي ــألبانيا، وبريطانيا، وفرنسا، واليونان، والولايات المتحدةــ تنفقُ ما لا يقل عن 2% من ناتجها المحلي الإجمالي على الدفاع سنويًا، كما تعهّدت في العام 2006. وما لم يتغيّر هذا الوضع بشكلٍ كبير، كما قال غايتس، فسوف تكون هناك “شهية متضائلة” للدفاع عن أوروبا بين “الجسم السياسي الأميركي بأكمله”.
التغيير جاء إلى أوروبا لكنه لم يكن سريعًا بما فيه الكفاية. اليوم، يفي ثُلثا أعضاء حلف شمال الأطلسي بمعيار 2%. ولكن في ضوء حرب روسيا في أوكرانيا ومطالبة الرئيس الأميركي دونالد ترمب الحلفاء بزيادة الإنفاق إلى 5%، لا يزال أمام أوروبا طريقٌ طويل لتقطعه. لطالما كان ترامب ساخرًا من حلف شمال الأطلسي. في العام الماضي، قال إنه سيشجّع الروس على “فعل ما يريدونه” بأيِّ دولةٍ عضو في حلف شمال الأطلسي لا تدفع المزيد مقابل دفاعها. وفي الوقت نفسه، قال نائب الرئيس جي. دي. فانس إنَّ الولايات المتحدة قد تتخلّى عن دعم حلف شمال الأطلسي إذا حاول الاتحاد الأوروبي تنظيمَ وقوننة منصّات الأعمال التجارية لإيلون ماسك. ويشيرُ الخلاف حول تخصيصات الميزانية إلى قضية أكثر عمقًا: فكثيرون من الأميركيين، كما يتجلّى في الخطاب الشعبوي لترامب وفانس، لا يهتمون كثيرًا بالدفاع عن أوروبا بعد الآن. ولا ينبغي أن يكونَ التحوُّلُ في مواقف الولايات المتحدة تجاه أوروبا مُفاجئًا. فقد استمرَّ حلف شمال الأطلسي لمدة تقرب من 80 عامًا. إنها فترةٌ طويلة في التاريخ الحديث، وخصوصًا في عصر التغيُّرِ التكنولوجي السريع الذي أثّرَ في المعلومات والاقتصاد والسفر الجوي وأنماط الهجرة والهوية نفسها.
عندما تأسّس حلف شمال الأطلسي بعد فترةٍ وجيزة من الحرب العالمية الثانية، كانت الولايات المتحدة تُهيمن على العالم بأكثر من نصف إجمالي القدرة التصنيعية العالمية. وقد تقلّصَ هذا الرقم إلى حوالي 16٪. في فترة ما بعد الحرب، كان من الطبيعي أن تقودَ الولايات المتحدة وتُمَوّل التحالف الجديد؛ بعد كل شيء، كانت هياكل المدن الأوروبية الضخمة ما زالت تُدخّنُ من القصف الجوي، وكان الاتحاد السوفياتي بقيادة جوزيف ستالين يلوح في الأفق كتهديدٍ مُميت لأوروبا الغربية. على مدى عقود، تطوّرت هذه الديناميكية. لقد بنت أوروبا، التي دفعت الولايات المتحدة ثمن أمنها إلى حدٍّ كبير، دولَ رعايةٍ اجتماعية تُحسَدُ عليها حيث يتمتع المواطنون بالحياة الطيبة. مات ستالين، وحقق الغرب انفراجًا مع السوفيات، وما لبث أن انهارَ الاتحاد السوفياتي في وقتٍ لاحق.
نجا حلف شمال الأطلسي من العقود التي أعقبت الحرب الباردة وولادة الإمبريالية الروسية من جديد -وهي الفترة التي شملت صعود الشعبوية المضطربة وسياسات الهوية في الغرب- إلى حدٍّ كبير لأنَّ التحالف كانَ بقيادة أشخاصٍ لديهم ذاكرة قوية للحرب العالمية الثانية وسنوات الحرب الباردة المُبكرة أو نَشَؤوا مع أشخاص أُعجِبوا بهم. لكن هذه الذاكرة التاريخية الحيّة تتبخّر. وفي هذه العملية، أعاد الأميركيون اكتشافَ جانبٍ أقدم وأكثر قدمًا من هويتهم ــ جانبٌ أهمله الأوروبيون لفترة طويلة للغاية. لطالما عرفت أوروبا أنَّ الولايات المتحدة دولة كبرى تواجه المحيط الهادئ فضلًا عن المحيط الأطلسي، ولكنها لم تستوعب هذه المعرفة بالقدر الكافي للتأثير في سلوكها.
لقد تشكّلت هوية الولايات المتحدة، منذ أوائل القرن العشرين على الأقل، بفعل ظاهرتين عريضتين: إحداهما جغرافية والأخرى ويلسونية (نسبة إلى الرئيس وودرو ويلسون). ويبدو الجانب الجغرافي واضحًا، ولكن بالنسبة إلى كثير من الناس ــوخصوصًا النُخَب الأوروبيةــ فهو ليس كذلك حقًّا.
إنَّ المنطقة المعتدلة في أميركا الشمالية، والتي تضم الولايات المتحدة، مُقَسَّمة بشكلٍ مثالي لتكون أُمّة، مع موانئ عميقة المياه على طول الساحل الشرقي وطرق عبر جبال الأبلاش إلى التربة الغنية الشاسعة في البراري. نشأت الصحراء الأميركية الكبرى التي تعاني من شحّ المياه، والمعروفة الآن باسم السهول الكبرى، كحاجزٍ طبيعي حقيقي، ولكن تمّ بناءُ خط سكة حديد عبر الولايات لنقل السكان عبر جبال روكي إلى المحيط الهادئ. لقد خلقت الجغرافيا أُمّةً مُتماسكة منفصلة عن العالم الخارجي بمحيطين، وكان هناك الكثير مما يجري داخلها -بكل مشاكلها وإمكانياتها- لدرجة أنَّ بقيّةَ العالم يمكن أن تظل غامضة أو مجهولة.
مع ذلك، بمجرّد الوصول إلى المحيط الهادئ، لم يكن هناك ساحلٌ واحدٌ بل ساحلان يجب مُراعاتهما، ناهيك عن ساحل الخليج بين فلوريدا وتكساس. وقد فتح هذا خطوطَ اتصالٍ بحرية كبيرة لكل من أوروبا وآسيا ومَكّنَ من التجارة القوية مع العالم الخارجي.
وهنا يأتي الجانب الآخر من الهوية الأميركية: الويلسونية ــ وهي اختصارٌ للإيديولوجية التي ترى أن تحقيقَ الحرّية بعيدًا من سواحل الولايات المتحدة يُشَكّلُ ضرورةً أساسية لأمن البلاد. ورُغم أنَّ وودرو ويلسون، الرئيس الأميركي الثامن والعشرون، فَشلَ في إدخال الولايات المتحدة في نظامٍ دولي بعد الحرب العالمية الأولى، فقد وضعَ هدفًا تسعى البلاد إلى تحقيقه ــ تمامًا كما بدأت السفن البخارية والطائرات في تقريبها كثيرًا من أوروبا. ولقد استغرق الأمر الحرب العالمية الثانية وما تلاها، والتي جعلت واشنطن القوة الأبرز في العالم، لتحقيق الهدف الويلسوني المتمثّل في إقامةِ معقلٍ للحرية والديموقراطية في جُزءٍ كبير من القارة الأوروبية.
لكن على الرُغم من أنَّ كلَّ هذا بدا واضحًا ومرغوبًا فيه في سنوات ما بعد الحرب، فإنه لم يكن طبيعيًا تمامًا من الناحية الجغرافية. فقد تطلّب الأمرُ معرفة التضحيات التي قدمتها الولايات المتحدة من أجلِ عالمٍ أفضل، إلى جانب القرابة التاريخية القائمة على جذور واشنطن الأوروبية ــ جذورٌ فلسفية أكثر من جذور الدم والتربة. وكان كلُّ هذا يتطلّب القراءة، وهو شيءٌ تعتبره النخب أمرًا مفروغًا منه ولكن لا ينبغي لها أن تعتبره كذلك. فبعد مرور ثمانية عقود، لا يمكن تقدير هذا التقليد إلّا من خلال الكتب والتعليم، لأن الذكرى الحية لإنشاء التحالف الأطلسي قد ولت، تمامًا كما تتلاشى الحرب الباردة من الوعي.
ترامب ليس وريث هذا التقليد. فهو لا يقرأ حقًّا. إنه متعلّم ما بعد القراءة ــ أي أنه موجود في عالم وسائل الإعلام الاجتماعية والهواتف الذكية ولكنه لم ينغمس في دراسة التاريخ السردي، حتى بشكلٍ سطحي.
وعلى هذا فهو لا يُقدّرُ ملحمةَ ما بعد الحرب في الغرب. إنَّ “الناتو” بالنسبة إليه مجرّد اختصار وليس دلالة على التحالف العسكري الأكبر على الإطلاق الذي أقامته البشرية، والذي نشأ عن النضال ضد الفاشية النازية. ومن المرجح أنه لا يعرف شيئًا عن ميثاق الأطلسي ــالذي وقعه الرئيس الأميركي فرانكلين روزفلت ورئيس الوزراء البريطاني ونستون تشرشل قبالة سواحل نيوفاوندلاند في كندا في آب (أغسطس) 1941ــ والذي وضعَ رؤيةً مُلهِمة لعالم ما بعد الحرب، أو عن بناءِ نظام ما بعد الحرب على أيدي ديبلوماسيين ورجال دولة أميركيين عظماء، مثل أفريل هاريمان وجورج كينان.
لقد بدأت النخبة في السياسة الخارجية الأميركية اكتساب الخبرة على هذا التاريخ المُلهِم. ومن المرجح أنَّ ترامب وأتباعه ليسوا على دراية بالكثير من هذا. وبسبب تطوُّرِ التكنولوجيا، فقد لا يكون آخر رئيس من نوعه.
بما إنَّ ترامب لا ينتمي إلى التاريخ، فليس لديه سوى الجغرافيا ليعتمد عليها. فهو يتخيّل الولايات المتحدة كقارة قائمة بذاتها، ويُسجّلُ القربَ النسبي لأماكن مثل غرينلاند وقناة بنما، واللتين تعهّد بالاستحواذ عليهما. في ذهن ترامب، أنَّ غرينلاند وقناة بنما هما امتدادان عضويان لمنطق الجغرافيا الأميركية، وخصوصًا في عصرٍ من المرجح أن يشهد المزيد من النشاط البحري في القطب الشمالي.
وهناكَ عاملٌ آخر ينبغي مُراعاته وهو أنَّ التكنولوجيا كانت تعمل على تقليص الجغرافيا نفسها. وهذا تغييرٌ من السهل تجاهله، لأنه كان يحصل بشكلٍ تدريجي للغاية. فالأزمات في جُزءٍ من العالم يمكن أن تؤثر في الأزمات في أجزاء أخرى كما لم يحدث من قبل. ويرى العقلُ المُطّلع على التاريخ هذا التطور كسببٍ يدفعُ الولايات المتحدة إلى تعزيز التحالفات في مختلف أنحاء العالم. لكن في النظرة العالمية الأكثر بدائية وحتمية لترامب، فإن هذا هو الوقت المناسب لتعزيز مجالات النفوذ الإقليمية في عالمٍ أكثر ضيقًا والذي سوف يظل في صراعٍ دائم.
يبدو أنَّ ترامب يُفكّر في إنشاء أميركا الشمالية الكبرى، من قناة بنما إلى غرينلاند، مع خضوع كندا للولايات المتحدة. والآن، وفقًا لأسطورة ترامب، بدأ المصير الواضح يكتمل: فما كان يعني ذات يوم غزو المنطقة المعتدلة في أميركا الشمالية من الشرق إلى الغرب يستلزم الآن غزوًا من الشمال إلى الجنوب. ومحاولة ترامب لإعادة تسمية خليج المكسيك باسم “خليج أميركا” تقول وتختصر كل شيء.
أمّا بالنسبة إلى أوروبا، فهي أصبحت أضعف وأكثر انقسامًا، وتُهدّدها روسيا من الشرق والاضطرابات السياسية ردًّا على الهجرة من الشرق الأوسط وأفريقيا إلى الجنوب. وكما كتبتُ في كتابي الصادر في العام 2018 بعنوان “عودة عالم ماركو بولو”، “مع اختفاء أوروبا، تتماسك أوراسيا”. وشرحتُ أنَّ أوروبا سوف تندمج في نهاية المطاف مع نظام القوة الأوراسي. وقد أكّدَت الحرب في أوكرانيا، التي جلبت روسيا إلى تحالفات أعمق مع الصين وإيران وكوريا الشمالية، هذه النظرية. في عالم اليوم الأصغر، لا تستطيع أوروبا أن تفصلَ نفسها عن الاضطرابات في أفرو-أوراسيا، ما يجعلها أقل قيمة في خريطة ترامب الجديدة. هذا ما يحدث عندما تموت الويلسونية.
لسنواتٍ عديدة، كان الأوروبيون قلقين بشأن اهتمام الولايات المتحدة المُفرِط بالصين وبقية شرق آسيا. المشكلة أعمق من ذلك. يبدو أنَّ ترامب يرى الصين كقارة وكتلة قوة خاصة بها، تمامًا مثل الولايات المتحدة. قد يخوض الرئيس الأميركي حربًا تجارية مع الصين، أو قد لا يفعل. قد يحاول حتى تحسين العلاقات مع بكين. والنقطة هنا هي أنَّ الصين تُمثّلُ من وجهة نظر ترامب أرضًا مُقسّمة وفقًا للمناطق ــ في حين أنَّ أوروبا، على الرغم من وجود حلف شمال الأطلسي والاتحاد الأوروبي، ليست متّحدة بالقدر الكافي لكي تكون ذات قيمة كبيرة.
إنَّ ترامب يكره النُخَب ومشاريعها، وحلف شمال الأطلسي هو المشروع النخبوي النهائي. ولو أخذ أعضاء التحالف توبيخ غايتس على محمل الجد في العام 2011 ورفعوا ميزانياتهم الدفاعية في وقت أقرب بكثير، لكان ترامب شعر الآن بشكل مختلف. وحتى لو لم يفعل ذلك، فإنه على الأقل لن يكون لديه سلاح ميزانيات الدفاع الأوروبية الصغيرة نسبيًا لاستخدامها ضد أعضاء الناتو، وهو ما من شأنه أن يضعف حجته بشكل خطير.
في الوقت نفسه، يشيرُ أول رئيس للولايات المتحدة بعد مرحلة ما بعد الأمّية إلى تحدٍّ لم تواجهه أوروبا منذ جاءت واشنطن لإنقاذها في العام 1941. وقد تلوحُ في الأفق فترة الحرب الباردة وما أعقبها، عندما انضمت الدول الأسيرة السابقة في أوروبا الوسطى والشرقية إلى حلف شمال الأطلسي، باعتبارها فترة ذهبية.
- روبرت كابلان هو باحث ومُحلل سياسي أميركي ومؤلف كتاب “الأرض الخراب: عالم في أزمة دائمة”. وهو يشغل كرسي روبرت شتراوس هوبي في الجغرافيا السياسية في معهد أبحاث السياسة الخارجية.
- يصدُرُ هذا المقال بالعربية في “أسواق العرب” توازيًا مع صدوره بالإنكليزية في “فورين بوليسي” الأميركية.
يجب عليك تسجيل الدخول لكتابة تعليق.