في ذاكرة إِدمون رزق
هنري زغيب*
كان ذلك بعد ظُهر الأَحد 18 آذار (مارس) 1973، في “والدورف أَستوريا” (أَحد أَفخم فنادق أَميركا حقْبَتَئِذٍ). والاحتفال الكبير: احتفاءٌ باليوبيل الماسي (1898-1973) لتأْسيس جريدة “الهدى” النيويوركية.
يومها، كان بين الخطباء النائب (منذ 1968) إِدمون رزق. أَلقى كلمةً باسم المجلس النيابي اللبناني، كانت شمسَ ذاك الاحتفال. شعَّ بها ذاك الخطيبُ الذي لم يكُن بلغَ الأَربعين بعدُ، لكنه اختصرَ في خطبته أَربعيناتٍ من مواسم الـمُهاجرين إِلى أَميركا، وأَظهر كيف حيثما حلُّوا هناك، مَلَؤوا الـمَهاجِر من حضارة لبنان اللبناني.
لاحقًا روى لي صاحب “الهدى” فارس أسطفان أَصداء ذاك النهار النيويوركي. فهو كان يومها حديث العهد بشراء الجريدة من ماري مكرزل (ابنة سلُّوم مكرزل الذي تولَّى “الهدى” سنة 1952 بعد غياب شقيقه نعوم مؤَسِّسِها في فيلادلفيا سنة 1898 قبل نقْلها إِلى نيويورك سنة 1902). وكلَّما كان فارس أسطفان يستذكر الاحتفال، يُردّدُ لي مقاطع لَمَّاعة من خطاب إِدمون رزق، ويشرح لي عن وقْعه في الحضور الرسمي ألّكان لبنانيًّا وأَميركيًّا على أَعلى مستوى.
ذكرتُ هذا الاسترجاع وأَنا أُتابع، من نقاهتي الأَخيرة، احتفاءَ جامعة الروح القدس-الكسليك بكبيرنا إِدمون رزق، لإِيداعه في عهدة مركز “فينيكس” لديها تراثَه المكتوبَ (مخطوطاتٍ ومخطَّطات)، والمطبوعَ (مقالاتٍ، مقابلاتٍ، وثائقَ)، والصوتيَّ (80 ساعة تسجيلات صوتية)، والبصَريَّ (200 شريط فيديو). وما أَغناهُ وأَغنانا به، محفوظًا لدى الجامعة كما يليق بالإِرث النفيس، ذاكرةً تُوَثِّق لنا لبنان الأَدبي (أَنقاهُ)، والسياسيّ (أَرقاهُ)، والاجتماعي (أَبقاهُ).
حين أَهداني “اثنَي عشَريَّتَه” (مجموعة كتبه الاثني عشَر مجلَّدة خضراءَ بأَناقة)، قال لي: “هي ذي فلْذة من عمري، وتليها أُخرى”. وكبيرًا كان بها فرحي لإِغناء مكتبتي وعقلي وفكري وثقافتي بنتاج مَن كان نائبًا سابقًا ووزيرًا سابقًا وما زال الأَديبَ الدائمَ بإِشراقةٍ نتعلَّم في وهجها صوغَ الجمال في نحت الكلمات.
في كتابه الأَول “رنين الفرح” (1958، منشورات “حلقة الثريَّا”، مع مقدمة من بولس سلامة ورسوم بالفحم من قيصر الجميِّل)، نفثاتٌ دافئة إِلى حبيبته رينيه (زوجته لاحقًا). صاغ فيها كلماته بحذاقة العطَّار في ميزان الرحيق، وبراعة الصائغ في تأَنُّق الحِلْيَة. ولم تفارقْه بعدها هذه الأَناقة في كل ما تلا، حتى في مساحات كتاباته السياسية (افتتاحيات جريدة “العمل”، خُطَبه البرلمانية، مقالاته الفكرية والأَدبية والاجتماعية، …)، حتى لهُو الحرَفيُّ الصَناع، والمتَخيِّر الدَؤُوب، والنَقَّادة الطُلَعَة.
ومنذ “رنين الفرح” إِلى اليوم، ما زال رنينُ نحته الجماليّ يتردَّد في كلماته، مكتوبَةً أَو مرتَجَلَةً أَو مخاطِبَةً، لكأَنَّ العمر يمشي حدَّه لا فيه، فنبقى أَمامه في حضرة شابٍّ تسعيني يُمسك بالربيع من غاردينياته الأُولى.
هنيئًا له تَوَفُّرُ مَن في أُسْرته بَحَثَ وجمَعَ وبَوَّبَ وفَهرَسَ وولَّفَ ووضَّبَ، وهَيَّأَ بإِشرافه المباشر كلَّ هذه الإِرث المعتَّق من 70 سنة في أَنصع الخوابي الأَصيلة، ليَزيدَ أَدبَ لبنان اللبناني تَقَطُّرَ قولٍ وتأَنُّقَ كتابة.
هوذا اليوم “أَبو أَمين” (وهذه مناداتُه الشخصيةُ الأَغلى على قلبه) يُصغي في صمته إِلى أَوراق الذكريات، مطمئنًّا أَنْ باتت في أَمانِ مَن سيُهيِّئُها زادًا لأَجيالٍ ستأْتي فتَقْرأُ فيها ذاكرةَ لبنان اللبناني في أَصفى جمالاته.
طوبى لنا ما فيه من زادٍ مبارَك.
- هنري زغيب هو شاعر، أديب وكاتب صحافي لبناني، مدير مركز التراث في الجامعة اللبنانية الأميركية، مدير “صالون فيلوُكَاليَّا الأدبي”، ورئيس “اللجنة الوطنية اللبنانية لنشر الإبداع اللبناني”. يُمكن التواصل معه عبر بريده الإلكتروني: email@henrizoghaib.com أو متابعته على موقعه الإلكتروني: henrizoghaib.com أو عبر منصة إكس على: @HenriZoghaib
- يَصدُر هذا النص في “أَسواق العرب” (لندن) تَوَازيًا مع صُدُوره في “النهار” (بيروت).